العطش الاقتصادي

 


 

د. حسن بشير
14 November, 2011

 


هل يستطيع الذهب ارواء العطش الذي يعاني منه الاقتصاد السوداني بعد ان فقد عائدات البترول التي كانت تشكل المصدر الرئيسي الذي يضخ الدماء في عروقه ويمده باكسير الحياة، طيلة عقد كامل من الزمان؟ بالطبع يمكن ان يكون التنقيب عن الذهب عاملا مساعدا باعتباره مصدر رئيس لتكوين الاحتياطات والدعم المالي والنقدي للقدرة الاقتصادية للدولة، لكن الذهب وبالشكل الراهن لتعدينه لا يمكن ان يحل المشكلة الاقتصادية التي يعاني منها السودان.
مكمن العطش الاقتصادي يوجد في الجوانب المالية والنقدية وقدرة القطاع الخاص. في ما يتعلق بالسياسة المالية فهي مواجهة بتحدي ايجاد مصادر ايرادات حقيقية لتمويل الانفاق العام. تلك المصادر من المفترض ان تعتمد علي موارد حقيقية سواء ان كانت ضريبية او غير ضريبية. الضريبية منها تبني علي طاقة ضريبية مستمدة من قيم مضافة تضخ عبر القطاعات الاقتصادية المختلفة سواء ان كانت موجهة للاستهلاك الداخلي او التصدير. اما فرض ضرائب اضافية خصما علي الدخل او الاستهلاك دون حساب اقتصادي رشيد فسيزيد من تعقد المشكلات التي يعاني منها الاقتصاد السوداني، خاصة اذا ما تم فرض مزيد من الضرائب والرسوم التي تزيد من تكاليف الانتاج من جهة وتقلص من القدرة علي الاستهلاك من الجانب الاخر ومن اهم هذا النوع هو ما يدور عنه الحديث حول رفع (الدعم) عن المشتقات البترولية، الوصف الملطف لرفع اسعارها. بالرغم من صعوبة استقطاب الايرادات الحكومية من مصادر حقيقية الا ان هذا الشرط، حتي اذا تحقق فلن يكون كافيا لتعافي النشاط الاقتصادي الا في حالة توجه الانفاق العام نحو التنمية والخدمات الاجتماعية.
فيما يتعلق بالجوانب النقدية فهناك عطش حاد في السيولة يزيد من شدته نقص مصادر النقد الاجنبي وتقلص ثقل الاستثمار الاجنبي في الناتج المحلي الاجمالي، بعد فقدان الاستثمارات في قطاع البترول. في هذا الوضع فان توفير السيولة اللازمة للنشاط الاقتصادي بالعرض النقدي المناسب دون الاخلال بالتوازن النقدي وعوامل الاستقرار الاقتصادي خاصة في ما يلي معدلات التضخم ومقدرة الاقتصاد علي تحقيق نمو حقيقي، يشكل رافعة اقتصادية ضرورية لخروج الاقتصاد من نفق الازمة الممتد امامه. هنا يلعب الجهاز المصرفي دورا رئيسيا من حيث القدرة علي استقطاب الودائع وتوظيفها في تمويل انشطة الاقتصاد الحقيقي، لكن القدرة المالية للمصارف وملاءتها تعاني من نقص الموارد وتدني كفاءة التوظيف بحكم الوضع الاقتصادي السائد من نقص في الدخول لا يوفر ميلا نحو الادخار، الارتفاع المستمر لمعدلات التضخم الامر الذي يضر بالدائنين وتناقص قيمة الجنيه السوداني، يقابله نقص في احتياطات النقد الاجنبي. يبدو ان استقطاب الديون الخارجية والتمويل الاجنبي من الخيارات الضرورية في هذا الوضع اذا توفرت البيئة الملائمة لها مع ضرورة التوظيف الرشيد بمردوده الاقتصادي والاجتماعي.
اما فيما يتعلق بدور القطاع الخاص فالامر يعتمد علي قدرته علي توليد قيم مضافة حقيقية مستندة الي انشطة حقيقية في الزراعة واقامة مجمعات زراعية صناعية، المساهمة بشكل فعال في تطوير وترقية القطاع الصناعي والخدمي اضافة للانشطة التجارية الداخلية والخارجية خاصة مع دول الجوار والتكتلات الاقتصادية الاقليمية.
كيف يمكن اذن الوصل الي تحقيق  تلك الاهداف؟. يمكن التذكير مرة اخري بالدعوات لاتباع خطي الدول الناشئة او ما اصبح يعرف بدول البريكس (BRICS)، التي تضم كل من الصين، روسيا، الهند، البرازيل وجنوب افريقيا.لقد حققت هذه الدول نجاحا حقيقيا في النمو الاقتصادي وتحديث بنيتها وهياكلها الاقتصادية بالتوجه نحو قطاعات الانتاج الحقيقي. استطاعت هذه الدول امتصاص صدمة الازمة المالية العالمية بشكل فعال وقد بنت احتياطات ممتازة قياسا علي الازمة التي تعاني منها دول الاتحاد الاوربي وامريكا. تتصاعد الان دعوة هذه الدول لانقاذ اوربا والاستثمار في صناديق الانقاذ المخصصة لذلك الهدف. تعاملت تلك الدول بذكاء مع الواقع الاقتصادي السائد في الدول الرأسمالية الكبري واستثمرت فيه دون الخوض في التهكم والشماتة العاطلة والاحلام. توقع صندوق النقد الدولي في يوم 11 نوفمبر الجاري ان دول البريكس ستستمر في تحقيق النمو الايجابي في هذا العام والعام القادم وهو ما ستفتقر اليه العديد من الدول الرأسمالية الكبري. توقع الصندوق نمو الاقتصاد الصيني باكثر من 9%، الهند باكثر من 8%،روسيا 4.8%،  بل حتي جنوب افريقيا العضو الجديد في المجموعة ستحقق نموا يتجاوز 3.5%، ليس هناك اخبار افضل من هذه في الوضع الاقتصادي العالمي السائد اليوم، خاصة اذا كانت تلك التقديرات خارجة من الصندوق الذي لا يكن ودا كبيرا لمعظم بلدان البريكس.
للذين يتحدثون عن اقامة نظام اسلامي بديل فمن المفترض ان يكون هذا النظام ملهما ويحتذي به باعتبار ان الاقتصاد هو عصب الدولة الحديثة بغض النظر عن التوجه العقائدي. من المعروف علي نطاق واسع في الادبيات الاقتصادية ان الاسلام قد اتاح حرية امتلاك مصادر الثروة باعتبار ان المال له قيمة عالية في المجتمع ومكانة مؤثرة فيه، اذ به وعليه تقوم حياة الناس والدولة والمجتمع (الامة)، يسير ذلك جنبا الي جنب مع القيم الروحية. من هنا حض الاسلام علي ضرورة تكسب المال والانتفاع به . في هذا المجال نجد ان الاصل هو ان تحصيل الاموال يقوم اساسا علي الزراعة والصناعة والتجارة  مع الوضع في الاعتبار – حاجة المجتمع المادية – الامر الذي يعتبر شرطا ضروريا لتطور المجتمع وتقدمه عبر اشباع الحاجات المادية للامة. هذا السياق يتفق تماما مع دعوات الاستثمار في قطاعات الانتاج الحقيقية وهو ما يعود اليه العالم اليوم بعد الازمات الطاحنة التي تسببت فيها الراسمالية المالية والطفلية.
هذا هو ما يمكن اضافته والمساهمة به لدول العالم والترقي في الاداء بافضل النتائج، وصولا الي مستوي (البريكس) او اكثر، لكن هذا الشرط لن يتحقق الا بارواء الحاجات العامة للشعب التي تعاني اليوم من جفاف شديد وشظف في العيش.
hassan bashier [drhassan851@hotmail.com]
/////////////

 

آراء