الإسلاميون، ولكن المدنيون أيضا، أمام امتحان الديموقراطية
عبد العزيز حسين الصاوي
12 January, 2013
12 January, 2013
بينما يترنح الاسلاميون المصريون عليحافة السقوط في امتحان الديموقراطية العملي، يتعين علي ممثلي الطرف الاخر الموصوف ب " المدني" في الاستخدام الاعلامي الراهن، ألا يفترضوا إنهم أكثر تأهيلا لاجتياز مثل هذا الامتحان. فالشاهد هو ان هناك سمة أساسية مشتركة بين الطرفين تجّسر فجوة إمكانية وجود اختلاف ملموس في صلاحيتهما كرافعتين للتحول الديموقراطي وهي إنهما ينتميان من حيث التكوين القيادي إلى شرائح ( حديثة ) في مجتمع يمور بمعوقات الديموقراطية، فهذه، وفق مواصفات منشأها الاوروبي، نتاج عملية تحديث مستمرة منذ ثلاثة قرون تقريبا. في توضيح ذلك،بعيدا عن الانغمار في الجدل حول الحداثة وما بعدها في مآلات النموذج الاوروبى، المقصود بمصطلح التحديث ومشتقاته هنا هو التغيير المتميز بشموله لكافة وجوه الحياة مقرونا بالأستدامة.قيادات الطرفين وناشطيهما هي، في معظمها، مدينية منبعها الطبقي فئات البورجوازية الصغيرة والوسطي تلقت تعليما غير تقليدي وتمتهن مهناً من نفس النوعية غير انها لا تشكل رأس جبل جليد من نوعها بل هى رأس مقطوع يعوم في بحر من التقليدية.
مايحد من قدرة نخب الطرفين القيادية علي ترجمة حداثة التكوين الى فعالية تحديثية شرطها الجوهرى تأسيس نظام ديموقراطى غير قابل للارتداد،كونهما ينتميان إلى حضارة تجمدت منذ القرن الخامس عشر. وبينما تفاعلت دول اسيوية، وبعضها مسلم مثل تركيا وماليزيا واندونيسيا، إيجابيا مع الحضارة الغربية التي استأنفت مسيرة الانسانية نحو الحرية البناءة تولت عندنا مشاريع التحديث المعطوب خلال الخمسينات- الستينيات سد الطريق أمام مثل هذا التفاعل. هكذا تطلب الامر هزيمة ساحقة فى يونيو 67 لكي تقر الناصرية بأهمية الديموقراطية فتصدر بيان 30 مارس 68 الذي بقي في حيز هذه الصفة،بينما شكلت وثيقة " المنطلقات النظرية" الصادرة عن المؤتمر القومي السادس لحزب البعث عام 1966 قطيعة معرفية حاسمة مع الاشارات الليبرالية القوية في مرحلة نشوئه.بقاء الفضاء الديموقراطى ملغيا خلال فترة تجاوزت الثلاثة عقود تحت ظل أنظمة ( المدنيين) هؤلاء مصريا وعراقيا وسوريا وأيضا جزائريا ويمنيا وليبيا، بتأثيراتهم المترامية علي بقية اقطار المجال القومي، انتهي إلى تضييق الفارق بين مستوي وعي فئات التحديث والجمهور الشعبي حيث أحيل الجميع الى منطقة تحريم النشاط الطوعي العام.
هذه المنطقة هي، بامتياز، منطقة العقل المقيد إلى الماضي العربي الاسلامي السحيق قبل ميلاد الديموقراطية ثقافة او ممارسة معززا بالنمو المشوه والمحدود لفئات الطبقة الوسطى، قاطرة التحديث الطبقية، في ظل قبضة اقتصاد الدولة الخانق. لذلك فأن محاولة اختراق هذا السقف لم تجد ماتقتات عليه سوى مايجود به ميراث الماضي فتشكلت الحركة الاسلامية سرا لتجد تربتها الخصبة في جمهور قابل للتجاوب مع أطروحاتها بعد ان فقد ثقته في أطروحات المدنيين وتطبيقاتها العملية.
إذا نظرنا للامر على هذا النحو يمكن القول بأن الاسلاميين أبناء شرعيون للمدنيين تفوقوا علي آبائهم كما وكيفاً، يفوزون عليهم فى الانتخابات المصرية وغير المصرية ويتوفرون علي قدر أكبر كثيرا من التماسك التنظيمي.
في الحالة المصرية التي تشغل الاذهان هذه الايام تبقي هذه الحقيقة قائمة بجزئياتها الثلاثة رغم ما يبدو من حيوية شارعية وسياسية ل " جبهة الانقاذ الوطني " عند كتابة هذه السطور في العاشر من ديسمبر،
ومعها حقيقة التساوي في ضعف درجة التأهيل الديموقراطي لدي الطرفين. فالمجتمع المصري لم يغادر المرحلة التاريخية الماضية إلا قليلا بحيث تشكل الديموقراطية، وليس الحرية المفتوحة التي أتي بها " الربيع العربي"، مطلبا حاضنا وتجذيريا لنزوع بعض شرائح النخب القيادية الجدي بهذا الاتجاه.
هذا هو جوهر المعضلة ويجدر، لذلك، ان يكون معيار الانتماء الحقيقي لمشروع التحول الديموقراطي أول لة التركيز علي كيفية تفكيكها وتهيئة المناخ الملائم لذلك . فأذا اعتبر المرء نفسه منتميا للطرف المدني ولكن منطلقا من رؤية الحاجة لتنمية الديموقراطية علي هذا النحو بدلا من افتراض وجودها كما تشير بعض تصرفات " جبهة الانقاذ الوطني"، فأنه يتجرأ علي اقتراح صياغة استراتيجية ذات شقين. علي المدي المتوسط للفترة الانتقالية مركز ثقل الاستراتيجية يكون حماية مكسب الحرية ضد الخطر الرئيسي وهو فكرة المستبد ( العادل ) الحية في ثقافة العناية السماوية والمهدي المنتظر الموروثة والمسيطرة لدي الجمهور العام. والنقطة الحاكمة هنا هي تجنب الدخول في معارك سياسية حامية وعالية الاهداف مع الاسلاميين قائمة علي تقدير غير دقيق لتوازن القوي السياسي، عبر الرفض المطلق لتنازلات الرئاسة المصرية مثلا. وبما أن الاسلاميين أقدر علي الصراع الساخن بتلاحم صفوفهم الاقوي من تلاحم المدنيين إلى الحد المليشايوي، فأن هذا سيؤديإلى فوضي يضيق بها الجمهور العام خالطا بين الحرية والديموقراطية ما يستدعي التدخلات الانقلابية. بيان الجيشلايخلو من تلميحات،وهذا النوع من التدخلات، أياً كان مصدره، ينشط عندما ينتفي الرادع المجتمعي.
أما علي المدىالأبعد فأن الاستراتيجية ترتكز علي تصور لكيفية تعويض أثر الافتقار لنضوج الطبقة الوسطي والاصلاح الديني، العاملين الرئيسيين في نجاح التجربة الاروروبية لتأهيل الجمهور العام ديموقراطيا والمفقودين عندنا. في السياق العربي الاسلامي مؤدي هذا التأهيل هو تحرير الانسان من الولاءات التقليدية بتطوير ملكاته النقدية واستقلاليته كفرد يختار جماعته بحرية غير قطيعيه. وكما هو شأن مشاريع النهوض التنويري المصرية والمشرقية التي وئدت بعد نصف قرن تقريبا من أستهلالها، تحت وطأة مشاريع التغيير الخمسينية المعطوبة، فأن الاصلاح التعليمي هو المدخل الرئيسي. في النسيج المتكامل لاستراتيجية المدى الأبعد القائمة علي مفهوم التنمية البشرية الشامل يتعين إحلال تحديث النظام التعليمي في موقع الصدارة مدعوماً بتنشيط المجتمع المدني. وهذه ناحية لاتقل أهمية لانها، في ظروف غياب حياة حزبية ناضجة ديموقراطيا، مجال للتدريب علي مساءلة قيادات منتخبة يعزز مغزاها في التنمية الديموقراطية كون الانتماء اليها طوعي وفردي.
إذا كانت الخبرة التاريخية الغربية في تأسيس الديموقراطية لاتفيدنا كثيرا نظرا للتباين الكبير في الظروف التاريخية، فأن درسها المفيد حقا هو أن الطريق اليها طويل ومرصوف بالانتكاسات والصراعات العنيفة حد الدموية حتي داخل معسكر قوي التغيير نفسها. ثورة عام 1789 الفرنسية أحرقت ماينوف علي العشر سنوات من عمر البلاد ومقدراتها ولكن في نهاية المطاف انتصرت العقلانية وافكار مونتسكيو وفولتير علي تطرف الي عاقبة والعسكرية البونابارتية، في الصراع مع قوي النظام الملكي الاقطاعي. وبينما لايعني ذلك مرورا عربيا اسلاميا محتوما بكافة تضاريس الطريق الاوروبي هذه ولنفس المدى، فأنه يعني خوض المعركة ضد الاسلاميين بنَفس هادئ مدروس يأخذ في الاعتبار حقيقة ان واقع الفراغ النهضوي التنويري الموروث منذ قرون يرجح ميزان القوي السياسي الراهن لمصلحتهم ولكن دون حتمية باقية وإنما بمقدار وزمن يحددهما درجة الفهم لمصدر هذا الفراغ وكيفية إزالته.
( جريدة الحياة / لندن 2 ديسمبر 2013 )
KAMIL MAAROUF [kamilmaarouf@hotmail.com]
/////////////