البحث عن موقع في عالم متغير

 


 

د. حسن بشير
20 November, 2013

 



العالم من حولنا يتغير بسرعة ومن أراد أن يحجز لنفسه مقعدا في النظام العالمي الجديد، إي في العالم الذي سيأتي بعد ان تكتمل عمليات التغيير فعليه ان يعد العدة لذلك وان يهيئ نفسه ماديا وروحيا، بوضع بنية تحتية تكفل له ليس فقط حظه في العيش في ذلك العالم بل ان يكون منافسا وفاعلا فيه، وأيضا ان يكون متصالحا نفسيا مع الواقع الجديد. الكل معني بسيناريوهات التغيير التي تجري في العالم سواء ان كان ذلك في محيطنا العربي والإفريقي بما يشهده من مخاض الربيع العربي او التشكل الإفريقي، او علي المستوي العالمي. اعني بالكل الشعوب، الحكومات، الأحزاب والمجتمع المدني. العالم الآن يضع لمسات نظام جديد لمجتمعات جديدة في السياسة، الاقتصاد، العلوم والتكنولوجيا وحني في التشكل الديمغرافي.اضافة لذلك فان ماكينة المجتمعات الحية متحركة وتعمل علي مدار الساعة عبر نظم التعليم والعمل وعبر الافراد والمؤسسات وبالتالي فهي تنتج مخرجات بقيم جديدة تتراكم في المعرفة والانجاز وستكون النتيجة هنا (لكل حسب عمله).
واهم من يظن ان السودان في منأى عن رياح التغيير التي تعصف بالعالم، هذا أمر محتوم وبالتالي فان السؤال الجوهري يجب ان يدور حول ماذا بعد التغيير؟. هذا مع تجاوز السيناريوهات التي سيتم بها التغيير المنتظر والمدي الزمني الذي ستحتاجه، لكن وعلي غير ما يعتقد البعض فان سرعة التصرف في إيجاد مخرج من المآزق، التي تعترض طريق البلاد، هو الطريق الأقل تكلفة ماديا واجتماعيا.
تشير أكثر التوقعات دقة وموضوعية من حيث مناهج الاستقراء والتحليل العلمي إلي ان حجم الاقتصاد العالمي في العام 2030 سيكون في حدود 132 ترليون دولار (الإنتاج الحقيقي)، فكم سيكون نصيب السودان منها؟. هذا يقودنا مباشرة الي البحث عن سياسات تقودنا نحو نمو حقيقي مستدام، يؤدي الي مضاعفة الدخول الحقيقية لجميع الطبقات الاجتماعية والتخلص، ليس فقط من معدلات العوز والفقر وانما أيضا الابتعاد نهائيا عن توريث الفقر للأجيال المقبلة. يقع ضمن ذلك التخلص من معدلات البطالة، تراجع الدخول تدني المستوي المعيشي، تواضع الادخار وتراجع معدلات الاستثمار، اي باختصار جميع مقومات التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
هذا الطريق ليس سهلا ولن يمر أبدا عبر إتباع وصفات مؤسسات بريون وودز. توجد العديد من النماذج الاقتصادية التي تحدد كيفية ومدي مضاعفة الدخل وتوزيعه بين الفئات الاجتماعية المختلفة من اعلي سلم الدخول الي أسفله ومن ثم، تحديد أساليب الدعم الاجتماعي المباشر او غير المباشر الذي يتم عبر المدفوعات التحويلية للتامين الاجتماعي، التأمين الصحي، بنود دعم البطالة والعجزة وصولا الي دعم القطاع الخاص. إلا أن إي من تلك النماذج لن يعطي نتيجة ايجابية لا في مجال العدالة التوزيعية ولا عن إمكانية الوصول بالدخول الي مستويات تكفل حد معقول من الحياة الكريمة للأغلبية من سكان السودان. هذا القول مبني علي دراسات عملية حول مضاعفة الدخول التي استغرقت 155 عاما في بريطانيا، 60 عاما في ألمانيا و30 عاما في أمريكا.
يمكن الاعتماد علي مؤشرين فقط للتدليل علي صعوبة الطريق الذي ينتظر السودان لخروجه من مأزقه السياسي ومن ثم الخروج من نفق الأزمة الاقتصادية التي يعاني منها. الأول هو المؤشر الخاص بالتطوير، اي تحديث أساليب الإنتاج بإدخال التكنولوجيا الحديثة وتوطينها بشكل غالب في جميع القطاعات الاقتصادية كشرط أساسي لرفع الإنتاجية وتنافسية المنتجات الوطنية من سلع وخدمات. يتم الاسترشاد بما يسمي بالمؤشر السوقي او (المنحني اللوجستي) (Logistic Curve)، وهذا المؤشر يلتبس فهمه من الناحية الاصطلاحية لغير المختصين نسبة لاشتماله علي الجوانب الخاصة بالمواصلات، الاتصالات البنيات التحتية وغيرها، إلا انه في السياق الحديث يتم تناوله لتدليل علي سرعة انتشار التكنولوجيا وهي تسير بخطي متسارعة، فمثلا احتاج انتشار الكهرباء الي 46 عاما بينما انتشرت خدمة الانترنت خلال سبع سنوات فقط. بالأخذ في الاعتبار تخلف البنيات التحتية، وسائل الإنتاج وأنظمة التعليم والتدريب مع انتشار القطاع التقليدي، يتضح البعد الفلكي المنتظر السودان في مسار تحديث وتطوير الإنتاج إضافة لتنويعه.
المؤشر الثاني هو الذي يهتم بالبعد الديمغرافي الذي يصطدم السودان فيه بعدة جوانب منها التكدس في أطراف المدن لدرجة ابتعدت بالعاصمة الخرطوم من طبيعة القرية والمدينة فأصبحت مسخا لا يمكن نسبه الي إي من الاثنين.  ليس ذلك فحسب وإنما يمتد هذا البعد ليشمل التركيبة السكانية من حيث العامل السني الذي يغلب عليه الشباب (الذي يعاني بدورة من مشكلتين عويصتين هما البطالة والعنوسة). تمتد مشكلة الديموغرافيا لترتبط بتداعيات الحروب وما خلفه انفصال الجنوب من تداخل سكاني لم تتضح معالمه بعد. من جانب إضافي فان مشكلة الديموغرافيا لا تقتصر علي الجانب الداخلي فقط، وإنما تتعداه للبعد الإقليمي مع دول الجوار خاصة مع إثيوبيا.
نخلص إلي ان بحث السودان بجميع مكوناته عن مقعد له في أي نظام عالمي جديد يرسو عليه العالم، بعد هضم عمليات التحول الجارية الآن والآتية في المستقبل، يحتاج إلي رؤية متكاملة تستدعي تشخيص ألازمة القومية الشاملة التي تمر بها البلاد والتي هي نتاج لازمة في السياسة ونظام الحكم (الدولة بوضعها الدستوري، المؤسسي، التنظيمي ..الخ)، تشخيص تلك الأزمة بشكل أكثر عمقا وبمنهج علمي متكامل يشمل جميع عناصر ومتغيرات السياسة، الاقتصاد، الاجتماع والثقافة ومن ثم وضع سيناريوهات قابلة للتطبيق للخروج بسلام من المنعطف الخطير الذي تسير فيه البلاد بمعدل كبير من السرعة.   
drhassan851@hotmail.com

 

آراء