الموت نقاء: في رحيل البحيراوي
عبد الله الشقليني
19 April, 2013
19 April, 2013
abdallashiglini@hotmail.com
سيدي ...، لمِثلك قال المتنبي :
الحُزنُ يُقْلِقُ والتجمُل يردعُ .. وَ الدمعُ بينهما عصيٌّ طَيّعُ
يتنازعان دُموعَ عينِ مُسهّدِ .. هذا يجيءُ بها وهذا يرجِعُ
*
آن للمنيةِ أن تفرح ،فقد كَسِبتْ وانتقت الفرسَ الذي لا تقدر عليه الرّكائب ، جموحٌ يطولُ صهيله ملء الفضاءِ ، يضجُّ بأنوار الشموسِ ويلمَعُ. هذا يوم تنحني فيه الشمسُ وتخفض أجفانها ، فقد آن للثعالب أن تفرح ، فقد رحل الوردُ . هذا يوم يفرحُ فيه الأشقياء بأن صاحب الحُجّة قد رحل . فلتُلَملِم النوائبُ أشتاتها ، وتقيم أفراحها ، فساقي الغمامِ الهطّال قد رحل . لك يا موطني أن تقيم السُرادق وتنزف أدمُع الدمِ ، فقد عزّ المصابُ على كل الصفاء الذي عشناه، وكل قبائل الفأل أن فينا من ينتظر أن يفرح مع شعبه في مُقبِل الأيام حين تأتي الساعة بالبشائر .
*
لقد كنتَ سيدي طالب الفتحِ الجليل ، وعندكَ البيضُ الخِفافُ الصوارمُ . أقول أيها الدمع النبيلُ جاء يومك لتُغسل جواهر المُقل من أملاحها . فالأرض قد لبِست السواد ، والوردُ البهيج قد انزوى ، وانكفأ القِدرُ و حبات الجُّمان تفرقت شيعاً .هذا يوم من أيامِكَ الباكيات يا موطني ، فقد أعسرك الأشقياء ، أقاموا فيك أكثرَ مما ينبغي ، محوا آية النهار بآية ليلهم البهيم .
*
انكسر المركب الجوال في الأطياف ، يروعُ منه الردى ، وينسحبُ البرق العَجول وتصمت أرزام الرعودِ ، حتى جاء اليوم والساعة التى قَبَضت المنيّة على كبش عيدنا الآتي ، في تمام كماله وفي نور وجده .
*
بعد أن هجرنا تلّة الرمل التي كُنا نأوي إليها لنستدفئ بحنين المؤانسة في ربوع الوطن و في الأمسيات المُقْمِرة ، لا يعرف كثيرون كيف استطعنا أن نجلس مع رفاق لنا ، عرفناهم في ورق السماء حين نكتُب، وأحببنا مؤانستهم ، وتشاركنا الحوار . وتقاربت رؤانا ، واحتفظنا بمسافة يحترم فيها الواحد الآخر و رأيه ، على غير ما نشهده في الحياة العامة من ضيق الصدور بالرأي المُخالِف. في تلك البيئة التي يحسبها البعض لا تقف على أساس من المعرفة ، عرفنا الراحل شريك رؤانا وقاطف أزهار المُناجاة ، ونسائم الروح تسري في عِظامنا و لا تعرف حدّا . نمت حيواتنا ، وتعرفنا على المستشار الراحل " عبد الله يوسف البحيرواي " وأحببناه من بشائر قلمه حين يكتُب . نشر بيننا ساقي الخمر الحلال أنخاب الوداد ، فصار أخانا الذي لم تلده أمهاتنا .
*
اللهم ترفق بأهله وعشيرته ، واجعلهم اللهُم في عزة ومِنعة وسؤدد . اللهم ارزقهم من خيرك ما يغنيهم حتى تقوى الأعواد ، وتشتد السواعد ، إنك مجيب سميع الدعوات . اللهم أجزه بأضعاف الخير الذي بذل ، والتي انتوى أن يبذله ، كانت عينه في بئرٍ سقاء يسهم مع صفوة القوم ، ليكفي أهلنا في أرياف كردفان ولا يحوِّجهم إلا لنعمة الكريم شاكرين ، لا ينتظرون وعد الأراذل الكذوب من أصحاب السلطان .
*
اللهمّ إنه عبدُكَ الذي صنعتهُ يَداك القادرة وشكّلتْ صورته ورَسم بنانه ووهبتهُ من مِنتِكَ أن يقرأ باسمِكَ فقرأ . وكتبَ ما استطاع من الخير كله فقد غرزتَ فيه محبة الناس ، فما أدخل يده في كأس فيه شرابٌ باسمك ، إلا تجلّت نِعمتُكَ عليه . وما أوحيته للنّحلِ ، جعَلته من فطرته التي فطرته عليها . وما مقامُكَ العلي إلا حيث بينّتَ فيه حكمتكَ خالقنا . بنوركَ يستضيء العُبّاد .وتحت دوحتك الظليلة كان لفقيدنا العمر منذ الصرخة الأولى عند الميلاد وإلى استردادكَ أمانة الروح التي هي من أمركَ نعمةٌ سوّاحةٌ ، تسير فينا سير النسيم حتى ننتبه أنّا في غفلة الزمانِ قد نستريحُ ولا مُستجار إلا أنتَ . اللهم ارزقه الجلوس بجوار من أحببت على الأرائك مُتكئين ، مثل عُبادِكَ من الأخيار الذين اصطفيت . وأن تتطوّف محبته برزقك الممدود وطلح جنانِكَ المنضود . لا يرى من نورِكَ إلا كمشكاة والمشكاة في زجاجة والزجاجة كأنها كوكبٌ دري . لك مولانا تمام المقال وجلال المقام . فلا تحرمنا أجره ، وأترك غمامات المغفرة على نُزله وعلى المسلمين والمسلمات ، العابدين والعابدات ، الغافلين والغافلات ، الطيبين والطيبات والذاكرين الله كثيراً والذاكرات ، وعلى كل الذين ما عرِفوا قدرك فضلّوا ، حتى نذوب في عبوديتك ونحيا في محبتِكَ عُمراً له أول ولا آخر له ، في جنة المأوى حيث الرزق فوق المُشتهى . لا حزنٌ هناك ولا تجد القلوب الرطيبة بذكرك إلا منتهى الجزاء .
*
فلتنعم سيدي عبد الله بشارت الرضا بإذن مولاك ، وبنسمة البستان الفسيح الذي أعده المولى لأحبائه الذين اصطفى . بك تزدهي الجنان الباسقات ، ويأتلق الندى على ثمار جنا الجنتين دانٍ .
إنا لله وإنا إليه راجعون
عبد الله الشقليني
18/4/2013