اتفاقية أديس “2” .. عظات وعبر لا تكفي !!

 


 

 


khalidtigani@gmail.com

لم يكن الترحيب الواسع داخلياً وخارجياً الذي حظيت به اتفاقية أديس أبابا "2" الموقعة الأسبوع الفائت بين دولتي السودان, بالطبع مع بعض الاستدراكات المشروعة عليها من هذا الطرف أو ذاك بدوافع موضوعية أو حتى لأجندة سياسية, إلا لأنها تستحق ذلك عن جدارة ليس لأنها "أتت بما لم تأت به الأوائل" بل لأنها ببساطة تمهد الطريق, إذا تم الالتزام بها تعهداً بروحها وتنفيذاً نزيها لنصوصها, إلى إعادة العلاقة بين البلدين المنقسمين من السودان الكبير إلى منصة التأسيس, إلى طبيعة الأشياء في العلاقة المرجوة لأي بلدين ما يجمع بينهما من المصالح أكبر بكثير مما يفرق, ولأن إرث السودان الكبير سيكون عصياً على اقتسام تركته إن لم يكن مستحيلاً, وأن البديل الوحيد الممكن هو رعاية المصالح المتشابكة والمترابطة التي لا فكاك منها بنظر استراتيجي لفوائد التعاون.
وجد ما حدث في أديس أبابا كل هذا الاهتمام لأنه كان بمثابة مؤشر, لا يزال أولياً حتى تتحقق مقتضيات ما تم الاتفاق عليه, على"عودة الوعي" وتوفر قدر من الإرادة السياسية عند القيادتين لم يكن حاضراً والمفاوضون من الطرفين يبرمون الكثير من التفاهمات على مدار الفترة الماضية, ثم لا تلبث أن "تركن على جنب" لأن من يملكون "الفيتو" في الخرطوم وَجُوبا ظلوا يمتلكون القدرة على الحط من شأنها وازدرائها, لم تكن غالب الاتفاقيات التي جرى التوقيع عليها في العاصمة الإثيوبية إلا استدعاءً لتفاهمات سابقة جرى التوصل إليها في جولات فائتة وتجميعها لتشكل هيكل اتفاق التعاون الجديد, وهون ما بشير إلى أن التحول الدرامي الذي حدث أخيراً لم يكن بسبب اختراقات جديدة في ملفات التفاوض بقدر ما كان نتيجة تحول في مواقف القيادة السياسية في البلدين باتجاه التسوية تحت ظل ضغوط داخلية وخارجية كثيفة, وبعد نفاد كل فرص المناورات وتكتيكات الالتفاف على الأجندة الحقيقية المطلوب مخاطبتها.
ومع كل الترحيب الذي لقيته اتفاقية أديس أبابا, إلا أن الهاجس الأكبر الذي يحاصر بظنونه الجميع يدور بحثاً عن الإجابة على سؤال واحد هل ستصمد هذه الاتفاقية الجديدة أم أن مصيرها لن يكون أفضل من سابقاتها التي انهارت أو فشلت على الرغم من كل الزخم الذي صاحب توقيعاتها؟. وهو سؤال محوري ومشروع باعثه في أغلب الظن ليس التشكيك أو تمني فشلها, بل على العكس من ذلك الـتأكد من أنها ستجد التنفيذ الكامل بلا خطوط رجعة, وهاجس الفشل الذي يطارد الجميع ليس مفتعلاً بل هو نتاج تجربة مريرة في السياسة السودانية من "التمادي في نقض العهود والمواثيق" كما ذهب إلى ذلك مولانا أبيل ألير في كتابه الشهير الذي يحمل هذا العنوان, وهو تماد في اتجاهين وليس اتجاهاً واحداً كما ذهب إلى ذلك أبيل ألير في كتابه الذي يؤرخ فيه لتجربة اتفاقية أديس أبابا الأولى التي صادفت ذكرى توقيعها الأربعين, توقيع اتفاقية أديس أبابا الثانية الأسبوع الماضي.
وهناك رتل طويل من الوعود السياسية أو الاتفاقيات الموثقة بشأن العلاقة بين الشمال والجنوب ومنذ مؤتمر جوبا في العام 1947, وحتى اتفاقية السلام الشامل في العام 2005, وما بينهما مروراً بملابسات إعلان استقلال السودان في العام 1956, ومؤتمر المائدة المستديرة بعد ثورة أكتوبر, واتفاقية أديس أبابا العام 1972, واتفاقية الميرغني قرنق, واتفاقية الخرطوم للسلام, وأخيرا اتفاقية نيفاشا, لم تفلح كلها على نحو أو آخر في تأسيس علاقات سوية وطبيعية بين شطري السودان, وحتى حصول الجنوب على استقلاله العام الماضي لم يؤد كما كان منتظراً إلى طي صفحة "الفصام النكد" بين الشمال والجنوب بل أعادت إنتاج الحرب في فصل جديد وبأشكال جديدة بل صنعت للمفارقة جنوباً جديداً في السودان الشمالي بكل محمولات الصراع التاريخي بين الشمال والجنوب في السودان الكبير وجدل النزاع بين المركز والهامش, مضافاً إليها هذه المرة النزاع في دارفور.
وصراع بهذه الأبعاد التاريخية العميقة الجذور سياسياً وثقافياً واقتصادية وعرقياً, والتي لا تزال في مجملها حاضرة في تجليات جديدة, من الخفة بمكان تصور أن مجرد التوقيع على اتفاق جديد وسط أهازيج واحتفالات سيجعل الأمر هذه المرة مختلفاً لمجرد أن المزاج السياسي عند القادة السياسيين على الطرفين تغير باتجاه التعاون بدلاً من الاحتراب بما تقتضيه حسابات ومعادلات اللحظة السياسية الراهنة عند النخب الحاكمة هنا وهناك.
صحيح أن توفر الإرادة السياسية كان حاسماً في توقيع الاتفاق, لكن ذلك وحده لا يوفر ضمانات كافية للنجاح هذه المرة, ما لم يكن نتاج تحولات استراتيجية في الرؤى والمفاهيم لطبيعة الصراع بين الطرفين وأهمية مخاطبة جذور المشاكل, فالنيات الطيبة مهما تأكدت عند الطرفين عند هذه اللحظة ليست كافية فهي مؤقتة بطبعها ما لم تُحط بسياج من تفكير استراتيجي جديد لا يعالج ظواهر الأمور بل ينفذ إلى بواطنها. فالأمر ينبغي ألا يرتبط فقط بالمواقف الشخصية للقادة مهما كان ذلك مهما, لأن ذلك من الممكن أن يتغير لهذا السبب أو ذاك, بل يجب ان يرتبط برؤى واستراتيجيات وخطط مؤسسية وليست فردية.
والناس الحريصون على تحقق الاتفاق واقعاً محقون في إشفاقهم وظنونهم بشأن مصيره, فمن قريب سمعوا ما سمعوا من مواقف عدائية مغلظة شديدة التطرف لا تحتملها طبيعة السياسة التي تتطلب دوماً الاحتفاظ بشعرة معاوية حتى لا يجد السياسي نفسه يوماً في موقف لا يحسد عليه مضطراً إلى ابتلاع لسانه دون أن يرف له جفن, والحال هذه فما من ضمانة يركن إليها الناس وهم يجدون أنفسهم يؤخذون من أقصى هذا الموقف إلى موقف قصي آخر ثم يكونون مطالبون في كل الأحوال بالتصديق والتأمين على ما يجري أمامهم من غير أن تكون هناك مبررات موضوعية تفسر هذا التحول بين المواقف.
ومع كل الآمال التي أطلقتها اتفاقية أديس أبابا فإن الحاجة أكبر للاعتبار وأخذ العظات والدروس مما حدث بأكثر من الحاجة للاحتفالات وتنصيب مهرجانات الفرح, في عادة ذميمة أصبح يدمنها بعض محترفي التكسب بالتقرب من السلطان, فهم مستعدون لإقامة المهرجانات في كل الأحوال لا فرق إن كانت حرباً تحصد أرواح ضحايا أبرياء أو كان سلاماً مأمولاً, ما يحتاجه السودان في هذه اللحظة التاريخية الحرجة الجلوس إلى قراءة عميقة وهادئة لما جرى والاستفادة من عظاته وعبره في إيجاد مخرج آمن للبلاد من أزمتها الوطنية الخانقة, نحتاج إلى المزيد من حضور الوعي لا تغييبه بزيف الاحتفالات التي لا تليق على جماجم وأرواح الآلاف من أبناء السودان الذين راحوا ضحية حروب مجنونة وطموحات صغيرة.
والمطالبة بضرورة وجود رؤية بعيدة النظر واستراتيجية مبصرة ليست ترفاً بأي حال من الأحوال, أو مجرد كلام يلقى على عواهنه بل هو شرط لازم لرؤية السلام والاستقرار يتحقق فعلاً والاتفاقيات تنفذ, وما شيء أضر بالبلاد والعباد إلا أنها ظلت نهباً للتجريب بلا هدى ولا بصيرة, فما تم الاتفاق عليه في أديس أبابا لم يأت بجديد لم يكن معروفاً من قبل في أهمية أن تقوم العلاقة على تعاون يرعى المصالح المشتركة ويوفر بالضرورة الأمن اللازم لازدهار التبادل التجاري والاقتصادي والحراك الاجتماعي على جانبي الحدود, وكل ذلك من أبجديات وبديهيات الاجتماع الإنساني وعمران الأرض.

وغياب الرؤية الاستراتيجية هو الذي حول تقسيم البلاد من دواء مر قد يجلب الشفاء على جسد العلاقات السودانية الشمالية الجنوبية العليلة إلى سم زعاف على أيدي أؤلئك الذين أرادوا تحويل الانفصال إلى قطيعة دامية على أجساد مصالح اجتماعية وشعبية تجذرت على مر القرون رغم أنف السياسة وطموحات السياسيين, وللأسف أدى تواري أصحاب الرؤية المبصرة لعلاقة سوية تبدو اليوم وكأنها اكتشاف جديد لأن يعلو صوت القطيعة الذي لم يكن مجرد رأي بل شكل فعلياً سياسة الحكم وتسبب في نهاية الأمر في كل الخسائر البشرية الغالية والكلفة الاقتصادية الباهظة التي يدفع الشعب اليوم وحده ثمنها, بلا مبرر ولم تكن قدَراً لا يمكن دفعه, فقط لأنه كان مطلوباً انتظار أن يتعلم أصحاب القرار كيفية إعادة اختراع العجلة وإدراك بديهيات ما كانت لتغيب عن صانع قرار مدرك لتبعات مواقف تتخذ بدافع الانفعال وليس بحسابات المصالح الاستراتيجية.
ولكي تحقق اتفاقية أديس أبابا الثانية مقاصدها الواسعة باستعادة الوعي واتاحة فرص حقيقية لبداية جديدة يجب أن تؤسس لنهج جديد في إدارة الشأن العام كله, حتى لا تتبدد الروح الإيجابية التي أعقبتها في ترهات احتفالية لا تغني ولا تسمن من جوع, ويجب الابتعاد عن الترويج البائس لبضاعة "التشاشة" السياسية التي تحاول أن تصور الاتفاق وكأنه فتح مبين, وأنه بلا عمل صالح فالح, سيملأً الخزائن وينزل المن والسلوى, ويدرك الذين يروجون لهذه المقولات الشاطحة أن الاتفاق قد يوفر بعض الأموال لخزينة الحكومة, ولكن ذلك لن يقود بالضرورة إلى استعادة العافية للاقتصاد السوداني بلا إصلاح حقيقي للإطار السياسي السليم لحكم راشد, فالأزمة السودانية ليست مالية في جوهرها, بل سياسية واقتصادية بامتياز. فالخشية أن يعتبر البعض في النخبة الحاكمة أن الانفراج المنتظر في العلاقة مع الجنوب الذي يمنح إحساساً قاصراً بالخروج من عنق الأزمة يعني الانصراف عن أجندة الإصلاح والتغيير الملحة والمطلوبة بشدة, وأن الزوال المفترض لخطر تردي العلاقات مع الجنوب والمجتمع الدولي بكل تبعاته يعني الركون إلى استدامة الحالة الراهنة والمحافظة على وضعية النخبة الحاكمة.
وإن كانت ثمة عبرة كبرى مما جرى في سيرة العلاقات بين الشمال والجنوب حتى قادت إلى ما انتهت عليه, أنه ما من شيء أضر بالسودان وقاده إلى هذا المصير من التشرذم إلا سياسة الإنكار التي ظلت متبعة على مر عهود الحكم الوطني بشكوى تهميش الأطراف سياسياً واقتصادياً وثقافياً والمظالم المترتبة على ذلك, وهو إنكار أنفقت البلاد وقتاً ثميناً في الإصرار عليه أو محاولة الالتفاف عليه, وحين لم يعد هناك بد من الاعتراف به إلا تحت ظلال قعقعة السلاح كانت الأمور مشت بعيداً بإتجاه حلول تقطع الأواصر ولا تجعل سبيلاً للحفاظ على وحدة البلاد. والخشية أن يعتبر البعض أن الاتفاق مع جوبا سينهي بالضرورة الحروب الأهلية المشتعلة في هلال التمرد الجديد الممتد من دارفور وحتى النيل الأزرق مروراً بجنوب كردفان, ذلك أن البعض يرى الأمر من منظور أمني وعسكري ويعتبر أن فك الارتباط ونشر فرق المراقبة وإقامة المنطقة العازلة سيكون كفيلاً بطي ملف حركات التمرد المسلح, وهو أمر يمكن نظرياً القبول بحجته, لكن المسألة أكثر من أن تكون شأنا عسكرياً محضاً, فهي قضية سياسية بامتياز, فتقسيم السودان تم على طاولات التفاوض وليس في ساحات المعارك الحربية, وتجربة تحسين العلاقات مع تشاد ومحاصرة الحدود عسكرياً لم تؤد إلى إنهاء أزمة دارفور حتى بعد توقيع اتفاق الدوحة, بل يشهد الإقليم حالياً حالة عدم استقرار غير مسبوقة.
وإن كانت ثمة قيمة كبرى من اتفاقية أديس أبابا فهو أنها خلقت أجواء إيجابية مواتية في الساحة الوطنية السودانية يجب أن تستثمر بوعي وحس وطني عال, والسياسة العاقلة تتحين الأوقات الطيبة لتحقيق الإصلاح والتغيير, ولا تنتظر ان تضطر لذلك تحت الضغوط, ولم يعد السودان بعد كل هذه التجارب المريرة محتاجاً لإبرام اتفاقيات ثنائية مع هذا الطرف أو ذاك لمجرد أن يحمل سلاحاً يهدد السلطة, فالحكمة تقتضي الإقرار بأن الوقت قد حان لحل شامل للأزمة الوطنية السودانية بمخاطبة جذورها بما يحقق تحول سلمي ديمقراطي حقيقي يوفر نظاماً سياسياً عادلاً يجد فيه كل أبناء السودان أنفسهم.
وإطلاق عملية التوافق على دستور جديد للبلاد قد تشكل مدخلاً مناسباً لحوار جدي حقيقي جامع لا يقصي أحداً, ولكن ذلك يتطلب بالضرورة إطلاق عملية تتوفر لها المصداقية والشمول والثقة والبداية من نقطة جديدة ينطلق منها الجميع على قدم المساواة. وتبديد السانحة النادرة المتاحة اليوم تعني ببساطة أنه يجب علينا العد التنازلي لأزمتنا القادمة.

عن صحيفة إيلاف السودانية
الأربعاء 3 أكتوبر 2012

 

آراء