البروف :ذِكرُ ما بعد الممات

 


 

 

كيف لا

هي بوادر أول الشتاء . وأوائل الشتاء معلوم مداخل الحزن منها ، ولكن اجتماعها ببواكير اليوم الأول من العيد جعل من الصعب  تصديق ارتباط الزمنين برحيل البروفيسور محمد هاشم عوض . ربما خالج بعض طلابه وأهله ومعارفه من أسرة جامعة الخرطوم كلية الإقتصاد بعض ضجر وحزن قبل أن ينعيه الناعي ، وربما زاد عويل رياح الشمال الباردة الجافة التي عزفت لحن الوحشة من حجم المصيبة.
بدأ البروف مشواره الأكاديمي مع جامعة الخرطوم منذ أن نال درجة البكالوريوس في الآداب وبعدها تخصص في الإقتصاد بمدرسة لندن للدراسات الإقتصادية ثم تقلد العديد من المناصب في جامعة الخرطوم منذ أوائل العام 1992م  حيث كان يعمل أستاذا للإقتصاد فيها . كما أنه عمل في مجلس الشعب في سبعينيات القرن الماضي وأميناً للجنة الإنماء والخدمات العامة في الاتحاد الاشتراكي السوداني .عمل وزيراً لوزارة التجارة والتعاون والتموين في عهد الرئيس الأسبق نميري .وعن أدواره الإقليمية فقد عمل رئيساً للإقتصاديين السودانيين والاقتصاديين العرب ورئيساً لبنك التعاون والتنمية الإسلامي ومستشار لعدد من المؤسسات الإقتصادية الأفريقية والعربية.
أذكر أن فترة وجود البروف في جامعة الخرطوم منذ العام 1992م هي نفس الفترة التي بدأنا فيها تعليمنا الجامعي في كلية الإقتصاد . وقد كانت من أوائل التعليقات والملاحظات التي يبديها الطلبة الجدد هي تلك المقارنة بين البروفيسور محمد هاشم عوض وشقيقه البروفيسور محمد صفي الدين عوض  .فما كان يتميز به البروف محمد هاشم هو مظهر أفرنجي وابتسامة واسعة لا تفارق محياه ، بينما تعلو سيماء البروف محمد صفي الدين مظاهر الصوفية والحرص على ارتداء الجلباب السوداني وبعض مظاهر التدين الواضحة. وحين يبادر البروف محمد هاشم هاشاً باشاً بالتحدث إلى الطلبة في شؤون دراستهم أو حديثاً عاماً ، يركض الطلبة خلف محمد صفي الدين ليسألوه سؤالاً واحداً في المادة استعصى عليهم فهمها ولا يزيدون.
رحل البروف وهو فقير لا يملك بيتاً ، ولكنه أغنى ممن طالبوه بإخلاء منزل الجامعة وهو بذلك  لم يكن يملك من حطام الدنيا إلا احترام الناس وتقدير طلابه الذين قام أحدهم بتوفير مسكن له حسب ما توارد بين طلابه من كتابات عن حالته وأخباره. وإن صح هذا الخبر فإن هذا الطالب الوفي لأستاذه هو الفائز بينما خسرت أجهزة الدولة ومؤسساتها الأكاديمية .
منذ أن أثيرت قبل سنوات  قضية سكن البروف وتأخر صحته مع عدم المراعاة لعمره الذي أفناه في التعليم الجامعي وما فوقه ، لم تتحرك الدولة لتزيل اللوم الواقع عليها بطرده من منزل الجامعة ، ولكن انتظرت لحين مماته لتورد خبراً في سياق باهت لا يليق بعالم مثله . مجرد خبر عن الموت أذاعته وكالة الأنباء الرسمية "سونا" ولكن ما حدث في حياته لم يتم إيراده لأنه لا يليق بحياة أيّ كائن كان.
مآثر البروف الراحل محمد هاشم عوض لا تُعد ولا تُحصى ولكننا في زمان يرتفع فيه أولوا الجاه والنعمة درجات على العلماء ،فتنعي الدولة أبو الإقتصاد السوداني في بضعة سطور بينما تُدشن الصفحات في رحيل من صنع نفوذهم مال وجاه وسلطة زائلة.
الخسارة كبيرة والفقد أكبر للضمير الإنساني السوداني الذي أضحى كرجال دولته يلقي باللائمة في عدم تقديم الوفاء لأهل والوفاء وتكريم من يستحقون التكريم ، على السياسة .  وهو لا يعدو أن يكون نوعاً آخر من نظرية المؤامرة التي لا يرتاح معها الضمير ، كما أنها لا تُعفي من اللوم والعتاب. فما الذي كان يمنع قيام مؤسسات المجتمع المدني والجمعيات غير الحكومية بالوفاء للمبدعين والأكاديميين عندما تقعد مؤسسات الدولة عن واجبها .
إن الموت لحقٌّ ولكنه لم يغيّب البروفيسور محمد هاشم عوض بقدر ما أظهر سُمك الغشاوة على أعين مجتمعنا ، فبان به موت الضمير وانفضحت معه محاكاة العاجزين عن الوفاء .
عن صحيفة "الأحداث"
moaney [moaney15@yahoo.com]

 

آراء