“النهر الإله” لويلبر سميث.. عبوديَّة الرَّجل وجلالة مواهبه

 


 

 



shurkiano@yahoo.co.uk


قلما تجمع الرواية بين المثير الأثير من قصص التأريخ من ناحية، ومغامرات عصابات النَّهب المسلح من ناحية أخرى، ولواعج الحب الذي يدبُّ ويعربد في أفئدة العاشقين والعاشقات دون كلل أو ملل من ناحية ثالثة، وحكايات الغدر والخيانة التي يتخلَّلها الصراع حول السلطة في دهاليز السياسة والاستنكاف عن دواعي القيم الأخلاقيَّة من ناحية رابعة.  ويظل النَّص، الذي يحتمل الواقع والخيال، الحقيقة والوهم، حاضراً بقوة جمالية في هذه الرواية، وفي سرد ذي مخيَّلة سٌرياليَّة.  فلعلَّك واجدٌ ذلك كله في رواية "النهر الإله" (River God) لويلبر سميث، والتي يروي أحداثها عبد مصري في شيء من السَّرد ممتع وجذَّاب.  فالإنسان قد تُسلب منه حريَّته، وقد يُنزع عنه رمز رجولته حتى يمسي خصيَّاً، ولكن هناك ثمة مواهب عقليَّة وقدرات بدنيَّة يمكن لهذا المسلوب الإرادة والرِّيادة والفحولة أن يمتاز بها، ويذود عنها، ويفاخر بها غيره، ويبزُّ بها أنداده، ويصطرع بها أعداءه، حتى يتبوَّأ مكاناً عليَّاً.  فلعلَّ في فقدان عضو من أعضاء الجسد يمكن أن يُستعاض عنه بمضاعفة قدرات الأعضاء الأخرى المتبقية، ومن ثمَّ يتبدَّد اليأس والقنوط، ويحيا الأمل، ويفيض الإشراق لمسايرة الحياة الدنيا.
على أيَّة حال، فمن هو ذلك العبد المصري الذي استأثر به الكاتب الروائي ويلبر سميث وآثر في أن يكتب عن حياته المؤثِّرة؟  أو بشكل أوضح ما هي الفضول التي أثارها هذا العبد في العهد الفرعوني المصري في نفس الكاتب، ورأى أن يكتب عنه ويذيعه في الناس؟  إذ يبدو أن هذا المسترق لم يكن عبداً اعتياديَّاً كما ألف الناس عن العبدان.  فقليلاً ما يثير العبد اهتمام الناس، وشحيحاً ما يسترعي المستعبد انتباهم إلا استلطافاً أو استرحاماً في أحايين نادرة، وذلك لمن أوتي قدراً من اللطف واللين تجاه الإنسانيَّة مهما كان عرقه أو لونه أو دينه أو مكان ميلاده.  منجِّم، مهندس معماري وكاتب كان "تايتا" هو أكثر الموهوبين وأعظمهم شهرة في أرجاء مصر.  تايتا – الشخصيَّة المحوريَّة في الرواية والراوية للأحداث – رجل مسترق كان في خدمة اللورد "إنتيف"، أي الرجل الثاني في البلاط الملكي، وكانت له كل الصلاحيات في الأمر والنهي والثواب والعقاب، بما فيها الحكم بالإعدام أو الإبقاء على قيد الحياة.  يا ترى من يكون المستشار الأفضل للورد أنتيف المتواجد في كل مكان، ومعلِّم ابنته الحسناء "لوستريس"؟  لا سبيل إلى الشك في أنَّه تايتا، والذي هو عبد أنتيف، والذي ينبغي عليه أن يطيع أوامر سيده القاسي، ولا يعصي له أمراً.  كيف، إذن، يمكن أن يساعد تايتا الأميرة لوستريس التي وقعت في غرام مع "تانوس" الصنديد، ابن العدو اللدود لأبيها؟  كيف يغض الطرف ويصد عن الفتاة التي رعاها وحباها منذ الطفولة حتى صباها؟  على تايتا أن يحترس، أو يثير انتقام سيِّده الأكثر رعباً.
وتبدأ الرواية بذهاب تانوس وتايتا ولوستريس إلى رحلة صيد مائيَّة لاصطياد فرس البحر مع عصبة من الجيش على متن سفينة تسمى "روح حوريس"، أي نفس الإله حوريس، وهو إحدى الآلهة المصريَّة القديمة.  وبعد عودتهم من الصَّيد انخرط الجميع في اللهو والمجون، واحتساء الخمر ومعانقة الحسناوات وغيرها مما طاب لهم في تلك الأمسية الاحتفائيَّة.  وبينما كان الجميع في لهوهم ومجونهم يعمهون، تسلَل تانوس وعشيقته لوستريس إلى المعبد وأعلنا حبهما أمام الآلهة وفي بيت الآلهة، وذلك في وسط مشهد الحب الذي يهيمن عليهما، والهدوء العميق الذي يخيم على الطبيعة خارج المعبد الإلهي وداخله.  وكان لسان حال تانوس يقول، كما قال الكاتب المسرحي الإنكليزي وليم شكسبير (1564-1616م) في السونيت الرقم 147: "فلقد أقسمت أنَّك جميلة، وآمنت أنَّك متألِّقة/ أنت السوداء سواد الجحيم، الحالكة حلكة الليل البهيم."  وفي هذه الأثناء يلتفت تايتا ذات اليمين مرة وذات اليسار مرة أخرى بحثاً عنهما حتى يعثر عليهما في معبد قصي ويبوحا له بحبهما الذي كان يعلم هو عنه على أيَّة حال.  فإذا تطلب منه لوستريس أن يخبر أبيها بحبهما، وإذا يعدهما تايتا بأنَّه لسوف يبذل قصارى جهده لتبليغ الرسالة العشقيَّة، ثمَّ إذا تايتا يستدرك بأنَّ والدها، الذي يملك عيوناً في كل ركن قصي من أرجاء مصر، قد علم بعد أن عُلِم – بالطبع – بما يدور في هذه الليلة المجونيَّة، وما تبادله العشيقان من عبارات الود والعشق وآيات الحب والاشتياق.  وفوق هذا وذاك، وعدهما تايتا بأنَّه لسوف يفعل شيئاً ما نحوهما وتجاه حبهما عند أبيها، وهنا يظل تايتا متشظياً بين أمير ملهم وأميرة ملهمة في اختبار فلسفي لمفهوم الحب ودلالاته، ويبدو مظهره هو الآخر مدهشاً نوعاً ما، وبخاصة بجحوظ عينيه من هول الغرابة والعزلة التي يعيشها العشيقان المتيَّمان بالحب.
وحين أحسَّ تانوس بما يضمره الملك نحو لوستريس وما قد تُجبَر عليه، وصفها تانوس ب"العاهرة الملكيَّة"، وهذا النعت الغليظ يمثل قمة الغضب من ناحية، والسخط من ناحية أخرى، وذلك حينما يغضب شخص ويسخط في سبيل الحب، الذي لم يتم أو يُتوَّج بالزواج.  وكذلك يمثل هذا الاستهجان المستعظم المزاوجة بين الأحاسيس المحبطة والأحداث الماثلة، وذلك لأنَّ الأحداث هنا تأتي نابعة من الأحاسيس، وكان على تانوس أن يعبِّر عن ذلك بقوة، وحقاً فعل ذلك.  وحين أدرك تانوس أنَّ الملأ يأتمرون به يريدون قتله، أًمِر أن يخرج من المدينة مترقباً.  وفي الحق، خرج منها خائفاً محترساً.  فإذا هو يقاتل قطاع الطرق الذين أرهبوا وأرعبوا القواقل العابرة من أبناء السبيل، وإذا هو يمضي شرقاً حتى يحل بميناء "صفقة" على شاطئ البحر الأحمر ويستمدد بشيوخ قبائل المنطقة، وإذا هو يعود بجيش قوي عرمرم ويحارب به قطاع الطرق، ثمَّ إذا هو يهزمهم شر هزيمة، ويقتل أسراهم، إلا اثنين أبقى حياتهما لمأربة له.
وفي غمرة هذه الأحداث يظهر لهم شبح.  "أخ-حوريس!"  صرخة بدت داوية مجلجلة، حيث بدأت الجماهير الحاشدة تردِّدها صفاً بعد صف، وخرُّوا صاعقين على وجوههم قائلين: "إنَّه الإله"، إلا اثنين لم ترعبهما هذه الرهبة الإلهيَّة: الفرعون، الذي استقر مكانه كتمثال ملوَّن، والوزير العظيم (اللورد إنتيف)، الذي وقف متكبِّراً متجبِّراً غير حافل بما رأى.  ولما كشف عن قناعه، وكان بصره يومئذٍ حديد، ظهر تانوس وخاطب الرَّاعي والرعيَّة، شارحاً بإيضاح كيف قضى على عصابة النَّهب المسلَّح المعروفة ب"شرايكس"، المكوَّنة من ثلاث عشرة عشيرة، ولكل عشيرة بارونها، وكانوا قساة يقتلون ضحاياهم ولا يرحمونهم أبداً، ويسطون على ما يملكون؛ ثمَّ كشف تانوس عمن يقف وراء هذه العصبة من العصابة حتى جعلها دوماً طوع بنانه، وهو كان اللورد إنتيف نفسه، وجاء باثنين من زعماء هذه العصابة مكبَّلين بالأصفاد، وشهدا ضد إنتيف، وأقرَّا بأنَّهما كانا يعطيان نصيباً مفروضاً من المنهوبات، التي يسطون عليها عنوة من ضحاياهم، إلى إنتيف.  هذا، فلم يكن تانوس متحدثاً عن الأحداث فحسب، بل شاهداً كان على المكان الذي جاءت منه الأحداث.  فإذا فرعون لم يقتنع بعد ذلك كله، وإذا هو يطلب أدلَّة ماديَّة بالإضافة إلى الاعترافات القوليَّة، حتى لا تتمحور الحادثة تحديداً حول موضوعيَّة الإنسان الذي يُتَّهم وهو بريء، وإذا تايتا يبرز ويكشف عن الخزائن السريَّة للورد إنتيف، وإذا يقود تايتا هو الآخر فرعون وتانوس والأسيرين (إنتيف وسادنه "رسفر") ورأسي العصابة "شفتي" و"باستي" القاسي ويروا ما رأوا، وإذا يقرِّر فرعون أن ينطق بالحكم ضد هؤلاء المتَّهمين كلهم أجمعين أبتعين غداً، ثمَّ إذا أصبح الصُّبح كان اللورد إنتيف قد هرب بمعاونة ابنيه اللذان سمَّما الحرس وهرَّبا أبيهما.  وأخيراً تُنفَّذ العقوبة على الثلاثة المتبقية بتسييرهم عراة في شارع عام، حيث قذفهم الشعب بالقاذورات ومخلَفات البقر، ومن ثمَّ تمَّ تعليقهم رأساً بأسفل، وتثبيتهم بالمسامير على عمدان خشبيَّة في حر الهجيرة ليقضوا نحبهم في ألم أليم وعذاب مهين.
على أيَّة حال، فلما انشكف أمره، وكُشف عنه غطاؤه، وافتضح ذاته، هرب اللورد إنتيف بمساعدة ابنيه اللذان استطاعا أن يسممان الحرس الفرعوني، كما أشرنا آنفاً، وينخرط في جيوش الهكسوس الغازية.  ومن هنا نستطيع أن نقول إنَّ تعاون السلطة مع عصابة النَّهب ليعبِّر عن الفساد والجشع والاستهتار بأرواح الرعيَّة.  فالفساد والخيانة صنوان لا ينفصلان، فالذي يفسد ويكثر في الفساد، ويغدر بالآخرين ويتلذّذ بالغدر لا ضمير له.  فهو في أيَّة لحظة من اللحظات، أو تحت أي ظرفٍ من الظروف، يمكنه أن يقلب المنضدة على أصحابه، الذين كان يتربص بهم الدوائر، ويتحين الفرص للإيقاع بينهم العداوة والبغضاء، حتى لو كان أصحابه من رافعي المجد لشعبهم.  والتحاق اللورد إنتيف بأعداء المملكة ليست بحال شاذة، بل صورة فوتوغرافيَّة كما كان يحدث عند القدماء، ولا يزال يحدث وسط المحدثين.
وفي نهاية الأمر، إذا تايتا يتسلَل إلى بلاط الملك في أسوان تحت عباءة قسيس، وإذا هو كاشف عن تنكُّره حتى يستبين أمره، وإذا هو واجدٌ الأميرة لوستريس مريضة، ثمَّ إذا الملك يطلب منه شفاءها من علتها.  وما أن شفيت الأميرة وبُرئ سقمها، حتى خرجوا لصيد الغزلان في كثبان الرمال غرب النيل مع ملكهم، بواسطة اثنين من الفهود الصيَّادة، أهداهما له ملك إقطاعيَّة "الأموريين" في البحر الأحمر.  وفي خطة مؤتمرة من قبل، وبعيداً عن عيون رجال فرعون وعملائه، واحتراساً من الوشاة الذين يعتبرون معين تسريب وفضول لا ينضب، وفي مغارة في جبل، ووسط وشوشات أوراق الشجر وحفيفها، وشقشقة العصافير، وخرير العيون المتدفقة، استطاعت لوستريس أن تقابل تانوس، ويتعانقان في أشد ما يكون العناق، ويتبادلان آيات الحب كل الحب، ويعبِّران عن وفائهما أيَّما الوفاء؛ كلاهما يحمل مشعل الحب الذي يضرم النار في القلوب.  وفي الليلة العاشرة تحرَّك موكب فرعون من أسوان تلقاء ثيبس.  وفي الطريق بدأت علامات الحمل تبدو على لوستريس، ففرحت بهذا الحمل الملكي، وفرح تايتا بالحمل هو الآخر لمولود تانوس القادم باعتبار ما يكون.  وفي ثيبس قابل اللورد إنتيف الملك وحاشيته مقابلة تليق بفرعون مصر والوفد الفرعوني المرافق له.
وفي غمرة العدائيات بين الهكسوس والمصريين يُقتل الفرعون بسهم رماه ملك الهكسوس شخصيَّاً.  وبعد مقتل فرعون ينسحب المصريُّون جنوباً، تاركين وراءهم بعض القتلى والجرحى، وأخذوا يبحثون عن مكان جنائزي مناسب لدفن جثمان الملك القتيل.  وفي توغلهم جنوباً يلتقوا بقبائل كوش، ولأنَّهم كانوا يبغون رقيقاً، فإذا هم يأسرون جماعة من قبيل الشلك، ويسترقوهم ويجنِّدوهم.  وفي الآن نفسه تحمل لوستريس بابنة ثم ابنة أخرى بعد مضاجعتها لقائد الجيش.  ألم ينعتها تانوس من قبل ب"العاهرة الملكيَّة"؟  بلى!  فإذا الأمير ميمنون – ابن لوستريس وتانوس الأول – يقع بصره على فتاة حسناء ورفيقاتها من قبائل إكسوم، وإذا هو يتعلَق بها حباً وشغفاً، وإذا هي تحبه وتعشقه أيضاً، ثمَّ إذا يهجم عليهم أفراد حرسها ويفر ميمون ويقع تايتا في الأسر بعد أن خرَّ على الأرض جثياً جريحاً من جراء سهم صوَّبه عليه أحد الإكسوميين.  وبعد أن شفي تايتا وبُرئ جرحه، أخذ يعلِّم الأميرة "مسارا"، والتي هي أسيرة كذلك، اللغة المصريَّة (الهيروغلفيَّة)، ورويداً رويداً طفق يعلم عن حالها وحال الشجار الناشب بين أهليها وأهل حابسيها.  وفي لحظة ما يهرب تايتا من قلعة "أدبار سيجيد" إلى "بريستر بني-جون" والد الأميرة الأسيرة، ويتفق معه على أنَّه إذا استطاعت القوات المصريَّة الهجوم على أعدائك واسترداد ابنتك الأميرة الأسيرة فعليها أن تتزوَّج بمن تشاء.  وذهب تايتا إلى أهله يتمطى، وأخبر تانوس وابنه الأمير ميمون بأنَّه جاء من بلاد إكسوم بنبأ يقين، وذلك برغم تحفظ والدته الملكة لوستريس الآن على ألا يتمكَّن قلب إمرأة ابنها بعد سماع الخبر من الخبير، إلا أنَّها وافقت على الهجوم على معسكر إكسوم.  وفي هذا الهجوم أُنقذِت الأميرة مسارا، وجُرِح تانوس، حيث مات إثر هذا الجرح، ووُري جسده بجوار مقبرة فرعون.
بعد سنين عدداً في المنفى، حتى امتد المسرح الزماني للأحداث لأكثر من حقبة، عاد المصريُّون الحكام، وحشدوا جنودهم من المصريين والشلك الأسارى، وهجموا على الهكسوس هجمة رجل واحد، وهزموهم وشتَّتوهم بين قتيل وجريح وهارب، وانتفضت المدن المصريَّة ضدهم، واستعاد المصريُّون حريَّتهم واستقلالهم.  ومن ثيبس، التي كان يتَّخذها الهكسوس بقعة (أي عاصمة) لهم، انهزموا وأمست الأعلام الوطنيَّة الزرقاء ترفرف فوق السماء، ورايات النَّصر تعلو وتناطح السحاب، وأقفل تايتا راجعاً إلى أسوان ليُعلم الملكة لوستريس بالنَّصر المؤزَّر ضد الهكسوس.  وما أن أنهى تايتا نبأه اليقين إلى الملكة، وأصبح الصُّبح ماتت الملكة بالحَضُون، والحَضُون روح شريرة يزعمون أنَّها تُلمُ بالنيام وأنَّها، بخاصة، تجامع النساء ليلاً.
مهما يكن من شيء، فالرواية تحمل في ثناياها الطقوس المصريَّة القديمة، والمهرجانات التي كانت تُقام على النهر، حيث يرقص حولها الفتيان والفتيات كالفراشات حول الورد والزهر، وممارسة شعائر الدفن وعلم التحنيط، والسحر والخرافة والتعاويذ في الاحتفالات الاجتماعيَّة الأخرى، والفنون الحربيَّة التي امتاز بها المصريُّون في استخدام البوارج الحربيَّة والحصين والمشاة والسيوف والرماح والأقواس.  تقليديَّاً، فالممثل الذي يتقمَّص شخصيَّة الإله حورس يختتم المهرجان برسالة إلى فرعون؛  ظاهريَّاً تقول الرسالة إنَّها لآتية من الإله، ولكنها في الحق آتية من رعيته لا ريب فيها.  فهي، إذن، رسالة الشعب الإلهيَّة.  وفي الأزمنة الغابرة تكون مثل هذه المناسبات احتفالاً سياسيَّاً ودينيَّاً واجتماعيَّاً.  وفي سرد لا يخلو من مخيَّلة سُرياليَّة أبدع سميث وبرع في وصف الطقوس التي اشتملت – فيما اشتملت – على الميثولوجيا (علم الأساطير) والفولكلور (الفن الشَّعبي)، وفي شيء من الخيال الواسع كثير أجاد سميث في تصوير إقامة الشعائر الدينيَّة والنشاطات الزراعيَّة والعلاقات الجنسيَّة والحياة العائليَّة عند هؤلاء المصريين القدماء، وأشار إلى ما كانوا يحتكمون إليه من القانون البدائي الساد، وما كانوا يعتمدون عليه من العادات والتقاليد والأعراف والموروثات الثقافيَّة.
إذ أنَّ ويلبر سميث يشدُّ القرَّاء دون مقاومة إلى حيوات أشخاصه، وبذلك يكون قد وضع قصته خلال إحدى الفترات الأكثر إثارة في التأريخ الدرامي لمصر القديمة.  فالرواية تعتبر تجسيداً لتأريخ مصر القديمة وامتدادها – أي امتداد نفوها – في كوش، والحراك السياسي الاجتماعي الذي تمَّ في ذلك الرَّدح من الزمان من صراع عسكري دموي مع الهكسوس، أو الملوك الرعاة، الذين أخذوا يقبلون على النيل كالضباع يتسابقن في قضم وليمة جثة مصر، وظهور آلة حربيَّة لم يألفها المصريُّون من قبل، وهي المُعجَّلة (Chariot)، وإفعال التحالف الذي كان سائداً بين قبائل الشرق – التي لا شك في أنَّها البجة – من جهة، مع الملوك المصريين القدماء من جهة أخرى.  فتواجد الإكسوميين على نهر "تاكيزي" (عطبرة حالياً) – بعد هزيمة مملكة مروي – وصراعهم مع أعدائهم، وتواجد قبائل كوش من شلك وغيرهم أضاف رقعة جغرافيَّة للرواية، وأعطاها بعداً أفقياً شاسعاً.  كما أنَّ تقهقر المصريين بعد هزيمتهم أمام جيوش الهكسوس، وبقاءهم في المنفى عدة سنوات أضاف بعداً زمانيَّاً للرواية، حتى نشأ جيل جديد من المصريين تحت حكم الهكسوس الغزاة، وانخرط كثرٌ من المصريين في خدمة هؤلاء الغزاة عن رضا أو غير رضا، وتلهَّى المحتلون في لهو ومجون.  وهذه هي حال الغزاة متى ما غزوا، وحيثما غزوا، وكيفما انتصروا على شعب ما، وأقاموا فيه سلطانهم، وبسطوا عليه نفوذهم، يسترقون شبابه، وينزون على نسائه، وينغمسون في الحياة اللاهية والعيشة الماجنة، ويتركون ثغور البلاد عرضة للنهاب، وفريسة للمتربصين، وشهية للطامعين.  ألم تروا كيف فعل العرب في الأندلس بالأندلسيين حين دانت لهم أرضها، وخضعت لهم شعوبها؟  أجل!  وكذلك ألم تروا ماذا فعل الأتراك-المصريُّون في السُّودان بالسُودانيين منذ العام 1821م حتى العام 1885م، حتى استعظموا الاسترقاق واستثمروا فيه، وأسرفوا في القتل والتعذيب وتفشى الفساد والرشوة والمحسوبيَّة والاختلاس، وانتشرت العادات الاجتماعيَّة السيئة وغيرها؟  بلى!
هذا ما دوَّنه الخصي المستعبد تايتا.  وكان الخصيان من الرجال في ذلكم العهد التعيس، ونسبة لعدم امتلاكهم الروابط الأسرية، كانوا موضع الثقة، وكانوا يستخدمون ليس في حراسة الحريم فحسب، بل كإداريين في دواوين الحكومة، وكمتعهدين في البيوت وكسدنة في عمارة المدن المقدسة في الحجاز – أي مكة والمدينة (يثرب)، وكذلك شكلوا صفوة خاصة من الخفر لحراسة المساجد والمواقع الدينيَّة.  وفوق ذلك كانوا يُقدَّمون ويُستقبلون كأعطيات قيِّمة بين الأثرياء، وفي صفقات علنيَّة أو سريَّة.  حتى وسط تجار الرِق، كان التعامل في الأرقاء الخصيان يتم من خلال أعمال سريَّة، وكانت مراكز الخصي تقع في أعالي النيل وجنوب الجزيرة العربيَّة، حيث لا يعلم بهذه المراكز حتى أهل التجارة أنفسهم.  ومع ذلك، كان معدَّل الوفيات كبيراً جداً، حيث كان يحيا واحد من كل عشرة صبية يتعرَّضون لهذه العمليَّة الجراحيَّة الاستئصاليَّة.  ونتيجة لذلك كان الطلب عالياً، وكان الأسعار – على الأقل – تبلغ عشرة أضعاف سعر الصبي السليم.
في البدء، يبدو أنَّ مصر القديمة موضوع غير اعتيادي للروائي ويلبر سميث، وهو الشهير عالميَّاً برواياته الأكثر بيعاً، والتي وُضعت في إفريقيا المعاصرة.  على أي، فإنَّه فتن بتأريخ القارة الإفريقيَّة القديم، وكانت إحدى رواياته الأكثر شعوبيَّة هو "طائر الشمس"، وهي عبارة عن قصة مغامرة مثيرة الإثارة كلها عن عالم آثار، الذي عثر على بقايا مدينة إفريقيَّة قديمة وانتقل في الزمان إلى ذلك العهد.  "لقد تلقيت عدة طلبات خلال سنوات في سبيل أن أكتب "طائر الشمس" آخر، ومن ثمَّ قررت أن آخذ الوصيَّة.  ومن خلال "النهر الإله" بقيت في إفريقيا، ولكن في هذه الأثناء انتقلت شمالاً أكثر من أي وقت مضى إلى شواطئ نهر النيل،"  هكذا يقول ويلبر سميث.  كان ذلك منذ أن كان طفلاً حينما نمت في ويلبر سميث الرغبة في التأريخ الإفريقي، وبخاصة مصر في عهد الفراعنة.  ومن ثمَّ قرأ عدداً من الكتب عن الموضوع إيَّاه حتى حينما شرع يكتب "النهر الإله" لم يكن محتاجاً إلى بحث إضافي.  وكذلك، وكما أنَّه زار مصر أكثر من مرة خلال عدة سنوات، بات يعرف القطر وطقسه جيِّداً.  إذ يقول ويلبر سميث إنَّ الكتاب نما سراعاً من مجرَّد فكرة عن حياة عبد مصري، الذي ظلَّ يؤرِّقه في دماغه منذ فترة ليست بقصيرة، واختار فترة إغارات الهكسوس كمهد للرواية، وبدأ ببعض الحقائق المعروفة عن ذلك العهد وبنى قصَّته حولها.  "إنَّ كتبي لهي دوماً مِزاج بين الحقيقة والخيال، حتى أنَّني لم أكد أبين من أين بدأ أحدهما وإلى أين انتهى الآخر،" هكذا يقر ويلبر سميث.  والمنظور الشاسع لرواية "النهر الإله" ربما قد جعل الكتاب تعهداً مخيفاً، ولكن يستطرد سميث قائلاً: "لقد شعرت بمتعة عظيمة في كتابتها.  كل ما أبغيه هو أن تأتي شخصياتي كلها منقادة، وتقدِّم المؤامرات أنفسها بأنفسها طبعيَّاً."
وويلبر سميث، الذي ولد العام 1933م في شمال روديسيا (زامبيا حالياً) ودرس في جامعتي مايكلهاوس ورودس في جمهوريَّة جنوب إفريقيا، قد عاش كل حياته في إفريقيا، وإنَّ تعلقه بهذه القارة لعميق، فهو الذي كتب رواية "الغضب" العام 1987م، وهي عبارة عن سيرة مشبوبة بالعاطفة عن جمهوريَّة جنوب إفريقيا ما بعد الحرب، وهي أيضاً عمل قاص محنَّك في قمة سلطانه، متناولاً المزاوجة غير القابلة للنسيان بين العاطفة، السلطة، التأريخ والمؤامرة، مما جعل ويلبر سميث – يقيناً – سيِّد التشويق الروائي.  وأعماله الكاملة تحتوي على 33 رواية، منها – على سبيل المثال لا الحصر: "هؤلاء في خطر"، "حينما يأكل الأسد"، "دوي الرَّعد"، "سلطة السيف"، "الشاطئ المشتعل"، "الثعلب الذهبي"، "انتصار الشمس"، "الأفق الأزرق"، "وقت الموت" وأخريات، بالإضافة إلى السلسلة المصريَّة، والتي تمثل رواية "النهر الإله" أولى رباعيَّتها.  ويلبر سميث متزوج بالكاتبة دانييل توماس ويتقاسما زمنهما بين بيتهما في جمهوريَّة جنوب إفريقيا وجزيرة سيشل، وبين الصيد والرحلات والكتابة، التي تفرَّغ لها منذ العام 1964م.


 

آراء