boulkea@yahoo.com
قال مستشار رئيس الجمهورية الدكتور مصطفى عثمان إسماعيل في ندوة بعنوان " ماذا يُريد السودان من مصر الجديدة؟" نظمتها صحيفة "الأهرام اليوم" إنَّ الحكومة السودانيَّة ( لن تفتح الطريق البري الساحلي بين السودان ومصر على البحر الأحمر، قبل تحديد مصير مثلث «حلايب» المتنازع عليه بين البلدين ), ودعا إلى إستكمال اتفاقية «الحريات الأربع», وتوقيع الجانب المصري عليها, وتوقيع بروتوكول الحركة بين البلدين, وفتح المعابر.
حديث الدكتور مصطفى هو الأوَّل من نوعه لمسئول حكومي في هذا الموضوع الشائك والحسَّاس والذي لم يتجرأ الدكتور مصطفى نفسه على الخوض فيه عندما كان وزيراً للخارجيَّة لسنوات طويلة وهو الأمر الذي يثير تساؤلات طبيعية حول دقة حديثه و مدى تعبيره عن الموقف الحقيقي للحكومة.
الموقف الحكومي الرسمي تجاه قضيَّة حلايب ظل في خانة "الصمت" لأكثر من عقد من الزمان قامت فيها الحكومة المصريَّة بوضع يدها بالكامل على المنطقة. وكنت قد كتبت في مقال سابق لي عن هذا الموضوع أقول " العلامة السالبة الأخرى التي وسمت العلاقة المصرية السودانيّة هى النزاع حول مثلث حلايب الذي إندلع منذ خمسينيات القرن الفائت ولم يحسم حتى اليوم. صادرت مصر (الدولة) المثلث بوضع اليد مستغلة حالة الوهن والضعف والخوار التي أصابت حكومة الأنقاذ في أعقاب محاولة أغتيال الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك. وفي أطار مساومة مكتومة بعدم تصعيد القضيّة ورفعها لمجلس الأمن صمتت الأنقاذ عن المطالبة بالمثلث بينما قامت مصر بضمِّه فعليا ليصبح جزءً من أراضيها".
في ذات الوقت الذي أدلى فيه الدكتور مصطفى بحديثه عن رفض حكومته لإففتاح الطريق البري الساحلي قبل تحديد مصير حلايب, نقلت الأخبار قول الهيئة العامة للطرق الكباري والنقل البري في مصر " إنها تضع حالياً اللمسات الأخيرة لافتتاح الطريق الدولي الجديد بين مصر والسودان في 20 سبتمبر أيلول الجاري والذي سيخفض بشكل كبير تكلفة النقل بين البلدين", وهو ما صرَّح به رئيس الهيئة إبراهيم عامر الذي أضاف أنَّ " تكلفة إنشاء محور قسطل-وادي حلفا بين مصر والسودان بلغت حوالى 45 مليون جنيه (7.4 مليون دولار)".
نحن هنا بإزاء قولين أحدهما يؤكد إفتتاح الطريق في العشرين من الشهر الجاري, والآخر يربط إفتتاح الطريق بتسوية قضيَّة حلايب, والأرجح عندي أنَّ الطريق سيفتتحُ في موعده المُحدَّد لأنَّه من غير العملي ربط ذلك بالوصول لإتفاق حول قضية ظلت الحكومة صامتة عنها واكتشفت فجأة أنها بحاجة لحلها بهذه السرعة.
بخصوص الموقف المصري قلت مسبقاً وأكرِّر اليوم أنهُ لا يجب أن تعوِّل مصر (الدولة) على إستمرار الوضع الراهن الذي أملته ظروف مرحلية يمر بها نظام حكم مأزوم آثر أن يتنازل عن جزء من أراضي بلده في مقابل مكاسب تاكتيكية تساعد على بقائه وإستمراره في السلطة, فالقضية أكبر من ذلك بكثير. هى في عرف القانون الدولي – على الأقل من وجهة نظر السودانيين – قضية إحتلال لجزء من البلد بالقوة ومحاولة فرض الأمر الواقع وهى بهذا التصوُّر تشكل قنبلة موقوتة قابلة للإنفجار في أى وقت.
وقلت كذلك أنه لا يمكن أن تعالج القضية بالصمت الطويل المزمن لأنَّ هذا النوع من الألم لا تطبِّبهُ المسكنات. لا بدَّ من التفاوض حول الأمر في أطار من الشفافية والمصداقية والصراحة بين الجيران الأشقاء واذا تعّذر الوصول لحل بالطرق والوسائل الدبلوماسية والسياسية فإنَّ في اللجوء للمحاكم ولمؤسسات القضاء الدوليّة ضمانا كافياً لأن ينال كل طرف حقوقه القانونية المشروعة ومن ثم طي هذا الملف المؤلم بتوافق وسلام.
وأكدت أنَّ على مصر (الثورة) أن تعلم أنَّ أستمرار الوضع الحالي في مثلث حلايب لن يستمر للأبد. وأنه متى ما حدث تغيير ديموقراطي في السودان فإنَّ تلك القضيّة ستكون في مقدمة أجندة النظام الجديد. وأنه كلما إستمرت الأوضاع الحالية في المثلث فإنها لن تؤدي الا لتراكم المزيد من الجفوة والشكوك والتنافر والغبن في نفوس السودانيين. وهو الأمر الذي سيكون له بالغ الأثر على العلاقات المستقبلية بين البلدين. ولذا لا بد من الإسراع في التوجُّه نحو أيجاد حل متفق عليه و يكفل حقوق الطرفين.
النزاع حول حلايب إندلع منذ خمسينيات القرن الفائت ولكن الحكومة الديموقراطيَّة المُنتخبة في ذلك الوقت لم تصمت مثلما فعلت حكومة الإنقاذ وإنما حدَّدت موقفها بكل وضوح ولم تضطر للمساومة بسبب موقف سياسي عابر يجعلها في حالة ضعف تعجز معها عن المطالبة بحقوقها في النزاع.
إذا كانت الحكومة السودانيَّة جادة في مطالبتها بضرورة تسوية قضية حلايب فإنَّ عليها أن تفتح هذا الملف بكل شفافيَّة مع حكومة مصر (الثورة) عبر تفاوض جاد يقوم عليه الرأس الدبلوماسي ( وزير الخارجيَّة), وليس عن طريق إطلاق كلام في الهواء لوزير خارجية سابق لا يُعرف إن كان قد قال قوله هذا ضمن تنسيق "إستراتيجي" بين الحزب الحاكم والحكومة أم أنه يُعبِّر عن رأيه الخاص ؟
إذا لم تكن تصريحات الدكتور مصطفى عثمان مدروسة وتقع ضمن إستراتيجية واضحة للتعامل مع هذا الملف فإنها ستصبُّ في خانة التصريحات العشوائية المكرَّرة التي إعتاد قادة الحكومة إطلاقها في مُختلف القضايا ثم يعودوا للتراجع عنها بكل سهولة, وهو الأمر الذي ربما تكشف عنهُ الأيام القليلة القادمة التي ستشهد إفتتاح الطريق البرى الساحلي الذي يربط بين السودان ومصر.