عندما ينطق التاريخ … ذكريات وزير (5)

 


 

 



mohamed@badawi.de

(في رحاب الإمام عبدالرحمن المهدي)
كانت تربطني بالإمام عبد الرحمن المهدي صداقة حميمة جدًّا وكان يقدرني ويعزني أيما معزة. فعندما علم بأنني تركت العمل في الدوائر الحكومية أوكلني - بعد إلحاحه  عليّ – بتوليّ مقالد سكرتارية (زواج الكورة) وشؤونها. كان الإمام عبد الرحمن المهدي يقيم هذه الاحتفالات الزوجيّة ليُمكّن المساكين من الزواج بمهر قدره جنيهين. ودأبت في هذا المنصب الفخري لمدة ثلاث سنوات بمثابة سكرتير اللجنة. ذات يوم دعاني الإمام لرؤيته فقلت في نفسي، اللهم اجعله خيرا. فعندما أتيته رحب بقدومي ببشر وغبطة، قائلا لي في هدوء وسكنية:
- مضى الآن مائة عام على مولد الإمام المهدي، وأنا أودّ أن نقيم احتفالا لنحيي ذكراه وأتمنى من كل قلبي أن تتحدث يا بدوي عن ميلاده وحياته لأنك أهل لذلك. ففي يوم الاحتفال جاء الإمام عبد الرحمن في هيبته وجلاله نحوي ووضع في يدي اليمنى قصاصة صغيرة من الورق تنطوي على كلمته، قال لي متوسلاً:
- بالله يا بدوي تحدث عنه واذكر أن الإمام المهدي لو كان حيّا لدافع عن زواج الكورة؛ لأن البعض يقولون أن ال ٢ جنيه مبلغ باهظ وغير شرعي في حقّ الكثيرين من الناس، بل ويغالون أنها قروش كثيرة لا قبل لهم بها.
عندما حان وقت كلمتي صعدت إلى المنبر وتحدثت عن الإمام المهدي وعن كفاحه ضد الاستعمار - علما بأن أبي حارب معه وكنت احتفظ ببيتي الجديد بسيفه الذي شارك به مع المهدي في المعارك. وكنت عدا ذلك أقدم الخطباء في الاحتفال ذاكراً سيرهم الذاتية بصورة عابرة بصفتي سكرتير لجنة زواج الكورة.
عندما نزلت من على المنبر أتي نحوي السيد محمد الخليفة شريف في خيلاءه المعهودة وكنت أظنه قد أتي مهنئاً فقال لي متهكما:
- يا بدوي لخبطت علينا التاريخ!!
تجهم وجهي واعتراني امتعاض إثر سماعي قولته هذه. اغتظت وامتلأت حنقا على هذا النكران فرمحته بنظرة صارمة دون أن أردّ عليه أو أنبس بكلمة. اجتمعنا بعد نهاية الاحتفال في قصر الإمام عبد الرحمن ودعاني أجلس بقربه، فجلست إليه جنباً إلى جنب وبادرني قائلا:
- الظاهر يا بدوي أنك تحبني حبّا جمّا لأنك عبرت عما في ضميري ودخيلتي. وأنا لو أنني قرأت كلمتك من قبل لما أعطيتك كلمتي لتلقيها. وأنا شاكر لك كل الشكر جزل بلاغتك ورصانة كلمك المتقن وإلمامك الموسوعي بالتاريخ.
كان المجلس يضم السيد محمد الخليفة شريف وقد استرق السمع لما قاله الإمام عبد الرحمن فعلق قائلا:
- والله يا سيدي، السيد بدوي ده أتاريه زول فاهم!
حدجته بنظرة قائلا له في نفسي: "ما قلت قبل شوية لخبطت علينا التاريخ؟!"

شاءت الأقدار أن ألتقي في يوم الاحتفال صديق قديم بقصر الإمام عبد الرحمن. سعدت برؤيته أيما سعادة فلم أراه مدة غيابه للعمل بتشاد ونيجيريا: الأمين عبد الرحمن كان تاجرا محترما يعمل في مدينة أبشي في تشاد. تصافحنا وتقالدنا وهنأني بحرارة وإكبار على كلمتي فأعلن اعجابه بها. سألني عن حالي فأخبرته أنني قد تركت العمل الحكومي منذ فترة وأعمل الآن تاجرا في أرض الله الواسعة. أخبرته أنه بسبب الحرب العالمية الثانية حصر الإنجليز التعامل في فئة قليلة من التجار القدامى ممن يثقون بهم. فعرض عليّ أن آتي إلى ميدوغري مقترحا:
- تعال أهلا بك في ميدوغري وإن كنت تملك مبلغا من المال فاشتري به ذهب واحضره معك.
وكان كذلك. اشتريت بما ادخرته من المال وما تبقى من المكافأة ما أوصاني به. سافرت بعدئذ بالقطار إلى الأبيض لوداع اسرتي  ومنها ركبت اللواري قاصدا أبشي ومنها لفورتلامي ثم إلى ميدوغري. دامت الرحلة ٢٠ يوماً في شتاء قارص ومتعب وعبر الوديان وكثبان الرمال المترامية على حدود السودان الفرنسي إلى أن بلغت ضارتي المنشودة.
طاب بي المقام في ميدوغري وبدأت في عمل تصدير الجلود. شرعت فيما بعد في تصدير جلود الورل، الأصلة والتماسيح بالطائرة التي ظهرت في نفس فترة مجيئي إلى هناك. كنت أتعامل مع تجار في فلسطين وكانت الأرض المقدسة إذذاك تحت الاحتلال الإنجليزي. كما كنت أصدرها لمرسيليا (فرنسا). وربت أرباحي في وقت قصير فصرت متيسر الحال وبدأت في توسيع رقعتي الجغرافية في شراء وبيع الجلود وبدأت العمل من نيجيريا منفتحا على آخر بقاع العالم.
//////////////////

 

آراء