في ذكرى رحيله الفاجع ،، بكائية علي عبد القيوم
حسن الجزولي
28 June, 2013
28 June, 2013
أهكذا ،، خفافاً ترتحلون عنا؟!.
" يا لمكرك يا صاحبي،،!
أتمازحنا بمماتك منسحباً هكذا؟!،،
وعلى غفلة هكذا
دونما ومضة من وداع؟!"
( من قصيدة علي عبد القيوم في بكائية علي المك)
نعم ،، لمً هكذا؟! ،، وفيمً هذا الرحيل المباغت صمتاً وجلجلة؟!، وبالفعل هل حقاً تمازحوننا الآن بحياتكم ورنين قوافيكم بيننا؟! ،، فبالله عليكم لمً هكذا تباغتونا بالرحيل خفافاً يا علي عبد القيوم؟!.
فكأني برحيلك يا فؤاد مودتنا أسمعك تردد أنه لا فرق بين الموت والميلاد والمسرى ،، وهئنذا إذ أعاينه مولاك " بلدك وولدك،، زادك وعضدك وسندك" قد أسرى بك عشقاً لجراحك ثم أسرى، وهو يحمل صليبه صاعداً بك عشقاً لجراحك، ثم أسرى وهو يحمل صليبه صاعداً متحدراً، كالنهر في المجرى، وهو يناجيك عن " لحظة حبلى حظيت بأحلام القرون وتوهج آفاقها بالمجد والبشرى!.
آه يا طفل الجراح البكر ،، يا لهف المواعيد ،، وحقاً يا مولاي " لا فرق بين العاشقين الكاظمين الوجد والأسرى" ،، فهلا تنهض ثانية رويداً لتشبع بلادك من أشعارها شعراً؟!.
وإن إختفيت وتواريت هكذا ، يا صافي البسمات المكحلة بحفيف الأسى فمن ذا الذي يلكز خيول الابداع التعبى؟!، ،، ومن ذا الذي سيصدح بالأشعار والأزهار لمن صاغوا أغنياتهم للشمس والحياة من نساء ورجال وطنك الذي تنهشه الآن "بنات آوى والكلاب والذئاب والذباب؟! ،، بعد أن هوت على عروشها المدن وانهارت الغابات من جذور، وأصبح التاريخ كومة من خراب"!،، ففيمً هذا الرحيل الصامت بجلجلة؟!، أهو " أرق الشعر الذي ربما أسلمك للصمت والموات"؟ ،، أم هي دوامات القرن العشرين ونهاياتها الأسيفة ترحل بالشعر والشعراء؟.
إنها لغة الشعر يا ويح قلبي تجتاز شمس ضحاكم ،، ظل أحزانكم وتواريخ أحلامكم،، وريثما تعبث ببرجها لا تلبث أن تقلص أعماركم!،، فيا ويح قلبي إذ كان عليك يا صميم القوافي أن تستريح لوصية خلك الوفي ود المك علي، ذاك المستجير هو الآخر من النار بالرمضاء! ،، أولم يثنيك عن التدثر بالشعر حيث هو غلاب وفتاك وانفجاره مباغت، يا صوفي هذا الزمان؟! ،، فلمً لم ترعو ولمً لم تستجب ولمً لم تستخر المتابا؟! ،، لهفي عليك وها هو بروق شعرك تباغتك وتستدرج لطفك وأنت تتبعها مأخوذاً دون أن تدرك المصير ،، فلا هي استجابت لضراعاتك بتجاهل توقك لايقاعها المزدهي بالأنجم وبالظلمات العميقة، ولا هي حنت لتوسلاتك بالتخلي عنك قليلاًً علك تستريح قليلاً ريثما تنفجر ،، بل مضت بك لآخر شوط القافية وانفجرت بك مرة و إلى الأبد!.
يا ويح قلبي وكأنك بصوفية عذبة تنجذب "لغيبوبة الموت والحلول في الأشياء" ،، متدثراً برداء الخليل وصلاح أحمد إبراهيم وأمل دنقل وأنت تصيح وتقر بأن ليس في الجبة سوى فناء العاشق في المعشوق! ،، مجلجلاً ومرتفعاً رويداً رويداً إلى قبة السماء، ريثما تنفجر كالشهب نحو ذرى الفضاء الرحيب وذلك في ساحة مولد شعبي حفل بجميع نساء قصائدك ،، الحبيبات منهن والعشيقات القاتلات الفاتنات والصديقات " بصدور كالجحيم وأعين كلحاظ من بريق الخوف والتوقع وأنوف كشواهق تقتحم ذرى السمو والترفع ،، وكأني بهن طالعات من قوافي التمرد الجليل بحثاً عن بقايا شظاياك البهيجة" ،، فتسائل عنك أنهار الدنيا – بعد إذ إعتقدت أنها تخبئك عنهن – وكأني بأنهار الدنيا تضحك ملء شدقيها مشيرة إليهن بالعودة إلى الينابيع حيث شاهدتك ثم فارقتك!.
" أتهرب أم تموت يا علي ،،
أتهرب أم تموت وأنت أصغرهم ،،
أتهرب أم تموت وليس آخرهم"؟!.
فهل حقاً إن الكتابة " رعب يضئ الضمير ويمحو الجسد"؟! ،، وهل حقاً إن الشاعر ما هو إلا كائن إستثنائي إلى هذا المدى؟!،، وهل بالفعل يا " علي المعلى" أن الشعر " هذا القريض اللعين لا يدانيه سوى عشاقه الأشقياء"؟!.
وهكذا يا علي إخترت اجتياز البحار سابحاً ،، معصوباً دون مساومة للتيار، ودون أن ينال من مضائك السمك الجائع والاعصار! ،، وهكذا يا علي نفذت كالسهام إلى مضارب الشروق، حيث طفلتك التي تعشق – وكنت تظنها لا تعرفك – قد ضمتك بحنان وزملتك بحضنها الرقيق ،، مدد يا صوفي هذا الزمان ،، مدد!.
يا لهدا الرحيل الذي ظل يلازمك منذ أوائل مهدك لحين أواخر لحدك ،، يا لهذا الرحيل الذي إذا ما شرقت يكتفك وإذا ما غربت يدوخك ،، أم درمان ، وارسو ، الكويت ، القاهرة ، براغ ، بودابست ، الدوحة قبرص ، الأردن ، جزر واق الواق ، خمسون عاماً ونيف ترحل يا حبيبنا من مطار إلى قفار ،، ومن ميناء إلى مرسى ،، "ضائع يبحث عن ضائعة" ،، حاملاً حقيبتك وخيبتك وخطيئتك كرمز للطموح دونما مساومة أو مجاراة لتيار يعكر صفو المنبع والمصب والمزاج! ،، " تسافر نحو الشمس حين تشرق وتعود حتى تعبر السماء للمغيب" ،، تنفث لفافات تبغك وانتظارك من وإلى سويداء فؤادك المفعم بالحب والوجد ،، العامر بالأزاهر والرياحين! ،، " من تل إلى سهل إلى جبل إلى شلال ،، من واد إلى بحر إلى أغوار ،، وكأن رغائب العشاق ما نطحت سوى صخر وما دقت سوى صمً المصاريع التي صفت بلا مفتاح ،، تعود للبحث والتجوال عن عضدك القديم ،، الناصع المقيم ،، تبحث وتجول دون لقيا ،، فتلوم لغتك وصيعتك وضيعتك ثم تصوم غاضباً عن الطعام والكلام والهيام ،، ولا فكاك"!.
لقد أودى شيطان الشعر بروحك النافذة للشمس والحياة يا صوفي هذا الزمان!،، وها هي حقائب المسافرين أراها تمتلئ " بالحزن والتبتل الليلي والبكاء" ،، يا أنت ،، يا طفلنا الذي جرحه العدا ،، " يا من غنيت للجميع دونما تظرف ولا رياء" ،، مدمدماً بثلاثية الغضب النبيل من بوقك التليع":-
أي المشارق لم نغازل شمسها،،
ونزيح عن زيف الغموض خمارها ،،
أي المشانق لم نزلزل بالثبات وقارها،،
أي الأناشيد السماويات ،،
لم نشدد لأعراس الجديد ،،
بشاشة أوتارها؟!.
فهل نبكي عليك أم ننعي قوافيك المخبأة بالفرح الموجع والرعب البهيج ،، يا طفل الجراح البكر ويا لهف المواعيد! ،، فلا فرق حقاً يا مولاي بين العاشقين الكاظمين الوجد والأسرى ،، فهلا تنهض ثانية رويداً لتشبع بلادك من أشعارها شعراً؟!.
برحيلك يا فؤاد مودتنا حمحم الخيل حيرة وهلعاً ،، الآف من " جوامح الخيول ذات العيون البرق والحوافر الرعود" تجمعت هناك حول نعشك " صاهلة بالغضب الجموح" ،، والحواجز أزاحت عنها مصاريعها خائرة وجافلة ،، الوعول هرعت من موارد مياهها نحو طيفك المسجى فوق أكف البلاد مسرعاً نحو الضريح ،، أنبل الطيور فزعت وطارت وحطت على نعشك حزناً على نضارة وعيك ،، " طيور الذرى يا صديقي أضاءت بدمعات حسرتها كهف حزني"! ،، الأزاهر والورود الجليلة أحنت الهامات حين مر نعشك على شوارع أم درمان، إجلالاً لعودة الشعر لنبعه " وإذ يعود لا يعود نادماً"!،، في حزنها عليك توحدت دمعات الغابة والصحراء وبكى عليك أبا دماك وأثنى ،، مسارح الجامعات ماجت أسى وأسدلت ستائرها ،، وناحت جزيرة سعاد!، كلها ،، كلها ،، كل الوطن أراه تجمع حول الضريح " إشتياقاً للخضرة البعيدة وللمواسم السعيدة المجيدة ،، وللشروق ذي الرؤى الجديدة" ،، فوداعاً يا صوفي هذا الزمان ،، فقد كنت " تفرح بإخلاص وتحزن بصمت وتتحدث بيقين ،، كنت تنقل الرسائل الغرامية للعاشقين والحرية للشعب ،، وتزدهر بالشعر النقي والورود والماء والثورة ،، وغالباً بالتمرد"!.
فودعاً يا ضميرنا الحي ،، وحقاً إن شعراء الشعب هم دوماً في حاجة إلى فيض إعزاز ومودة!.
_________
عن صحيفة الخرطوم، السبت 17 أكتوبر 1998
hassan elgizuli [elgizuli@hotmail.com]