في حُبِّ أمريكا

 


 

 


كيف لا

إن كنتُ أحبُّ أمريكا فغيري كُثُرٌ. فحبي لها لن يضير سيادة السودان في شيء ولكن ما يضيرها حقاً وصدقاً هو ما كشفت عنه تسريبات ويكيليكس التي ملأت الدنيا وشغلت الناس ، عن بوح رسمي لبعض رموز الحكومة قبل سنوات قليلة بحب أمريكا.تلك التسريبات ضربت في عمق إيمان الشعب السوداني المتيقن من أن حكومته لا تكره في الدنيا غير شيء اسمه أمريكا ، وعكست في نفس الوقت مدى الخذلان في علاقة يكون فيها الحب من طرف واحد وخفي.
من قبل تم تمليك مفهوم تضليلي للناس يصوّر أمريكا بشكل يثير الرعب ، وبأنها الوصولية صاحبة المصالح.وهذا يُعدّ أحد أهم أبواب التضليل التي ينْفذ من حبكتها الخلل في اتخاذ المواقف سواءً أكانت متعصبة أو مرنة . أهمّ ما في تلك التسريبات أنها كشفت عن  مواقف اتخذتها الحكومة ضد الغرب ، كان الناس فيما مضى يعتبرونها عزة غريرة بالنفس أو سوء في ممارسة السياسة الدولية ، ولكن الصدمة الكبرى والتي جعلت من الشك يقيناً هو أنه إذا وقعنا في حبّ العدو فإننا نقسم بحياته.
ولو رجعنا قليلاً للوراء لرأينا أن تعبير سيادة الدولة كاد أن يكون هو التعبير الأكثر تداولاً في أدبيات السياسة السودانية،وساد التعبير في الخطاب الرسمي حتى ظننا أن "هيغل" يسعى بيننا.وحسب بيان هذا الفيلسوف الألماني فإن الدولة هي مجال الغايات الكلية والمصلحة المشتركة ولذلك هي فكرة عقلية فوق الجميع. وحسب مراجعته في ذات الإطار بأنها تكتسب علويتها من القانون ، لأن القانون وتضحية الأفراد بأنفسهم من أجل الفكرة الكلية هو اجتياح للأهواء .
وبدفاع الحكومة الاحترازي عن سيادة الدولة فإنها تكون قد آمنت جزئياً  بما يمكن أن يحدث من تدخل في شؤون البلد الداخلية تحت مختلف التهم ابتداء من حقوق الإنسان والأقليات والمهمشين وضحايا الحرب في دارفور والنزاعات في أقاليم السودان المختلفة . هذا يعنى أن نظام الدولة الوطنية الحديثة قد ولى وجاء من بعده نظام يخضع لواقع التحولات في السياسة الدولية والنظام العالمي الجديد.
تلك التسريبات والإعلام الحكومي المضاد وردود الأفعال حولها ما كان لها أن تكون ذات بال لولا  الاهتزازات العنيفة التي مرت بها المنطقة العربية  ، والتي ساهمت في أن تعيد الوعي لشعوب هذه الدول. فقد تغيرت النظرة للعالم ، لم يعد هو ذاك العالم البعيد وإنما بدا أقرب من حكومة البلد إلى نفسها. الشيء الأكثر أهمية هو أنه في ظروف غير الظروف التي ظهرت فيها هذه التسريبات ، ما كان سيتسنى رؤية انعدام الثقة بين الشعب وحكومته. فالمواطن السوداني لا يرى حكومته إلا متربصة به في كل أمور حياته في تعليمه ومعاشه ومسكنه وملبسه وعلاجه وحريته في التعبير عن رأيه ، وأهل الحكم يرون أنّ المواطنين يموتون من غيظهم عليهم وحسدهم لهم في لقمتهم الهنيئة .
الإعلان عن حبّ أمريكا من قبل الحكومة السودانية هو بوح مؤلم خاص وليس عام ويأتي في إطار خيبة الأمل من طرف أعطته ولم تستبقِ شيئاً ، فلم يكن أمام الحكومة السودانية إلا الرجاء في شكل استجداء لأخذ مقابل لهذا الحب. فلم تصل الحكومة بالسودان إلى حلم تطبيع العلاقات مع أمريكا بعد ولم تستطع رفع العقوبات ورفع اسم السودان عن قائمة الدول الداعمة للإرهاب .  وبما أنّ الحكومة الأمريكية لا يهمها شدة هذا الحب من عدمه بقدر  تمسكها بملفات عملية تريد من الخرطوم إنجازها فعلاً وليس قولاً ومداهنة ، فإنها حريصة أكثر على وقف النزاعات ومكافحة الإرهاب وما يهدد مصالحها في المنطقة. وفي هذه القضايا المفصلية تلتقي أمريكا بهموم الشعوب المستضعفة أكثر من التقاء اهتمامات حكوماتهم بهم ، حتى لو كان سعيها هذا من أجل مصلحتها . وذلك لأن مصلحتها مصلحة دولة ، وليست مصلحة أشخاص يُجنّبون المال العام ليوم كريهة وسداد ثغر.
عن صحيفة "الأحداث"

moaney [moaney15@yahoo.com]

 

آراء