عندما ينطق التاريخ …! (ذكريات وزير 10)

 


 

 



mohamed@badawi.de

كنت شايل جلود وأنا حينئذ قد طليق زوجي الأولى. سافرت إلى مصر بالباص لمدة يوم. ومنها إلى حيفا بفلسطين ومنها إلى لبنان. من هناك ركبنا قطار صغير لغاية حلب وبلغناها في الهزيع الأخير من الليل. عادة يأتي الإكسبريس من بغداد لغاية اسطنبول. فجاء الإكسبريس وكنت قد حجزت به بطاقة نوم في الدرجة الثانية. كان بصحبتي رفيق لبناني فركبنا سويا وسار القطار بنا إلى أن بلغنا حلب التي لا تبعد كثيرا عن الحدود التركية. في محطة القطار بحلب حضر موظف الجمرك السوري وصعد ليمرّ على الركاب متفحصا منقبا بينهم عن ثروة أو شيء يسترزق به. حام تارة ووقف تارة كالديدبان وسط الركاب وكان رأسه يدور بحركة شبه ميكانيكية ذات اليمين وذات اليسار. كنا رفيقي سعيد اللبناني يجالسني؛ وهو رجل مهذب ومحترم من أسرة كريمة وكان في طريقه لزوجه زكية بمدينة اسطنبول.
سألني الجمركي قائلا:
- شو عندك؟
أجبته قائلا:
- عندي ١٦٠ دولار وإثنين تركي ولبناني.
بدأ يضحك! فهم رفيقي سعيد قائلا له:
- عندو كمان لتر دو كردي Lettres de Crédit .
لم تكن اللتر دو كردي بالشنطة، فسألني الجمركي السوري بلهجته الحلبيّة ثانية:
- عندااااااااااااااك؟ 
أجبته:
- نعم!
- حضرهم لي، أنا راجع إلك فورا!
رجع إليّنا وطلب مني قائلا:
- تعا معي المكتب!
فما كان مني إلا أن زايلته في خطواته الثقيلة الماكرة التي طغى عليها لون العنجهيّة والتكبر. وعندما بلغنا مكتب الجمرك رأيت عسكري يقف أمام باب المكتب سلمنا عليه ودخلنا المكتب. كانت تبدو على الجمركيّ روح المساومة والمكر وربما آثر أن يأخذ مما مع هذا الأسود شيئا يسد الرمق. سألني:
- بتحكي فرنساوي؟
تجهم وجهي وامتعضت أيما امتعاض وأجبته قائلا:
- أنت ما فاهم كلامي ده. أنا بتكلم معاك عربي!
ذكرني هذا الموقف معاملة السوريين واللبنانيين للوطنيين بنيجريا عندما كنت مقيما في ميدوغري. كانوا يحتقرونهم جلّ الاحتقار. قلت له:
- إيه قصة بتحكي فرنساوي دي؟ أنا بتكلم معاك عربي، وإنت تقول لي، بتحكي فرنساوي؟
ما أن أكملت جملتي الأخيره حتى انتفض من جلسته وقام يفتح الخزانة. أخرج منها دفترا صغيرا وكتب عليه "لتر دو كردي" ووضعه أمامه على الطاولة. قطع من الدفتر وصل استلام وأعطاني إياه وقفل الخزانة وهمّ بالخروج. قلت له وهو يتأهب للخروج:
- أنا هسي ماشي وما عندي قروش وما عارف حاجة وأنا راجل غريب في بلدك!
واصل سيره ولم ينبس بكلمة وكأنني أخاطب دمنة أو حائط. خرجت من المكتب وأنا أزايله إلى الفناء المطل عليه. عند الخروج وجدت رفاقي البنانيين وقد تجهموا وغضبوا لما صار لي ولما بدا من الجمركي. قلت له حينا بلغ خارج المكتب ووقف أمام الحرس:
-         تعال يا أخي شوف أهلك هناك في السودان محترمين كيف! وأنا هسع غريب في هذا البلد، يعني أعمل شنو؟
أجابني بتهكم وازدراء:
-         ترجع للمدير الكبير في حلب!
-         وأنا أقعد وين؟
-         ما شغلتي. على كل حال المدير حيحضر بعد يومين!
-         واليومين ديل أنا أمشي وين يعني؟
-         عندي هوتيل إلك.
-         يا أخي بالله عليك ... أنا غريب في البلد دي وما عندي إلا اللتر دو كردي!
-         إنت عايز تطردني من المصلحة يا زلمي؟ حيفنشوني!
كان - والعياز بالله - للرجل حظا وافر من البلادة وعدم الفهم، فقلت له:
-         يا أخي أنا كاتب عليها البلدان كلها وأنا ماشي أروبا فالمشكلة شنو يعني؟
أجابني بالرفض وهو يرفع رأسه لفوق ومن ثمة أعرض عني في غير اكتراث. كان القطار قد أوشك أن يغادر المحطة. في تلك اللحظة أتى إسماعيل، المسؤول عن عربة النوم، وقال لي:
-         يا أخي أنسى الجمركي، ده راجل غشيم. إنت من الأفضل أن تمشي إلى أنقرة واستمر بالقطار طوالي إلى اسطنبول. واذهب إلى القنصلية الإنجليزية. فالقنصل الإنجليزي حيكتب خطاب للقنصل في حلب وحيجيبوا ليك اللتر دو كردي.

كنت في تلك اللحظة في غاية من الضيق والضجر فرميت الشنطة الكبيرة ومعها الشنطة الصغيرة التي بها أوراقي على أرضية الرصيف. فرجع اسماعيل ثانية في صبر وروح جميلة وحمل أغراضي ووضعها في عربة النوم، ومن ثم سلمت أمري لله وعدت مقعدي بالقطار. غادر القطار حلب متجها إلى مدينة اصلاحية، وهي آخر مدينة سورية على الحدود التركية. هناك جاء موظفي الجمرك كالجنّ وفحصوني بعناية ووجدوا عينات الجلود في الشنطة الصغيرة فأخذوها معهم دون تردد. ولهول المصيبة أخذوا معهم أيضا بعض الأغراض الهامة التي بحوزتي والتي كنت أحضرتها للاستعانة بها في السفر إلى أروبا. قلت لهم:
-         يا جماعة أنا شايلها للعرض وبغرض التجارة.
فقالوا رافضين:
-         تمشي تشيلها هنيك ونحن حنسجلها في سجلات الجمرك بإسطنبول. وهناك سوف يسلموك ليها.
وافق مجيئ إلى تركيا قيام مؤتمر بمدينة إزمير، حضره برجنيف وعدد هام من رؤساء البلاد، فلم نجد أي هوتيل لقضاء الليلة، بعد أن ساحت أرجلنا من التفتيش والبحث والتساؤل. في المحطة جاءت زوج سعيد وكانا على وشك الذهاب ولكن قبل أن يغادر تأسف لما بدا منه بالقطار، أنه أخبر الجمركي أني أحمل لتر دو كردي. وقبل أن يغادر وصى اللبنانيين الذين كانوا بصحبته بي خيرا. ومن ثمة ذهب مع زوجه وودعته وكانت عيناه تفيضان بالأسف والدموع على موقفه معي. ذهبت مع اللبنانيين ونزلت معهم بفندق فاخر اسمه تراقصا بلاس. كان الهوتيل في غاية الروعة والجمال وعرف عنه أنه كان محطة للنجوم والرؤساء. كان سعره ٣٢ جنيها في الليلة. فرقدت الليلة وبت به وفي الصباح أتوا وساقوني لهوتيل صغير اسمه (بقي هوتيل). ولحسن حظي كان هذا الهوتيل على مقربة من القنصلية الإنجليزية  وبدأت في السعي والدأب لاسترجاع ما أخذته الجمارك السورية والتركية مني بغير ذنب في حلب واصلاحية. وفي أنقرة تعرفت على موظفين السفارة الإنجليزية الذين كانت أغلبيتهم من مالطا كما حدث لي لقاء عجيب من فتاة مالطية في فندق بقي هوتيل.

 

آراء