لقاء الدوحة.. المؤتلف والمختلف السوداني

 


 

 

تحليلات

أدبيات الحوار الوطني
إحياء الذات الوطنية
الرؤية الوطنية تشجيع وتخاذل
ظلّ الحوار السوداني – السوداني وعلى مدى أكثر من عقد من الزمان هو الغائب الأكبر بين المثقفين السودانيين. ولعل أقل ما يمكن أن يقال عن ذلك المناخ هو عدم القبول بالاختلاف مما عمل على اغتيال عملية الحوار . أما على المستوى السياسي ، فبالرغم من أنّ كثيراً من جلسات التفاوض عملت على إنهاء سنوات الحروب والأزمات ،إلا أنّ الحوار كان الحلقة الأضعف فيها وما تم كان في أغلب الأحوال نتيجة لضغوط دولية أو تغليب لمصلحة يراها الحاكمون. من هذه النقطة تنادى مفكرون ومثقفون سودانيون من مختلف المشارب والتوجهات إلى لقاء حواري في العاصمة القطرية (الدوحة) في شهري مايو وسبتمبر 2012م  ، ناقشوا فيها كيفية الوصول إلى حل شامل للأزمة الوطنية السودانية .فهل يُفضي الخروج من تلابيب الثقافة وبرجها العاجي باتجاه فضاء الحوار الوطني إلى حلّ للأزمة السودانية الراهنة؟
أدبيات الحوار الوطني:
لم يتم تفعيل مهارة الحوار الوطني الذي أمسى المثقفون في أشد الحاجة إليه منذ مؤتمر الخريجين عام 1938م . وقد التأم شمل الخريجين وقتها للعمل الوطني من أجل إخراج المستعمر البريطاني من السودان والذي تم في العام 1956م. ومنذ ثلاثينيات القرن الماضي لم تُستنطق آليات الحوار إلا في مايو الماضي في الدوحة كحاجة ماسة لإزالة الرواسب وتحييد الرؤى آحادية التفكير من أجل مصلحة الوطن . ومن خلال التسامي على الاختلافات والمرونة في معالجتها وتقبلها دعت مجموعة الدوحة إلى أن يتوافق الجميع ويتواضعوا على الوصول إلى مناخ منسجم ومستقر فكرياً  يؤدي إلى التوازن في العطاء ويعصم من بلوغ الخلاف حالة من التشظي الفكري.
وإزاء هذه الحالة التي ظل فيها السياسيون ينفردون بمناقشة الهم الوطني بمعزل عن المثقفين جاء هذا اللقاء ليوفر أسساً سليمة لبناء قاعدة فكرية وثقافية . وقد روعي في أن تمثل هذه المرجعية الفكرية  الضمير الوطني المنزه عن الانتماء لأي إثنية أو إقليم أو حزب أو تصنيف على أساس "الجندر" أو تقسيم على أساس حكومة ومعارضة.  وهو مما يُسهم في فتح قنوات الحوار الوطني لتمر من خلالها الرؤى الثقافية لتدعم الإرادة السياسية  فلا يغلب اعتبار على آخر ولا تتصاعد حدة المواجهات لتغليب وجهات النظر والحلول الفردية.
كان دور اللقاء  هو عقد حوار تحفيزي يناقش ويستقصي الوقائع والمتغيرات أكثر من كونه  أداة لوضع الحلول الجاهزة.  فما فطن له المثقفون أخيراً هو أنّ العجز عن حل مشكلات البلد كان بسبب تقاعس لقاءات السياسيين عن الوصول  بها إلى عمليات تفاعلية لا ترى في محاولة الآخر المختلف إلا مجرد اختراقات مرفوضة.
قادة الرأي والمثقفين السودانيين بوصفهم جزء من الشعب السوداني إئتلفوا في اختتام اللقاء التفاكري والذي رعاه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ، من مزيج الاختلاف وعملوا من أجل اللقاء في أقرب محطات التلاقي الوطني (الدوحة). عملت المجموعة على عرض ومناقشة أسس تطوير الحفاظ على اللحمة الوطنية ، مع ضرورة اعتراف النظام الحاكم والمعارضة بأنّ هناك أزمة حقيقية تمسك بخناق الوطن وأنّ كل اللقاءات السابقة وجلسات التفاوض لم تسفر عن حلول حقيقية للأزمة مما يضع نصب أعينهم ضرورة  العمل من أجل التسوية الوطنية عبر الحل السلمي،ومن ثم معالجة مشكلات الأزمة السودانية.
أمّن المثقفون والمفكرون في ندائهم لأهل السودان في ختام اللقاء على ضرورة أن يفضي هذا اللقاء إلى مؤتمر مائدة مستديرة يشارك فيها الجميع ولا يُقصي منها أحداً. وتعمد المائدة المستديرة إلى المخاطبة من أجل بناء أسس دولة المواطنة بهيكلة الدولة واحترام التنوع الثقافي وحسن إدارته . أما تحقيق السلام فبالإيقاف الفوري لإطلاق النار في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق ومعالجة تبعات الحرب وإقرار مبدأ العدالة . وقد جاء بند التحول الديمقراطي بالتأكيد على ديمقراطية الدولة السودانية ومدنيتها وفيدراليتها . كذلك تأكيد سيادة حكم القانون والفصل بين الحزب الحاكم والدولة وبين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية . ثم تأكيد التداول السلمي للسلطة وفق المعايير الدولية المستقرة وكفالة الحريات العامة والحقوق الأساسية. وضمان حيدة وقومية الخدمة المدنية والقوات النظامية ومؤسسات الدولة كافة وقيام الحكم على عقد اجتماعي يضمن حقوق الكافة  والتأكيد على ديمقراطية المنظمات الحزبية والمجتمعية.
ولأهمية الحوار الوطني  لا بد من تغيير منهج التفكير على أنّ أزمة الوطن أمر واقعي ولمعالجتها لا بد من الوعي بقيمة الحوار وغاياته بين أبناء الوطن ، وإدراك مفهوم الحوار الوطني حتى تُسدّ الثغرات الفكرية والثقافية في لقاء المختلفين.
إحياء الذات الوطنية:
جاء الحوار الوطني معبراً عن رغبة الرأي العام السوداني في تجديد وإحياء الذات الوطنية التي تفتت وتناثرت بسبب التعصب القبلي والجهوي والإثني .وما بقي منها تراكمت من فوقه الظلامات التاريخية عبر الزمن وبلغت حداً مع الاستقطاب السياسي والجهوي لم تعهده البلاد قبل أكثر من عقدين من الزمان . وما دعا أغلب المتفاوضين والمتحاورين السياسيين إلى التيئييس وعدم الثقة في مثل هذا التحاور هو تفاقم المظالم ووصولها حداً لم تجدِ معه الترضيات الفردية.
وإن أمّنَا على وجود صلة وثيقة بين الحوار والوحدة الوطنية فيمكننا أن نستنتج أنّ ما تم من مفاوضات بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان في مشاكوس 2002م ثم نيفاشا 2005م والتي أدت إلى انفصال الجنوب في يناير 2011م ، لم يكن حواراً .فقد كان فشلاً في إدارة حوارٍ يعمل من أجل الوحدة الوطنية، ويستقصي أدواء الاختلاف، ليخلق تفاهماً مشتركاً تزول به مشاعر العداء ويوصل بدلاً من أن يقطع، يحتوي الآخر ويقبله ضمن صيغة المواطنة رغم اختلافاته .
أما ما جاء بعدها من حوارات ومفاوضات لم يشارك فيها كل المواطنين لم تعمل إلا على تسكين آلام التقاتل لتزيد بعدها حدة الصراع بين المركز والأطراف وتواصل الحروب الأهلية في دارفور وجنوب كردفان ، وتهييء بعض المناطق كشرق السودان للانفجار أيضاً . وما وحّد جموع المثقفين على استدراك هذه الذات الوطنية أيضاً استشراء الأزمة الاقتصادية التي ارتفعت إلى أسوأ معدلاتها.
من الممكن انتشال الذات الوطنية من براثن التعصب بخلق مناخ قادر على تحقيق التعايش السلمي وقبول الآخر المختلف . فمن غير الممكن تحقيق انسجام وطني من دون تجديد الذات الوطنية .فلا يمكن تحقيق هذا الانسجام بغير إزالة حالات العداء المتجذّر بين بعض المكوّنات القبلية التي ركبت موجة السياسة والتسلح من بوابة المظالم . إذن هناك اختلاف وخلل في آلية التعامل مع المكونات المختلفة.فما يوفره لقاء المثقفين وحوارهم هو جهد جمعي يأخذ على عاتقه مهمة سد الثغرات وتذليل منطق عناق الآخر لإزالة رواسب العداء والقطيعة. وما يرجوه المواطنون أن يعمل اللقاء كذلك على استدامة الحوار باعتباره حاضن للتنوع والاختلاف داخل جسد الوطن ، حتى الوصول لحل للأزمة الماثلة أمامنا.
المثقفون أفراد ولكنهم بفضل الخصائص والميزات التي يتمتعون بها يمكنهم تجسير الهوة بين الاختلافات العصية بين أبناء الوطن ، ويمكنهم أن يؤثروا في مصير الدولة ومجتمعهم ، إلا أنّ تأثيرهم قد يكون مرتبطاً بتنظيم المجتمع ومدى مقدرتهم على إبراز موهبة إرادة التغيير. كما أنّه يرتبط بقوة المواقف الفكرية ومدى جودتها ، فما حدث بعد تيه الذات الوطنية أن زُلزل عرش الفكر بإجباره على عيش حالات الشتات . فغير شتات المكان، هناك عدم الاستقرار للأفكار نفسها وتصلب المواقف بعدم التحاور بين الأجيال وصعوبة التكيف والاندماج  بسبب التشبث بالماضي .
بهذا الحوار ينقذ المثقفون أنفسهم قبل إنقاذ الوطن لأنه عندما بُعثرت الذات الوطنية وهُمّش المثقفون ،غابت معاني الحوار الحقيقي .ولتحقيق هذه الغاية لا بد من مواصلة مشروع الحوار الثقافي والفكري الذي ينادي باحترام التنوع وتعدد الثقافات والأعراق والإثنيات، فإن اعترفنا بهذا التعدد فسوف نتعامل معه بشجاعة تنجح في إحياء الذات الوطنية من جديد.
الرؤية الوطنية ..تشجيع وتخاذل:
قد تبدو مرحلة متقدمة أن يتم طرح مفهوم التشاركية بعد النداء للمائدة المستديرة الجامعة . ولكن حتى لا يكون ما دار عبارة عن " تهويمات" مثقفين فلا بد من الوصول لصيغة واضحة للتعبير عن العلاقة بين جهاز الدولة ومواطنيها . فما يتوقعه الشعب أن تتنزل عملية اتخاذ القرارات وإدارة الحكم إلى حيث يكون في وسع المواطنين الوعي بالعمل السياسي بما يناسب مصالحهم ويحقق مطالبهم. وتحقيق هذه المطالب القومية من الممكن أن ينتج مجتمعاً مندمجاً ومتجاوزاً للتعصب القبلي والطائفي والإثني. يسهم هذ المجتمع في تثبيت أسس الديمقراطية المرجوة التي يطمئن فيها المواطن إلى حقوقه المتساوية مع غيره دون تمييز ، والاعتراف بأنه ضمن مكونات المجتمع السوداني الذي تربطه الوشائج الوطنية مع بقية الكيانات .فعندما يحمل المنتدون روح لقاء الدوحة إلى الخرطوم يُتوقع منهم المطالبة بهذه التشاركية كحل لعجز الدولة المتزايد في تلبية الحاجات الأساسية للمواطنين.
إنّ تجارب إعلاء القوميات التي عملت على الرفع من شأن ثقافة والتقليل من شأن أخرى ، فشلت من قبل في نسب الانتماء السوداني إلى العروبة ، كما فشلت الأفريقانية في التطبيق متجاوزة بقية القوميات .نظرياً يمكن لكل قومية أن تنطوي معتزة بذاتها ولكن عملياً أصبح واضحاً لهذه النخب المثقفة ذات العلاقة بالواقع السياسي أنّ طبيعة الأزمة تتجاوز حدود القومية الواحدة في تعايشها مع القوميات الأخرى .وذلك بسبب أنّ الغالبية لا تزال غير واعية بحدود النهج السوداني فوق الوطني، الذي حال دون تحول السودان إلى دولة مدنية ديمقراطية حديثة. وللوصول بالحوار إلى وضع أكثر رحابة لا بد من الخروج من ضيق الذات إلى سعة الجمع الذي تنصهر فيه الرؤية الوطنية الشاملة والتي من المفترض إنطلاقها من الخطوط النظرية إلى العملية ، لتصحيح المسار السياسي للحكومة والمعارضة معاً .
يأتي خذلان الرؤية الوطنية من آراء بعض المثقفين المتشككين في القدرة على التغيير .فليس هناك من عيب بأن يعوّل اللقاء التفاكري على المثقفين مثلما جاء في انتقاد د. حيدر إبراهيم علي، الذي شارك في اللقاء الأول واعتذر عن الثاني بعد أن استدرك قناعاته بألا جدوى من التفاؤل والطموح في وضع حلول جذرية تخترق عجز المعارضة عن إبدال الحال.وإن أضعف هذه الحجة إيغالها في طموح وتفاؤل غير مستحق كونه أتى من قبيلة المثقفين فحريّ بنا أن نسلّم بأنه سبحانه يضع سره في أضعف خلقه.
كشف لقاء الدوحة مستور حاجة ثقافتنا السودانية إلى إحلال حواري يمارس فيه المواطن السوداني حقه في اكتساب أدبيات التواصل مع ذاته ومع الآخرين من حوله . فالصراعات السياسية المختلفة التي مرّ بها السودان وما زال أفقدت إنسانه ذاتاً منصتة ومحاورة ،فأصبحت جلّ المفاوضات الثنائية بين المتصارعين عبارة عن حوار الغريب مع آخر متحوّل ذاتاً ومعنى .
ما أحوجنا إلى عناق الآخر والاحتفاء باختلافنا معه ، ففي هذه النظرة الكلية لأزمة الوطن يبلغ السلوك مراقي الفضيلة حتى ولو لم تبلغ المحاولات النجاح.  فتثقيف السياسة هو ليس مجرد قناعات فكرية وإنما  قيم تعمل في إطار عملية التحول الديمقراطي بحوار عقلاني جامع . 
عن موقع "الجزيرة نت"
moaney [moaney15@yahoo.com]

 

آراء