“هذه الظاهرة الفريدة أشك في أنها تتكرر”

 


 

 


في البدء أرجو أن أشير إلى أن هذا العنوان ليس من أقوالي وإنما اقتبسته وأنا أتابع عبر التلفاز حديث القيادي بالحركة الإسلامية السودانية مهدي ابراهيم وهو يقدّم رئيس الجمهورية عمر أحمد البشير لإلقاء كلمته في جلسة الخميس 15 نوفمبر 2012 للمؤتمر الثامن للحركة الإسلامية السودانية.
فصيل الأمين العام للجبهة الإسلامية السودانية علي عثمان طه والبشير والموالين لهم يعقدون مؤتمرهم الثامن، بينما يقاطعه الفصيل الآخر بقيادة المؤسس الدكتور حسن الترابي، ولأن الفجور في الخصومة باللفظية والمضمون المطلقين قد نهَى عنهما الإسلام، فلا ضير والحال كذلك أن نرمي ما يحدث بين الفصيلين بأنها خصومة سياسية يحق لكل منكم أن يزن فجورها من عدمه بميزانه، وحيث أن الإسلام نفسه في دائرة الممتطين لصهوته مخنوق لا يقوى على التنفّس، فليس من الحِكمة أن يُطلب من الفصيلين الخير وقد تجاوزا الأيام الثلاثة من الخصومة بعشرة سنين دون أن يبدأ أحدهما بالسلام لكي يكسب خيرية من يبدأ، لا أريد أن أُبسّط ما هو كبير في واقعه ولكني أردت بهذا المدخل أن أدغدغ عنوان المقال ولا أهزّه رغم إدراكنا بأن هزّ الشجرة تُساقط رطباً جنيّة بينما الدغدغة قد تُفقِد صاحبها الوقار فينكشف عنده المستور، وعلى أي حال ليس فيما أورده مستوراً وإنما نقرأ فقط ما بين السطور من باب التذكير من خلال الكبائر التالية.
إنفصال الجنوب
ينعقد المؤتمر في ظل سودان واحد أصبح إثنين بفضل سياسات تنظيم البشير وهو الجبهة الإسلامية، وحتى لا يجنح صائدو السوانح من التنظيم للتمطّي كعادتهم في الجدال لإثبات أن ما تم هو تمكين الإخوة الجنوبيين من تقرير مصيرهم بحسبانه حق مشروع، اذكّرهم بأن ما أذهب إليه هنا لا يمس ذلك الحق الأصيل للجنوبيين أو لغيرهم، كما أنه ليس موضع حديثي أو مقالي وإنما أُسلّط الضوء على الجزئية المتعلقة بالفشل في تهيئة المناخ الموائم ليختاروا الوحدة، وكيف يختارونها وقد أباد النظام قرابة إثنين مليون مواطن جنوبي هم ربع سكان الجنوب تقريباً، ألا يُعتبر هذا الفشل أحد الكبائر في حق الوطن؟.
الحرب ضد الشعب
ينعقد المؤتمر وما زالت الحرب التي أشعلها البشير وتنظيمه مشتعلة ومستعرّة ومتعمّقة في جراحها في دارفور وكردفان والنيل الأزرق والشرق، ووخز مؤلم أيضاً في الجزيرة وفي بعض مناطق الشمال، وقد أباد البشير وتنظيمه المستفرد بالسلطة ما لا يقل عن أربعمائة ألف مواطن، وشرّد قرابة ثلاثة ملايين آخرين بين نازح ولاجئ وهائم لمجرّد أن الناس قد طالبوا بحقوقهم وهم الذين ظلّوا أوفياء في واجباتهم تجاه وطنهم، وبأسباب ما جرى في دارفور فقد أصبح رأس النظام مطالباً للمثول أمام المحكمة الجنائية الدولية بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وجرائم إبادة، في سابقة لم يُسجّلها لا رئيس ولا مرؤوس في أي بقعة من بقاع العالم. أي كبيرة في حق الوطن تُضاحي هذه الكبيرة؟.
التنكيل والقمع وكبت الحريات
بدأ التنظيم المستفرد بالسلطة عهده بكبت الحريات ومواجهة الحُجّة بحجبها وتكميم الأفواه والتنكيل بكل صوت مجاهر بالحق والحقيقة فيما ابتدعته من بيتوت للأشباح، وامتدّت يده لتخريب الخدمة المدنية وتقزيم القوات النظامية وتحوير دورها الأساسي وتغيير عقيدتها لجعل المواطن عدّواً لها، كما أعاد معايرة بوصلتها فوجّهتها نحو الوطن والمواطنين فقط، بينما ينبغي أن تكون موجّهة نحو الحدود الخارجية لحمايتها. النظام بسبب تجاوزاته في حقوق الإنسان لم يجد بداً سوى أن يبصم على تواجد جيوش عديدة براياتها وبزّاتها في داخل الوطن يشاركونه السيادة الموؤدة ومِن ثم يكملوا تشييعها، تُرى كيف لمثل هذه الكبيرة أن لا تكون فريدة؟.
الفقر والجوع والمرض
ما الذي يمكن أن يقال في ذلك، فالحال يغني عن أي حديث، لا تتسع مواعين المفردات لحجم الكارثة وأبعادها، الفقر والجوع والمرض يتبخترون في الساحات، يطاردون المواطن في كل حارة وفي كل بيت وفي كل شارع وفي كل زقاق، والنظام يترّنم في الأجهزة الإعلامية وفي كل المنابر المتاحة وغير المتاحة مرددأ أن الشعب يتمرّغ متنعّماً، أغريب أن يتربّع السودان ثالثاً في قائمة الدول الفاشلة لثلاثة أعوام متتالية، أغريب أن يسجّل الأرقام القياسية العائبة في ظل استفراد هذا التنظيم بالسلطة؟ أي كبائر هذه؟.
دعم الإرهاب
الإعتراف هو سيد الأدلّة، فقد اعترف النظام النابع من التنظيم في أكثر من تصريح لمسئوليه، وفي أكثر من مناسبة بأنه قد دعم أناس متّهمون بالإرهاب في دولهم وغيرها، وساوم بعضهم بمصالحه فسلّمهم لجلاديهم بينما فر آخرون ناجين بجلودهم من البيع وقد كادوا أن يباعوا، في خيانة للعهود وتجاوز لحقوق واستحقاقات الإستجارة إن جازت بالمعنيين المشار إليهم تعميماً، فعل النظام ذلك لأنه فشل في إدراك أنه لا يملك مشروع حضاري، أو أنه لا يَعيه أو أنه عجز عن تقديم صياغة أيدلوجية محاجِجَة تستميل الفطرة الإنسانية وتتفاعل معها وتمنطق لإزالة الضيعة المرتسمة بين النظر والأفق لدى الحالمين والمحرومين فتقنعهم ليتبنونها أو ينشدونها ثم يعملون على تفوّيض رُعاتها كصيغة لتنظيم يحكم بدلاً مِن أن تُصدّر إليهم في دولهم قسراً، لذلك كان لا بد من الإستيلاء على إرادتهم وتخريبها بدءً بالسودان وهو ما فعله، وكان الحصاد أن فتح النظام على الوطن اعصار الحصار ثم ركن آوياً مستكمناً ومستجيراً بالشعب نفسه. ما الذي بقي من وصف لتكون هذه كبيرة في حق الوطن وأهله؟.
لم يفتح الله على المتحدثين من ضيوف المؤتمر القادمين من خارج الحدود الجغرافية للسودان أن يعملوا بمضمون القول "أنُصر أخاك ظالماً أو مظلوماً" ولما كانوا قطعاً ناصريه إذا كان مظلوماً، بيد أن أخاهم لم يُظلم في بلاد السودان، فقد شارك في كل حكوماته الديموقراطية والشمولية، فلم يُعذّب ولم يقتّل ولم تُحجر حريته إلا بقدر ما ناب الآخرين من حجر، ومع كل ذلك آثر تقويض النظام الديموقراطي عندما أدرك استحالة بلوغه للسلطة عبر التنافس الديموقراطي الحر النزيه، فعمد إلى الإستيلاء والإستفراد بالسلطة فبغى وظلم، كان الأولى أن يذكّروه أو يعنّفوه أو يقوّموه تجاه ما يفعل في شعبه تحقيقاً لمضمون القول المأثور، لكن الملامسات الناعمة قولاً على بغيّه وبئس رشده ذمّاً بما يُشبه المدح يعضض المخاوف التي تخيّم على كثير من شعوب الربيع العربي وقد ناء ربيعها بحمل صيفي غائظ، حقّاً، أنّى لنا بماء من سراب عابر.
الرئيس عمر حسن أحمد البشير هو قائد مسيرة التنظيم في الحكم، وقد فعل بالشعب والوطن كل تلك الكبائر وأكثر يعلمها القاصي والداني بما لم يسبقه أحد من قبل، وقد بحثت عن سيرة العديد من الطغاة الذين برعوا في التنكيل بشعوبهم ودمّروا أوطانهم عن عمد إما لإرضاء دواخل لا يعلمها بالطبع إلا خالقها، أو عن جهل فيما اعتقدوا بأنهم إنما كانوا يصلحون، إلا أنني لم اهتد إلى نموذج يتوافق مع النموذج السوداني، لا سيما في هذا العصر الذي توفّرت فيه كل وسائل المعرفة والرشد والرقابة والتقويم والتواصل والمواثيق الإقليمية والدولية، فتوقفت عند كلمات مهدي إبراهيم حين وصف ما أسماه بتحمّل البشير من مسئوليات السلطة وكيد الأعداء والحصار المضروب على النظام ومطالبات المحكمة الجنائية الدولية المدعومة كما قال من "أمريكا" له بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وجرائم إبادة، وكيف أنه تحدّى كل ذلك فسافر في القارة الأفريقية غرباً وجنوباً وإلى الخليج وشرقاً حتى الصين، قال مهدي إبراهيم قولته التي قطع بها قول كل خطيب "هذه الظاهرة الفريدة أشك في أنها تتكرر"! فقد صدق مهدي إبراهيم بغض النظر عن المضمون الذي يعنيه مدحاً أو قدحاً، بيد أن اللبيب يمكنه قراءة ما يعني، تُرى هل ذلك من فواح بعض النوازع "الخلافية" التي بدأت ترشح من داخل الفصيل عبر بوابة المؤتمر؟ عودوا إلى خاتمة كلمة خالد مشعل في المؤتمر لعلكم تستنبطون شيئاَ مما يجري.

16 نوفمبر 2012م

Abdul Jabbar Dosa [jabdosa@yahoo.com]

 

آراء