السودان.. الصراع بين مؤسسات الحكم
تحليلات
أزمة الجيش
أتون الصراع
مذكرات الإصلاح
لم تفكّ الرسالة التي بعثت بها مجموعة الإصلاحيين إلى الرئيس السوداني عمر البشير طلاسم المحاولة الإنقلابية الأخيرة والتي حدثت في 21 نوفمبر /تشرين الثاني 2012م.فقد اتهمت الحكومة السودانية كلاً من القائد السابق لجهاز الأمن الوطني والمخابرات الفريق صلاح قوش ومجموعة من الضباط على رأسهم العميد محمد إبراهيم عبد الجليل بالتخطيط لعمل تخريبي وكلاهما ينتميان إلى الحركة الإسلامية. ولكن المحاولة التي لم تنجح عسكرياً نجحت سياسياً بأن لفتت نظر الشارع السوداني إلى مؤسسة الجيش التي تكنّ لها فائق الإحترام والتي لازمها سوء الحظ مرتين، مرة بموالاة الحركة الإسلامية في انقلاب الإنقاذ 1989م ،والذي ما زالت تتحمل وزره إلى اليوم، وأخرى بإعادة الكرة بالمحاولة الإنقلابية الأخيرة. وخلال الفترة بين المحاولتين كان الجيش بمثابة صمام أمان بالنسبة للوطن والمواطنين ، ولكن قوميته الآخذة في التلاشي وأسراره التي تبدت للعلن جعلت من كينونته مثار جدل ونهباً للصراعات مع المؤسسات الأخرى الحارسة لأسوار السلطة.
أزمة الجيش :
ولد الجيش السوداني كمؤِسسة دولة ،من رحم التاريخ الذي شكّل استقلال السودان وشقّ لنفسه طريقاً عبر مخاض ونضال وطني عسير. ووفقاً لهذه التركيبة المبدأية فقد ضم بين جنباته نماذج من جميع مكونات الشعب السوداني كانت تتم وفق شروط ومعايير أخلاقية ووطنية.قاتل الجيش السوداني من أجل وحدة الوطن، وبعد أن تم إنفصال الجنوب وجد أنّ واجبه تحوّل إلى مهمة أصعب وهي الحفاظ على وجود الوطن نفسه. لم يكن الجيش السوداني حامياً لحمى الوطن فحسب وإنما كان ملاذاً آمناً وحصناً منيعاً ضد التصدّع والإنكسار.
لا يستطيع أحد أن يجزم بأن الجيش تم استخدامه لإدارة صراع الحكم ولكن مما يبدو أنه تم توظيف ظرفه ، خاصة بعد الإخفاقات الكبيرة التي لازمته في الفترة الأخيرة. ورغم الحقيقة الناصعة بتبني المؤسسة العسكرية لمشروع الإنقاذ ومنافحتها عنه إلّا أن لا أحد يحتمل أن تُدمغ هذه المؤسسة بالمواصلة في موالاة أي نظام سياسي حتى ولو كان النظام الحاكم. لم يعد هذان التصوران ضبابيان، فخلال عقد التسعينات بدأت تصيب مؤسسة الدولة شروخ الإنقسام، وبعد انفصال الجنوب انقسمت فعلاً على المستويين السياسي والعسكري، وذلك يتضح من أنّ الحكومة حزباً ومؤسسة عسكرية كانت فيما قبل موحدة ضد عدو واحد، أما الآن فقد انقلبت تواجه ذات الدولة المتشظية في أركانها الأربعة .
استمدت عناصر المحاولة الانقلابية قوتها من ضعف النظام ،فالصراع الجاري الآن بين مؤسسة الجيش وجهاز الأمن الوطني خاصة بعد دمج جهاز المخابرات فيه، بدأ يدق ناقوس الخطر على مؤسسة الحكم ويتجاوز الصراع الأفقي إلى مستوىً آخر رأسي بدأ بمحاولة الإنقلاب .
وقد تحولت ما كان يُظن أنها قوة إلى ضعف، فلم يجيء ضعف مؤسسة الجيش فجأة وإنما بدأت تتآكل من الداخل في مواجهة جملة من التحديات تمثلت في الصراعات الداخلية مع جهاز الأمن والتي كان أبرزها ما أُثير حول هجوم حركة العدل والمساواة على مدينة أمدرمان في مايو/ أيار 2008م ، من وجود خلاف بين الجيش وجهاز الأمن الوطني ، تصدى بعدها الأخير مع قوات الشرطة لإدارة المعركة بعد استبعاد الجيش. ومنذ ذلك الحين وصلت للشعب السوداني رسالة علنية بثتها وسائل الإعلام باستعراض قوات الأمن لإمكانياتها وكيفية صدها للهجوم ومفادها موازاة قوات جهاز الأمن للقوات المسلحة كتفاً بكتف وسلاحاً بسلاح ليدخل الساحة لاعبون جدد أكثر شراسة.
أما التحدي الأطول في هذه المنظومة فهو مشكلة جنوب السودان التي أخذت تنخر في تكوين الجيش السوداني وتمتحن صلابته طيلة أكثر من النصف قرن الفائتة ، إلى أن تحقق إنفصال الجنوب في يناير/كانون الثاني 2011م . وقد ترك الإنفصال ثغرة أمنية واستراتيجية تم من خلالها احتلال مدينة هجليج التي تقع جنوب السودان الجديد والمعروفة بإنتاج النفط ، وذلك في أبريل/نيسان 2012م إلى أن تم انسحاب جيش جنوب السودان في نفس الشهر بناءً على نداءات مجلس الأمن. وكذلك تحول الاقتتال إلى جنوب السودان الجديد في ولايتي النيل الأزرق وجنوبي كردفان. ثم مواجهة الحركات المسلحة في إقليم دارفور واتحادها مع الحركة الشعبية لتحرير السودان فيما يسمى بالجبهة الثورية . وكذلك تزايد المطالبات بحل قضية شرق السودان. ثم التحديات الخارجية التي تمثلت في القصف الإسرائيلي لمدينة بورتسودان شرق البلاد في أبريل/ نيسان 2011م، ثم تكرار القصف الإسرائيلي لمصنع اليرموك الحربي جنوبي الخرطوم في أكتوبر/تشرين الأول 2012م .
أتون الصراع :
لم يزرع السودان نظاماً ديمقراطياً حقيقياً من قبل حتى يحصد الآن ثورة شعبية أخرى تحاكي ثورة أكتوبر/تشرين الأول 1964م وثورة أبريل/ نيسان 1985م اللتين جاءتا في ظروف خدمت نجاحهما ، وإنما يحصد اليوم صراع السلطة الحاكمة مع أحزاب المعارضة والإثنيات القبلية المتجذرة في تكوينه من جهة.ومن جهة أخرى يتجرّع نتاج الصراع العسكري الذي بقيت فيه القوات المسلحة لاعباً أساسياً مع جهاز الأمن الوطني والذي سعى بدوره إلى تحجيم نفوذ القوات المسلحة سواءً بالتصريحات أو المبادرات أو الأفعال مدعوماً بطموحاته اللا محدودة في لعب دور خاص وعميق .
إنّ أزمة الدولة السودانية لا تقتصر على غياب الديمقراطية وحدها وإنما تتمثل أيضاً في تفشي الفساد السياسي والإداري والمالي والإقتصادي والذي أدى إلى الإنهيار الاجتماعي. ولن يتم التوصل إلى حل إلا في إطار تصور شامل لحل كل المشاكل التي قادت إلى هذه الأزمة وأولها أزمة الجيش الذي تتجسد فيه رمزية كرامة الوطن وعزته.
إنّ الصراع القائم بين المؤسستين العسكريتين الجيش والأمن الآن متعدد الجوانب وأطرافه تضرب في مصالح فئوية وشخصية بعيدة عن الهم العام، لذا رأت هاتين المؤسستين أن تحلّ لنفسيهما ما حرمته على غيرها وهو الدخول إلى عالم السياسة من أوسع أبوابها، وكانت النتيجة أن فقدنا الإثنين وأصبحت الحصيلة جيشٌ وأمنٌ مُسيّسان ،وسياسيون مسلحون بتحالف أحزابهم مع الحركات المسلحة.
وبالرغم من إطمئنان الحكومة العلني إلى أنه يصعب قيام إنقلاب عسكري من داخل مؤسسة الجيش مرة أخرى باعتبار أنّ ثلاثة وعشرون عاماً كافية لتجنيد رتب عسكرية تدين بالولاء والطاعة للنظام الحاكم وحمايته حسب ما رشح من بعض أعضاء حزب المؤتمر الوطني الحاكم، إلا أنّ الزج بجهاز الأمن وتسريع المواجهة بينه وبين الجيش والذي لم يكن واضحاً في البداية، خدم بشكل مباشر غرض النظام وكشف سرّ توجسه من محاولات تغييره . إنّ استراتيجية الصراع هنا ليست معنية بتوجيه القوة نحو الخصم بقدر ما هي استغلال لنقاط ضعفه. وبما أنّ المؤسستين العسكريتين لم تكونا في مصاف الأعداء فإنّ ما حدث ويحدث الآن هو صراعات شركاء على قدر كبير من المنافسة والاختلاف.
لم تكن الحكومة السودانية واضحة وصريحة بشأن الإعلان عن محاولة الإنقلاب، فقد كان من الصعب عليها أن ترى مؤسستها العسكرية شريكة للمعارضة في هدف تغيير النظام لما تعانيه هذه المعارضة السياسية من تفكك واتصال بالعمل المسلح. وهكذا يواجه الحكومة تشابك دورها بين أن تكون في منتصف الطريق بين أزمة الدولة وأزمة المؤسسة العسكرية مما يهز من توازن هذه المؤسسات ، وبين استعادة سيطرتها على هذه المؤسسات الحيوية وهو ما لا يُعتبر ملائماً في الوقت الحالي.
وهذه المحاولة الإنقلابية للإطاحة بنظام الحكم في السودان هي الثالثة من نوعها ، فهي تمت من قِبل إسلاميين وشركاء في حكومة الإنقاذ.فهذه المجموعة التي أطلقت على نفسها اسم (السائحين) تتكون من (تجمع مجاهدي الحركة الاسلامية) ،أما المحاولتين السابقتين فقد تمتا بعد المفاصلة الرمضانية بين الإسلاميين في 1999م إثر مذكرة العشرة والتي أدت إلى إنشقاق د.حسن الترابي وتكوين حزب المؤتمر الشعبي. أما عن فرضية علاقة الجيش والمجموعة التي تبنت الدفاع عن محاولة الإنقلاب ببعض الأحزاب السياسية المعارضة خاصة حزب المؤتمر الشعبي، فإنّ هذه العلاقة تُعتبر خصماً على مؤسسية الجيش. فغير الخروج عن حالة الحياد بانتماء الجيش للأمة السودانية وفقاً لدوره القومي ، هنالك الضعف البائن في أداء أحزاب المعارضة وسوء إدارتها التي من المتوقع أن تنعكس على انضباط الجيش وفاعليته وكفاءته المهنية .
مذكرات الإصلاح:
ارتضت مجموعة الإصلاحيين أو السائحين أن تحمل وزر ثلاثة وعشرين عاماً هي عمر الإنقاذ بالإنابة. فقد نددت بالفساد تارة ، وطالبت بإقامة نظام ديمقراطي تارة أخرى. وحيث أنّ هذه المطالب هي مطالب شعبية في المقام الأول، نادت بها جميع أحزاب المعارضة فقد تم فهم الصيغة كمؤامرة جديدة تُحاك في دهاليز حزب المؤتمر الوطني الحاكم، أو كإعادة انتاج مسرحية سيئة الإخراج ، كما تم الترويج لذلك إزاء العجز عن فهم أسرار وطبيعة المحاولة الإنقلابية .ولكن معطيات الحدث لا تشي بأنها مناورة ضمنية بقدر ما تعكس خيبة أمل الإصلاحيين في حكومتهم التي جاءوا بها بعد إنقلاب عسكري في يونيو /حزيران 1989م.
تتمثل بوادر الحل المقترح في ما ختمت به مذكرة السائحين مخاطبتها للرئيس عمر البشير في أن يخرج بقرارات تحل الأزمة، مرفقة اعتذاراً ضمنياً بلجوئها إلى هذا الحل الذي دفعهم إليه وزير الدفاع عبد الرحيم محمد حسين. فقد بينوا صراحة أنّ عهد وزير الدفاع الحالي شهد انتكاسات عديدة مثل قصف بورتسودان ومصنع اليرموك واحتلال كاودا وهجليج.كما انتقدوا إحالة رئيس جهاز الأمن صلاح قوش وبعض قادة الاستخبارات إلى التقاعد بسبب تقديمهم النصح والمشورة لوزير الدفاع .
إنّ قوة الرسالة الموجهة إلى مؤسسة الحكم لم تدرس استراتيجيتها بنفس الطريقة التي حسمت بها أمر وجهتها، مما جعلها مباشرة وأكثر جرأة بالنسبة للشعب السوداني وللمراقبين. ونعتُ المحاولة بالجريئة هو لأنها من نفس الصنف الذي جربّه الشعب السوداني على مدى ثلاثة وعشرون عاماً. أما سبب هذه الجرأة فهو أولاً لأنّ مجموعة السائحين رأت أنّ الحكومة في مؤتمر الحركة الإسلامية الأخير والذي تم عقده منتصف الشهر الماضي ،أنها تحاور نفسها مما استيئست معه أي بوادر للإصلاح. ثانياً العزلة التي ألمت بأطراف الحكومة وأبنائها الذين أخلصوا لها في سنوات النظام الأولى، وأخذت تنتظر رداً للجميل يتشكل ولو في سياسات إصلاحية نادت بها عبر مذكرات تكرر إرسالها دونما مجيب.
بالرغم من تاريخ كفاءة مؤسسة الجيش في مجال المعارك إلا أنّ تغلغلها في جهاز الدولة وسياسة تعريتها من ملامحها التي عُرفت بها ساهم في أن تصبح هي والمعارضة في الهمّ سواء ، ألا وهو انتزاع السلطة ممن تراه مؤسسة الجيش حزباً حليفاً هو المؤتمر الوطني الحاكم ،وتراه المعارضة مؤسسة عسكرية هي أساس حكم الإنقاذ .
هذا هو الجيش السوداني ، الحاضر الغائب الذي أُريد أن يُقدّمَ قرباناً يزكي نار الصراعات بين مؤسسات الدولة العسكرية، وأصبح فيما بعد ينتظر من يتحدث باسمه مثلما فعلت مجموعة "السائحين". وباستعارة مقولة الجنرال الفرنسي شارل ديغول الشهيرة :"الجيش الفرنسي ملك لفرنسا، وليست فرنسا ملك للجيش الفرنسي"، يمكننا في ظل انتظار أن تأخذ الحكومة السودانية قراراتها السياسية بدلاً عن تمريرها إلى حلبة "حرب الظلال" بين مؤسساتها العسكرية ،أن نقول أيضاً :" الجيش السوداني ملكٌ للسودان وليس السودان ملكٌ للجيش السوداني".
"عن الجزيرة نت"
moaney [moaney15@yahoo.com]