بروتوكول جنوب كردفان والنِّيل الأزرق.. عثراته ومآلاته (16)

 


 

 




shurkiano@yahoo.co.uk



دستور السُّودان القادم (الدائم).. لكن أي دستور نريد؟

أيَّاً كان من أمر الدستور الأمريكي وتعديلاته، ففي يومي الأربعاء والخميس 14-15 أيلول (سبتمبر) 2011م قامت منظمة الشرق للتنمية المستدامة ومنظمة الشباب لبناء السَّلام والتنمية بالتعاون مع مركز الأيام للدراسات الثقافيَّة والتنمية بإعداد ورشتي عمل حول "صناعة دستور السُّودان المقبل".  وقُدِّمت في الورشة ورقتان: الأولى بعنوان "صناعة الدستور" بواسطة البروفيسور الطيب زين العابدين، والثانية بعنوان "ماهيَّة الدستور وقضاياه الأساسيَّة" بواسطة الدكتور علي سليمان فضل الله (أستاذ القانون الدستوري سابقاً بجامعة الخرطوم  وعميد كلية القانون الأسبق).  نائياً بنفسه عن المناهج السابقة التي اتبعت في وضع دساتير السُّودان المؤقتة والمعدَّلة والدائمة، دعا البروفيسور الطيب زين العابدين في ورقته "لمنهج جديد في وضع دستور البلاد المقبل، وهو إشراك كل الشعب في إبداء الرأي حوله عبر لجنة مستقلة ذات مصداقيَّة تكوِّنها الحكومة بالتوافق مع القوى السياسيَّة مهمتها استطلاع رأي عامة المواطنين حول الدستور وقضاياه الأساسيَّة.  وبعد أن تفرغ هذه اللجنة من مهمتها تسلِّم ما جمعته من أراء ومقترحات إلى لجنة قوميَّة سياسيَّة مهمتها كتابة مسودة الدستور تشكلها الحكومة بتمثيل للقوى السياسيَّة وبعض منظمات المجتمع المدني الفاعلة، وينبغي على هذه اللجنة أن تأخذ بجديَّة اعتبار آراء المواطنين التي جمعت في كتابتها لمسودة الدستور، وترسل تلك المسودة إلى اللجنة الأولى لتستطلع آراء المواطنين حولها مرة أخرى، ثم تُعاد إلى اللجنة القوميَّة السياسيَّة لتنظر في مراجعتها بناءاً على ما ورد عليها من ملاحظات الجماهير (...) وتُعرض المسودة النهائيَّة على برلمان جديد منتخب، تشارك في انتخاباته كل الأحزاب السياسيَّة."
أما الورقة الثانية فقد شرحت أنواع الدساتير في العالم، وأهمية الدستور بالنسبة لتحديد نظام الحكم وأجهزته المختلفة وصلاحيات تلك الأجهزة وعلاقاتها بعضها البعض وبالمواطن، وتفصيل حقوق المواطنين على الدولة وواجباتهم تجاه الدولة.  وذكرت الورقة كذلك – فيما ذكرت – القضايا الأساسيَّة التي كانت مثار نقاش طويل في السُّودان، مثل: النظام الرئاسي أم البرلماني، الفيديراليَّة ومستويات الحكم وتمويلها، علاقة الدِّين بالدولة، استقلال القضاء، مجلس واحد للنواب أم آخر للشيوخ، واستجدت قضايا حديثة مثل حقوق الإنسان السياسيَّة والاقتصاديَّة والثقافيَّة والاجتماعيَّة، المساواة التامة في المواطنة دون تمييز، حقوق النوع، "الجندر" وما سوي ذلك، وذكرت أمثلة لكيفيَّة معالجة تلك القضايا في بلاد أخرى.(107)
غير أنَّ ما يهمنا في هذا الصدد هو أنَّه عند الشروع في تحبير مسودة الدستور ينبغي التداول حول الأهداف التي يجب أن يحقِّقها الدستور المبتغى، ويستوجب الابتعاد عن الحرارة الذاتيَّة، والأساليب الروحيَّة لتديين قدرتها على التأثير في النفوس المضطربة، وتجنُّب الأمور المستبطنات، وانتهاج الطرائق الواضحات، واختيار اللغة القانونيَّة التي يدركها الناس، فلعلَّ اللغة المنطوقة هي الأفضل، وبخاصة إذا كانت القضايا المثارة تُعالج المشكلات العامة.  فبشهادة العلم والعلماء كانت قضيَّة الحكم في الإسلام في هيط وميط لا سبيل إلى الشك في ذلك.
ففي مقال للبروفيسور عباس محجوب عن التعدُّديَّة في الفكر السياسي الإسلامي، يوضح أنَّ "الدولة الإسلاميَّة تطوَّرت تطوراً اجتماعيَّاً هائلاً نقلته إلى العالميَّة، ولكنها لم تتطوَّر سياسيَّاً وتنظيميَّاً ودستوريَّاً؛ الأمر الذي جعل الفكر السياسي الإسلامي في عصرنا يبحث عن صيغة مقبولة متناسبة مع منظومة القيم الإسلاميَّة في مجال السياسة الشرعيَّة، والنظم الدستوريَّة، وقضيَّة تحقيق مراقبة الأمة على الحكام."(108)  إزاء هذا، فحين ينبري علينا أهل الإسلام السياسي – أينما كانوا – بشعار "الإسلام هو الحل"، أو "الحل الإسلامي"، أو "الإسلام أو الطوفان"، نجدهم يظلمون أنفسهم ويظلمون دينهم الذي يحسبون أنَّهم له يفعلون صنيعاً خيراً وهم يجهلون.  وبذلك نجدهم يلعبون على وعي الناس البسيط وسذاجتهم المتواضعة، مدّعين أنَّهم يتناولون مشكلات حيواتهم، ويرشدونهم إلى الحكم الصالح والأخلاق الرضيَّة.  فلا معنى في الحقيقة لعبارة "الإسلام دين الدولة"؛ فالإسلام متعلِّق بالأفراد بصفتهم أفراداً، ولا يمكن أن تُوصف دولة أو مؤسسة أو شركة بأنَّها مسلمة أو غير مسلمة حتى لو كانت تطبّق قوانين مستمدة من الإسلام، وكذا بالنسبة لسائر الأديان.
على كل حال، فعندما وضع الرسول صلى الله عليه وسلم أول دستور مكتوب في تأريخ الحضارة الإسلاميَّة لم يسمِّه "الدستور الإسلامي"، أو "العهد الإسلامي"، أو "الصحيفة الإسلاميَّة"، وإنَّما سماه "صحيفة المدينة"، وهكذا تتمثل الأمم التي ترغب في إدارة شؤون أفرادها الاجتماعيَّة والسياسيَّة والاقتصاديَّة بغض النظر عن أديان شعوبها ومعتقداتهم.  فالمدينة أيَّة مدينة تشكل الأنموذج الأصلح للدولة (City-state) لأنَّها تضم كافة الأعراق البشريَّة والطوائف الدينيَّة والكيانات الاجتماعيَّة والثقافيَّة والأحزاب السياسيَّة، علاوة على الأجانب من كل حدب وصوب.  والمدينة دوماً تعمِّم المصلحة العامة، أما الأمة في الدولة-الأمة (Nation-state) فهي للتخصيص، والأمة تعبير وصفي لمجتمع بعينه، أو جماعات من الناس التقت على بقعة من الأرض، غالباً ما تجتمع على مصلحة واحدة، وتعاقدت على عيش اجتماعي وسياسي واحد، ووضعت وثيقة تنظِّم علاقاتها الداخليَّة، وقد تشمل المسلمين واليهود والمشركين، كما جاء في مقدِّمة "صحيفة المدينة": "هذا كتاب من محمد النبي بين المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم: إنَّهم أمة واحدة من دون الناس."  بيد أنَّ الأستاذ سيد رضوان يرى في كتابه "الأمة والجماعة والسلطة" أنَّ لمفرد "أمة" عندما يكون بمعنى الجماعة في القرآن ثلاث مدلولات: فهي تعني القوم النسبيين الذين خرج من بينهم النبي، سواء آمنوا به أو لم يؤمنوا: "ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن أعبدوا الله" (النحل: 16/36).  كما تعني أحياناً الجماعات التي آمنت بالنبي فعلاً من قومه ومن غيرهم، من مثل قوله تعالى: "كنتم خير أمة أُخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله" (آل عمران: 3/110).  فهم، إذن، أمة الإجابة التي استجابت للدَّعوة.  والمدلول الثالث يعني أولئك الذين أُرسل إليهم الرسول سواء آمنوا به أو كفروا، تفسيراً لقوله تعالى: "وإنَّ هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون" (المؤمنون: 23/52).  والأخيرون هم أمة الدَّعوة.(109)
وحينما كُتِب "العهد العظيم" (Magna Carta) في إنكلترا في القرن الثالث عشر من الميلاد لم يشطط كاتبوه ويسمُّوه "العهد المسيحي"، برغم من أنَّ المسيحيَّة كانت الدِّيانة السائدة في إنكلترا في ذلك الرَّدح من الزَّمان.  وفي هذا العهد العظيم للحريَّات في إنكلترا، الذي كُتِب العام 1215م، فرض البارونيُّون الإقطاعيُّون على الملك جون أشراطاً في سبيل الحد من صلاحياته بواسطة القانون ومن أجل الحفاظ على امتيازاتهم.  وقد سبق هذا العهد ميثاق الحريَّات العام 1100م، الذي فيه حدَّد الملك هنري الأول مواضع معيَّنة للحد من سلطاته أيضاً.  والعقد الاجتماعي (أو الائتلاف الاجتماعي أو التضامم الاجتماعي) (Social contract or compact)، الذي كان ينشده جان-جاك روسو، لم يشر فيه إلى الدِّين في شيء، بل وضع المجتمع في لب هذا العقد وكينونته لكيما تتساوى فيه حقوق الناس السياسيَّة والاجتماعيَّة والثقافيَّة بغض الطرف عن معتقداتهم أو سحناتهم أو ملامحهم أو غيرها.  والعروة الاجتماعيَّة، التي بات العقد الاجتماعي يبرِّرها صراحة ويقدِّم التفسير العقلاني لها، تمثِّل نتاج الصناعة الإنسانيَّة وليست الطبيعة، ثمَّ إنَّ الجدال الذي سخِّر رُخاءاً لتبريرها لا يحمل في طياته عنصر الرومانسيَّة.  ومع ذلك هناك شقان للعقد الاجتماعي: عقد بين الحكومة ومواطنيها، وعقد آخر بين كافة الأفراد الذين يشكِّلون الدولة فيما بينهم لخدمة مصالحهم العامة: الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والسياسيَّة.
على أيٍّ، فهذا التعميم غير المفيد في مقولة "الإسلام هو الحل" هو الذي دفع مدير وحدة دراسات الإسلام والسياسة في جامعة ميشغان المركزيَّة في الولايات المتحدة الأمريكيَّة – معتز بالله عبد الفتَّاح – أن يسطِّر مقالاً بعنوان من "الحل الإسلامي" إلى "حل إنساني" يقبله الإسلام، ويقول فيه: "يظن بعض المسلمين، بحكم مفارقة اعتزازهم بالإسلام وجهلهم بمنهجه، أنَّ هناك طريقة "إسلاميَّة" متفردة لعلاج كل مشاكل المجتمع بمعزل عما ابتكره غير المسلمين من أبناء الحضارات الأخرى، فمثلاً يعتقد البعض أنَّ هناك طريقة إسلاميَّة لعلاج مشاكل إدارة شؤون الدولة والتصحُّر والمجاعات والجريمة المنظَّمة، وهناك تنمية بالإيمان؛ ومثل هذه الطريقة في التفكير تحوي الكثير من العاطفة أكثر مما تحمل من رؤية ناضجة لحجات البشر للتفاعل والتعلُّم المتبادل."(110)  فالرسول صلى الله عليه وسلم نفسه رفض منطق حصر الإسلام والحل الإسلامي في حدود منطوق النص الدِّيني من قرآن وسنة.  فهو الذي قال لأحد أصحابه: "وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تُنزلهم على حكم الله فلا تُنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك، فإنَّك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا" (رواه مسلم).  إذن، فأنت لا تدري حكم الله وحكم الرسول  صلى الله عليه وسلَّم في أمور الحكم والسياسة، لأنَّه إنَّما هو ليجتهد، وقد يكون هذا الاجتهاد متفقاً مع صحيح الإسلام أو يتناقض معه بحكم أنَّ البشر لا يستطيعون، إلا ظناً، أن يفقهوا عن الله مراده.  وها هو الفقيه أبو الوفاء بن عقيل الحنبلي في قوله الذي يفي بالمقاصد الشرعيَّة، وبحقوق الشعوب، وتحقيق مصالحها العامة، يعرِّف السياسة الشرعيَّة على أنَّها "هي ما يكون فعلاً معه الناس أقرب للصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه الرسول صلى الله عليه وسلَّم أو ينزل به الوحي،" وبخاصة عند ربط كثرٍ من الوقائع التي حصلت في حياة الرسول بعصرها، وكيف أنَّ فهمها في زماننا، يحتاج إلى التعرُّف إلى طبيعة المجتمع آنذاك.
ولابن قيم الجوزية قول سديد في وصف الشريعة بحيث تكون بعيدة عن الجور والفساد، إذ قال: "إنَّ الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة، وإن أُدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدَّالة عليه وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلَّم."  أفبعد هذا يا ترى هل بات "آيات الله الوطنيين" في السُّودان يقيمون شرع الله فيما تبقى من القطر؟  كلا!  إنَّهم لمبتعدون عن مصالح العباد في المعاش، وإنَّهم لقوم ظلمة قترة تنقصهم الرَّحمة، ثمَّ إنَّهم لمقرَّبون إلى المفسدة أكثر منها إلى المصلحة.
ففي المخيال الإسلامي عندهم أو الذاكرة الإسلاميَّة لديهم، يقبل الإسلاميُّون والسلفيُّون فقط ب"ديمقراطيَّة المحارم"، في إشارة إلى استعدادهم للاعتراف بالديمقراطيَّة في جانبها الإجرائي متى أوصلتهم إلى السلطة، ومتى وصلوا إليها بالفعل ألقوا بها في سلة المهملات، وانقلبوا عليها.  فلقد ترعرعنا مع كثرٍ من الإسلاميين في الجامعة وخبرنا طرائقهم ووسائلهم.  فهم في غرارة الشباب ونزقه يؤمنون فقط بأنَّ الحريَّة لهم ولا لسواهم.  ففي الجامعات والمعاهد العليا في السُّودان إما فازوا في انتخابات اتحادات الطلاب والروابط الأكاديميَّة، أو سقطوا والويب للفائزين.  وفوق ذلك استكشفنا أنَّهم آثمون مسرفون في البطر.  هذه هي النزعة الديكتاتوريَّة التسلطيَّة التي شبَّوا وشابوا عليها، وأمسوا بها يحكمون السُّودان، وما بدَّلوا تبديلاً.
وهناك من المسلمين من ظلوا ضمن دائرة السمعة المهابة والصيت السيء؛ والمسلمون اليوم أشتات متناحرة؛ إذ تحسبهم أمة واحدة، ولكن قلوبهم شتى، حتى نشأت فيهم حال وصفها الكاتب السوري علي العبد الله ب"قابليَّة التذرر" الفقهي وبالتالي المجتمعي، حيث صار بإمكان كل منا أن يدعم موقفه الرَّاهن بالاستناد إلى واقعة تأريخيَّة، أو رأي فقهي لفقيه أو أكثر، فصار المسلمون موحَّدين في العنوان مختلفين في البيان.  وهذا جعل إمكانية وضع تصوُّر إسلامي موحَّد مسألة بالغة الصعوبة والأهميَّة في آن (واحد).  هذا بالإضافة إلى هيمنة فكر الأشاعرة، الذي يحيل كل ما يجري في الكون إلى الله، ويسقط الحريَّة عن الإنسان، على الفكر الإسلامي."(111)
متدثِّرين بثوب التمسكن قبل التمكين، خاض الإخوان المسلمون السوريين في مناقشة دستور 1950م، وقد شارك المراقب العام للإخوان مصطفى السباعي – من أصل 33 عضواً – في اللجنة الدستوريُّة، فاتفقت اللجنة بأكثريَّتها على أربع نقاط كانت أكثرها جدلاً النقطة الثالثة التي تصر على "التصريح بأنَّ دين الدولة هو الإسلام".  فقد أثار الموضوع حينها مناقشات وتساؤلات صاخبة، وذلك لأهميَّة الموضوع وخطورته في الآن ذاته، ووُضع الإخوان أمام امتحان قاس، وأكَّدوا أمام الخوف من إثارة النعرات الطائفيَّة ضرورة أن يتضمَّن الدستور تحديد حقوق وواجبات متساوية بين المواطنين.  فأوضح السباعي أنَّ سوريا دولة برلمانيَّة، وحق التشريع فقط يعود للبرلمان، فلا توجد سلطة دينيَّة بإمكانها إرغام البرلمان على قبول دستور لا يقرَّه البرلمان ولا يرضى به، برغم من أنَّ تشديد السباعي على استقلاليَّة البرلمان في التشريع كان يتعارض مع نظرة الإسلاميين ومطالبتهم بنظام إسلامي يستند إلى الشريعة.  وأجاب السباعي على من يظن بأنَّ إعلان دين الدولة الإسلام سيفضي إلى تطبيق الحدود (قطع يد السارق ورجم الزَّاني) بالقول: "إنَّنا لا نفكِّر أبداً بإدخال عقوبات الحدود"، فضلاً على أنَّ تطبيقها مشروط بنشوء مجتمع مثالي، ثمَّ إنَّ الإسلام أحاط عقوبات الحدود بشروط شبه مستحيلة."  على أيٍّ، فلم توجد أيَّة فئة حزبيَّة أخرى أرادت أن يكون الدِّين الرَّسمي للدولة هو الإسلام.  فقد أعطى حزب الشعب – أهم أحزاب البرلمان – أعضاءه حريَّة الاختيار في تلك المسألة، بينما عارضها الحزب الوطني وأكرم الحوراني (حزب الشباب) وحزب البعث.  ففي الختام، قرَّرت الكتل البرلمانيَّة إلغاء المادة المتعلِّقة بدين الدولة لتصبح:
(1)    حريَّة الاعتقاد مصونة، والدولة تحترم جميع الأديان السماويَّة، وتكفل حريَّة القيام بشعائرها، على أن لا يخل ذلك بالنِّظام العام.
(2)    الأحوال الشخصيَّة للطوائف الدِّينيَّة مصونة ومرعية."(112)
لكن هناك ثمة سؤالاً هاماً لم يخطر على بال اللجنة الدستوريَّة حين أوضح السباعي ب"أنَّ سوريا دولة برلمانيَّة، وحق التشريع فقط يعود للبرلمان"، ألا وهو ما إذا حاز الإخوان المسلمون على أغلبيَّة ساحقة في البرلمان وشرعوا في تغيير الدستور ليمسي إسلاميَّاً؟  أفلم يقل قائلهم إنَّ حق التشريع فقط يعود للبرلمان!  يبدو أنَّ أعضاء اللجنة لم يحتاطوا إلى هذه الحيلة الماكرة، التي احتفظ بها الإخوان المسلمون انتظاراً لليوم الموعود، وحينئذٍ لسوف يكون هناك شاهد ومشهود.
وفي سبيل تعديل دستور مصر العام 2011م المعطَّل شكَّل الرئيس المصري المؤقَّت عدلي منصور لجنة العشرة من خبراء قانونيين (قضاة وأساتذة القانون الدستوري) لتعديل المواد الخلافيَّة في الدستور.  وفور انتهاء اللجنة من عملها وضعت المسودة الأوليَّة أمام لجنة الخمسين، برئاسة الأمين العام السابق لجامعة الدول العربيَّة عمرو موسى، والمشكلة من قوى سياسيَّة ونقابيَّة وشخصيات عامة.  وبحسب الإعلان الدستوري الصادر في 8 تموز (يوليو) 2013م اختصَّت لجنة الخمسين "بدراسة مشروع التعديلات الوارد من لجنة الخبراء العشرة، وطرحه للحوار المجتمعي، وتلقي أيَّة مقترحات المواطنين لإعداد المشروع النهائي خلال 60 يوماً من تأريخ أول اجتماع لها."  واختارت لجنة الخمسين لجان نوعيَّة عبر الانتخابات الداخليَّة هي: لجنة الصياغة، لجنة الحوار والتواصل المجتمعي، لجنة الحريَّات والحقوق السياسيَّة، لجنة المقوِّمات الأساسيَّة، لجنة نظام الحكم، ولجنة حماية المسار الدِّيمقراطي.  إذ أفردت التعديلات آليَّة لتفعيل الحقوق الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والاهتمام بالفئات المهمَّشة، مع توازن سلطات الحكم في الدولة، وتقييد سلطات الرئيس، ووجود هيئة تحاكم الرئيس وتحاسبه.  وإنَّ مهام لجنة المسار الدِّيمقراطي لم تكن للمصالحة الوطنيَّة ثمَّ لم تكن دينيَّة، ولا بديلة عن مؤسسات الدولة، وإنَّ دورها ليتلخَّص في متابعة كل العمليات السياسيَّة ومنها الانتخابيَّة، وخارطة الطريق، والتنسيق بين مختلف المؤسسات والقوى الفاعلة في المجتمع والدولة ومؤسساتها، والمناقشة بما يحمي المسار الدِّيمقراطي، والعمل على تنفيذ الطموحات دون تعسف أو إقصاء جهة سياسيَّة.(113)
وكان أكثر المواد جدلاً في دستور العام 2012م هي المادة 219، والتي تنص على أنَّ "مبادئ الشريعة الإسلاميَّة تشمل أدلتها الكليَّة، وقواعدها الأصوليَّة والفقهيَّة، ومصادرها المعتبرة في مذاهب أهل السنة والجماعة."  إذ جاءت هذه المادة مفسِّرة للمادة الثانية للدستور المعطَّل، والتي تنص على أنَّ "الإسلام دين الدولة، واللغة العربيَّة لغتها الرسميَّة، ومبادئ الشريعة الإسلاميَّة المصدر الرئيسي للتشريع."  وفي هذا الصدد قال عضو لجنة الدستور سعد الدِّين الهلالي – أحد ممثلي جامعة الأزهر في لجنة الخمسين: لا "أحد يجهل مبادئ الإسلام المتمثلة في العدل والمساواة والحريَّة، وحفظ الضرورات الخمس من الدِّين والنفس والعقل والعرض والمال."  وأوضح مستطرداً: "إنَّ المادة أدخلت المجالس التشريعيَّة في مسائل فقهيَّة شديدة التعقيد، وهذه الأوجه تشمل ثلاثة أشياء متناقضة: الأدلة الكليَّة للشريعة الإسلاميَّة، القواعد الأصوليَّة والفقهيَّة للشريعة الإسلاميَّة، ثمَّ المصادر المعتبرة للشريعة الإسلاميَّة في مذاهب أهل السنة والجماعة؛ وسبب تناقضها أنَّ المصادر المعتبرة هي نفسها الأدلة والقواعد، والفقهاء لا يعبِّرون بمصطلح أهل السنة والجماعة، وإنَّما لهو تعبير علماء العقيدة عندما تكون الأمور في مواجهة الفكر الإلحادي، لكن الفقهاء لا يعبِّرون بالمذاهب السنيَّة في مقابلة المذاهب الشيعيَّة ولا يعرفون لفظ الجماعة أبداً."(114)  وأضاف "إلى أنَّ أكثر الأدلة محل خلاف في الاعتبار عند فقهاء السنة؛ أما أهم ما يتناقض مع المادة (إيَّاها فهو) أنَّ دليل الكتاب والسنة، وإن كان محل إجماع، إلا أنَّ دلالته ظنيَّة في المسائل العمليَّة بالاتفاق، بمعنى أنَّه لا يوجد نص إلا وله أكثر من دلالة، فضلاً عن أنَّ القواعد الأصوليَّة والفقهيَّة محل خلاف عند فقهاء السنة، ومع ذلك فقد أجمعوا على أنَّ قاعدة القواعد هي أنَّه لا إطراد في قاعدة، بمعنى أنَّ كل قاعدة لها استثناء يقدِّره كل فقيه بحسب اطِّلاعه أو تقديره للأمور، وكل هذه الأمور فقهيَّة كان يجب أن تُؤخذ في الاعتبار."(115)
فلا مكان لمصطلحات مثل "الهُويَّة الإسلاميَّة للأمة" في الدستور، لأنَّ الدستور ينبغي أن يعبِّر عن واقع المواطنين في التنوُّع الإيديولوجي والفكري والسياسي، ووضع المرأة، وكل عناصر المجتمع، وحقوق الإنسان، وفصل السلطات، والدِّيمقراطيَّة والانتخابات، والمزاج التوافقي الشعبي، وليس فرضاً على المجتمع، كما أنَّ الدستور لا يرسم الهُويَّة، ولكن يقرأها.  لذلك أكَّد المشرِّعون المصريُّون – بعد ما اكتووا بنيران الفتنة الدِّينيَّة – على ضرورة تفعيل حظر إنشاء الأحزاب السياسيَّة، أو قيامها، أو ممارسة نشاطها على أساس ديني في المادة السادسة من الدستور المعطَّل "التي تنص على عدم قيام حزب سياسي على أساس التفرقة بين المواطنين بسبب الجنس أو الأصل أو الدِّين."  إذ جاء نص المادة بعد تعديلها كالآتي: "للمواطنين حق تكوين الأحزاب السياسيَّة بإخطار ينظِّمه القانون ولا يجوز قيامها أو مباشرتها لنشاط سياسي قائم على نظام ديني، أو أن تقوم بنشاط سري، أو التمييز بين المواطنين، ولا يجوز حلها إلا بحكم قضائي."(116)
وأي دستور يُوضع في المرحلة التأريخيَّة التي يمر بها البلد – أي بلد – ينبغي أن يؤخذ في الاعتبار السياق المحلي والإقليمي والدولي، الذي يمر به، وعليه أن يعمل على كفالة العدالة الاجتماعيَّة، ويوسِّع فرص الحياة في العمل والسكن والصحة والتأمينات والتَّعليم، ومبدأ المواطنة، وكفالة الحقوق الثقافيَّة لكل المواطنين في ضوء سياسة ثقافيَّة متكاملة شاملة تخططها الدولة، وتشرف عليها.  علاوة على ذلك، ينبغي أن يتمسَّك الدستور بالدولة المدنيَّة (دولة المؤسسات والقانون)، ومبدأ المحاسبة، واحترام جميع الأديان والمذاهب، والالتزام بسيادة القانون، والمساواة بين المواطنين أمام القانون في الحقوق والواجبات من دون تمييز، واحترام جميع مكوِّنات المجتمع، ومكافحة ظاهرة وثقافة العنف والكراهيَّة والطائفيَّة.  كما أنَّ المبادئ والقيم التي تحكم أي دستور هي: الحكم الرشيد، وضمان الشفافيَّة والنَّزاهة، والأخذ بأفضل الممارسات الدِّيمقراطيَّة في الانتخابات، والتأكيد على التعدديَّة السياسيَّة.
مهما يكن من أمر، فها هو المستشار محمد سعيد العشماوي يميِّز بين الحكم الدِّيني والحكم المدني فيقول: "أما الحكم المدني فهو الحكم الذي تقيمه الجماعة، مستنداً إلى قيمها، مرتكزاً إلى إرادتها، مستمراً برغبتها، حتى لو طبَّق أحكاماً دينيَّة أو قواعد شرعيَّة، ذلك أنَّ تطبيق النَّص الدِّيني أو القاعدة الشرعيَّة، لا يجعل الحكم دينيَّاً لا يُناقض، شرعيَّاً لا يُعارض، بل يظل التطبيق دائماً تطبيق الناس ويظل العمل على الدوام عمل الناس، ليس له عصمة ولا قداسة، أما الحكم الدِّيني فإنَّه ليس الحكم الذي يستند إلى قيم الدِّين أو أحكام الشريعة.. إنَّما يكون الحكم نظاماً دينيَّاً حين يضفي على الحاكم صفات دينيَّة، أو يسبغ على الرئيس معاني شرعيَّة، بحيث يبقى في الحقيقة والواقع هو الدِّين وهو الشريعة، ما يقوله هو قول الله، وما يحكم به هو حكم الله، لا يعارضه أحد وإلا صار خارجاً عن الشريعة.. فمناط التفرقة بين الحكم المدني والحكم الدِّيني إنَّما في صفة الحاكم ووصف الحكم، ففي الحكم المدني يكون الحاكم شخصاً غير معصوم ولا مقدَّس، بينما يكون في الحكم الدِّيني معصوماً مقدَّساً."(117)
وفي هذا الصدد كتب الكاتب السوري شمس الدِّين الكيلاني قائلاً: "يدَّعي الإسلاميُّون بطريقة يقينيَّة ثابتة أنَّ تصوُّراتهم عن الحكم في الإسلام، وعن الخلافة والدولة الإسلاميَّة و(حاكميَّة الله) هي من الأمور الثابتة في الإسلام، وهي لا تحتاج إلى كثير عناء، غير أنَّ هذا الادِّعاء يناقض كثير من الممارسات الفعليَّة للتجربة السياسيَّة الإسلاميَّة، فما سُلَّ سيف في الإسلام، منذ عهد الصحابة إلا وكان وراءه – على الغالب – الخلاف السياسي والحكم، وهو ما ينفي وضوح نظريَّة الحكم في الإسلام، ويؤكد في المقابل على جذورها في مصالح الجماعات وتصوُّراتها المتباينة (...)."(118)  وباستخدام الإسلاميين أدوات السياسة الماديَّة المتعدِّدة يخترقون بنى الدولة الحديثة بغرض أسلمتها ثقافيَّاً، و"أخونتها" سياسيَّاً، على نحو يغيِّر طبيعتها الوطنيَّة جوهريَّاً، خصوصاً المؤسسات الحيويَّة كالقضاء والشرطة والجيش والصحافة القوميَّة وغيرها على غرار محاولتهم السيطرة على أهم ركائز تسيير دولاب الدولة.  هذا ما نسمِّيه "تسييس الحكومة" (Politicisation of government)، وتشير هذه العبارة إلى القلق الذي يسود وسط الشَّعب حين يشعر أنَّ ثمة استخداماً غير لائق للسلطات الحكوميَّة لصالح الحزب الحاكم، وليس للدولة.  والمخاوف التي تخرج من عباءة هذا التعبير تشمل تسييس الوظائف العليا في الخدمة المدنيَّة، وذلك عن طريق استخدام المحسوبيَّة في إسناد الوظائف الحكوميَّة على أساس غير أساس الكفاءة، بل إلى أناس متعاطفين سياسيَّاً مع الحزب، وتحفيز أعضاء الحزب البرلمانيين، وممولي الحزب وما شابه ذلك.
وفي خضم هذا السياق كتب الصحافي جهاد الخازن في صحيفة "لندنيَّة" يومية أنَّ تعيين الشيخ الدكتور أحمد الطيب إماماً أكبر للأزهر في آذار (مارس) 2010م كان أفضل إجراء لنظام الرئيس المصري حسني مبارك في سنواته الأخيرة.  فحينما برز اصطراع حاد وسط الأحزاب السياسيَّة في مصر فيما يتعلَّق ب"المبادئ الدستوريَّة" حول "مدنيَّة الدولة"، أو "مصر دولة مدنيَّة ديمقراطيَّة"، أو "دولة قانونيَّة أو دستوريَّة" بدلاً من "مدنيَّة"، جاءت وثيقة الأزهر الشريف عن "دولة ديمقراطيَّة مدنيَّة في مصر" لتبديد أيَّة مخاوف – حقيقية كانت أم مصطنعة – عن سيطرة الإسلاميين على مقدرات الحكم في مصر.  إذ كتب الشيخ الطيب "تحذيراً من شيوع الفكر الإسلامي المتشدِّد العالي الصوت الذي لا يأخذ من الدِّين سوى القشور (...)، (واستطرد قائلاً إنَّه) لبعيد كل البعد عن الهُويَّة والشخصيَّة المصريَّة، التي كانت دائماً تراعي التنوُّع والتعدُّديَّة والاختلاف."(119)  إزاء هذا يظل السؤال المطروح هو هل إسلام أهل السُّودان أكثر من إسلام أهل مصر؟ 
ومع ذلك، أفرزت الثورات الشعبيَّة التي اندلعت في الشرق الأوسط في مستهل العام 2011م، أو ما أسمَّوه "الربيع العربي"، أنظمة إسلامويَّة في تونس ومصر وليبيا.  فها هو رئيس المجلس الوطني الانتقالي الليبي – مصطفى عبد الجليل – يعلن أمام عشرات الآلاق من الليبيين الذين احتشدوا في بنغازي مصرِّحاً: "نحن كدولة إسلاميَّة اتَّخذنا الشريعة الإسلاميَّة المصدر الأساس للتشريع، ومن ثمَّ فإنَّ أي قانون يعارض المبادئ الإسلاميَّة للشريعة فهو معطَّل قانوناً، مشيراً إلى إنهاء تقييد تعدُّد الزوجات بموافقة الزوجة، ومراجعة عمل كل البنوك لتصبح إسلاميَّة."(120) 
وفي مصر أصدر عدد كبير من المنظَّمات والجمعيات بياناً شديد اللهجة، جاء فيه بأنَّ تشكيل لجنة صوغ الدستور بهذا الشكل "سيحرم النِّساء، وهن نصف المجتمع وذوات كفاءة عالية وخبرات متنوِّعة في مناحي الحياة كافة، من أن يشاركن مشاركة فعَّالة في صوغ دستور مصر الجديد؛ وكلنا يعلم أنَّ مجلسي الشعب والشورى فيهما أدنى نسبة تمثيل للنِّساء في العالم كله (...)."(121)  ثم وصفت هذه المنظَّمات استبعاد النساء من كتابة الدستور ب"محطة أخرى في الممارسات التمييزيَّة ضد المرأة، والتي ينادي بها ويمارسها التيار الدِّيني في البرلمان لإقصاء نصف المجتمع، ومنعه من القيام بدوره في الحياة؛ كما يعاقب نساء مصر على مشاركتهن في ثورة كانون الثاني (يناير) 2011م العظيمة والحفاظ عليها."(122) 
بيد أنَّ الجزائر، والتي كانت قد تأذَّت من نيران الإسلامويين، كانت أكثر حرصاً على إبعاد الدِّين عن السياسة.  استناداً إلى روح المادة ال26 من ميثاق المصالحة الوطنيَّة، الذي عُرض للاستفتاء في الجزائر العام 2005م، وفي الفقرة الرابعة من القانون تحت بند "الوقاية من تكرار المأساة الوطنيَّة"، تنص على أنَّه "يمنع تأسيس حزب سياسي أو المشاركة في تأسيسه أو في هيئاته على كل شخص مسؤول عن استعمال الدِّين الذي أفضى إلى المأساة الوطنيَّة، كما يمنع من هذا الحق كل من شارك في الأعمال الإرهابيَّة، ويرفض، بالرغم من الخسائر التي سبَّبها الإرهاب واستعمال الدِّين لأغراض إجراميَّة، الإقرار بمسؤوليته في وضع وتطبيق سياسة تمجِّد العنف ضد الأمة ومؤسسات الدولة".(123)  وكانت هذه المادة، التي وردت في قانون مشروع الأحزاب الجديد، قد قُصِد منها منع عودة قيادات "حزب الجبهة الإسلاميَّة للإنقاذ" المحظور، وكل "شخص مسؤول عن استعمال الدِّين الذي أفضى إلى المأساة الوطنيَّة" إلى النشاط السياسي بثوب جديد.
ولعلَّ تلكم الانتفاضات العربيَّة هي التي قال عنها الشيخ حسن عبد الله الترابي في حوار صحافي: إنَّ "اندلاع الثورات العربيَّة فتح المجال أمام الكلام حول (فرصة التيار الإسلامي للحكم في بعض الدول العربيَّة)، ووجدت حركات إسلاميَّة نفسها أمام واقع جديد يساعدها على الصعود والانتشار، لكن الخطورة أنَّ الإسلاميين ليست لديهم تجربة في الحكم وغير مهيئين له؛ لديهم نقص في آليات إدارة الاقتصاد والسياسة والفنون والرِّياضة والطِّب؛ كل المجالات لا توجد فيها معارف إسلاميَّة تساعد على الحكم وفقاً لقواعد وأسس إسلاميَّة.  وإذا كانت الفرصة تبدو سانحة كما يتخيَّل البعض، فهذا ابتلاء شديد للإسلاميين سواء في مصر أو ليبيا أو تونس أو سوريا؛ ومن دون نقد لا يعرف المرء أخطاءه."(124)  ومضى الترابي قائلاً: "الإسلام منذ انتهاء عهد الخلافة الراشدة لم يحكم؛ ولا توجد حتى الآن تجربة إسلاميَّة حقيقيَّة تصلح للحكم (...) والفقه الإسلامي خال من التأصيل السياسي؛ فكله طهارة وزواج وطلاق وحج، والصوفيَّة عندهم تقوى وأخلاق، لكنهم بعيدون من السياسة، ولا يوجد اقتصاد إسلامي، ولا فن إسلامي، ولا رياضة إسلاميَّة."(125)
وفي سياق "جدليَّة العلاقة بين الشريعة والدستور في التجربة الإسلاميَّة" أقام المعهد الألماني للأبحاث الشرقيَّة ورشة عمل بالقاهرة في يوم السبت 9 حزيران (يونيو) 2012م.  واستهدفت الورشة طرح تساؤل أمام الإسلاميين بمختلف أطيافهم، ودعاة الدستور بمختلف توجهاتهم، حول قدرة وإرادة وتطابق الفكرة الدستوريَّة مع الشريعة الإسلاميَّة: هل الشريعة مصدر موضوعي أو شكلي في الدستور؟  وما هو دور الشريعة في إنشاء مبادئ قانونيَّة للدولة والنِّظام السِّياسي؟  وهل ثمة إمكانيَّة للتعايش بين الشريعة والفكر الدستوري نظريَّاً وعمليَّاً؟  أو بصورة أخرى هل يعد الدِّين في الدولة الإسلاميَّة مصدراً للقيم أم مصدراً للسلطة؟  وكيف يكون مصدراً للقانون من دون أن يكون مصدراً للسلطة؟  وكيف يمكن فهم القول بأنَّ شرعيَّة السلطة في الدولة الإسلاميَّة مرهونة في قيامها واستمرارها بالتزامها بالعمل على إعمال القطاع القانوني الإسلامي في جملته، دونما تمييز، وإنَّ سيادة الشريعة وخضوع الجميع لها، حكاماً ومحكومين، من شأنهما أن ينصِّبا قانوناً أعلى فوق القانون؟  وماهيَّة الشريعة المطلوب تطبيقها: مقاصد الشريعة أم شريعة الأحكام؟  والمقصود بمقاصد الشريعة "مركزيَّة الإنسان في المنظومة الكونيَّة، واشتراع الدِّين لصون ضرورياته، ومراعاة حاجاته ووسائل تقدمه وازدهاره."  والمقاصد الكلية هي العدل والبر والإحسان، والعطف على الفقراء والمساكين واليتامى، والمساواة والعمل الصالح، ومجانبة الظلم والبغي والعداوان، والنهي عن المنكر والأمر بالمعروف.  إذ وضع أبو إسحق الشاطبي (المتوفي سنة 790ه) في كتابه "الموافقات في أصول الشريعة" مقاصد الشريعة، التي ترمي إلى حفظ مصالح البشر في إطار الكليات الخمس: الدين، النفس، العقل، النسل، والمال.  ويتوسَّل كتابه إيَّاه بالاستنتاج والاستقراء، وبناء الفقه على مقاصد الشَّرع.  أما شريعة الأحكام عند الإسلاميين فمستنبطة من نظريَّة المصالح والمجتمع الصالح في زعم الماوردي في كتابه "أدب الدنيا والدِّين" الذي قال فيه إنَّ الأدب أدبان: أدب شريعة وأدب سياسة، بينما تُقرأ نظريته السِّياسيَّة في كتابه "الأحكام السلطانيَّة".(126)  ومع ذلك، نجد أنَّ كتب الفقه الدستوري في أصول الفكر السياسي الإسلامي ليست بكثيرة.  فبالإضافة إلى "الأحكام السلطانيَّة" للماوردي – كما ذكرنا آنفاً – هناك "تسهيل النظر" للماوردي أيضاً، و"الأحكام السلطانيَّة" لأبي يعلى، و"غياث الأمم" للجويني، و"تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام" لابن جماعة، و"السياسة الشرعيَّة" لابن تيمية.
والفقه الذي منه تستنبط الشريعة أحكامها – أي المصدر الرئيس للتشريع – تتجدَّد بتجدُّد الزَّمان، وتتبدَّل حسب التبدُّل الذي يحدث في عقول الفقهاء والعلماء بتزايد الوعي، وتنمية المدارك عن طريق اكتساب معارف جديدة، أو بسبب الترحال والتسفار.  وبذلك تتأثر الأحكام والمقاصد الكليَّة والقيم الاجتماعيَّة المتضمنة في القرآن والسنة، بل أدوات الاجتهاد ووسائله، وأسلوب إعمال الفكر والتباينات في الرأي وهلمجرَّاً.  فقد أعاد الإمام الشافعي النَّظر فيما كتب مرة في بغداد وأخرى في مصر، حتى عُرف فقهه بقولين: أحدهما قديم، وهو الذي صنَّفه في بغداد، والآخر جديد، وهو الذي صنَّفه بمصر، وكان لا يريد أن يُروى عنه الفقه القديم، وله عبارة نصها: "لا أجعل في حل من روى عني كتابي البغدادي."  وإذا كان الإمام الشافعي، الذي كان يقرأ للناس الحديث ويفقِّههم في الدِّين ويفتيهم في أمور دينهم ودنياهم، يبدِّل ما قاله قدمة بما ينطق به جدة، أفلا يمكن أن يأتي أقوام آخرون يقولون قولاً أو يصدرون حكماً ينسخ ما قاله السَّابقون قديمهم وجديدهم!  وفي نهاية الأمر على الناس أن يقرُّوا بأنَّ ما يلهجون به ما هو إلا من بنات أفكارهم، وليس ما نفخ الله فيه من روحه كما يصرُّ بعضهم، ويرغمنا أن نحتمله، ونعتد به، ونقوم عليه.  وإذا كان الإمام الشافعي، الذي وضع علم أصول الفقه وكان من أذكى العلماء وأشدَّهم علماً، لم يستعمل عبارة الشريعة الإسلاميَّة في الرسالة، فما لهؤلاء القوم يملأون الدنيا ضجيجاً وعجيجاً بهذا المصطلح المستحدث؟
برغم من ذلك التضييق الفكري كان هناك ثلة من قادة حركة الفكر والتجديد الدِّيني، الذين لقوا في سبيل توصيل أفكارهم العنت والمعاناة والمكابدة حيناً، وتعرَّضوا لاضطهاد أفكارهم وكبت حريَّاتهم حيناً آخر، وللسجون حيناً ثالثاً، وللنفي أو العزل من الوظيفة في أحايين كثيرة.  فعلى سبيل المثال لا الحصر شجَّع الإمام محمد عبده على الاستمرار في تجديد الخطاب الدِّيني سعياً إلى تجسيد الطابع الحضاري والتنويري للدِّين بما يقتضيه ذلك الأمر من إطلاق الحريَّات الفكريَّة تحقيقاً لخير الفرد والمجتمع.  وقد انتهج الاتجاه الذي يزيل التناقض الضار بين حريَّة الفكر والإبداع والوصاية، التي يفرضها البعض باسم الدِّين.  ثم أتى من بعد محمد عبده تلميذه رشيد رضا في مدرسة العروة الوثقى.  وهناك أيضاً رفاعة رافع الطهطاوي – رائد التنوير في مصر – صاحب المقولة الشهيرة: "الناس على دين ملوكهم"، والدِّين هنا يتجاوز الدِّيانة إلى الدَّيدن والمنهاج في الحياة، والعهدة هنا على الرَّاوي سيِّد ضيف الله.  بيد أنَّ مصطفى عبد الرَّازق كان صاحب مدرسة خاصة في الإصلاح والتجديد الدِّيني، وقاد حركة الإصلاح الأزهري، "وكذلك أخوه علي عبد الرَّازق، الذي فُصل من الأزهر بسبب كتابه "الإسلام وأصول الحكم" بعد المحاكمة التأديبيَّة التي عقدها له الأزهر، فخرج بمقتضى قرارها من "زمرة العلماء"."(127)  وعاد إلى أهله ثائراً فائراً ساخطاً عليهم كلهم أجمعين أبتعين.  وبات الأمر حقيقة ناصعة بأنَّ كتابه كان بمثابة ثورة فكريَّة على رؤى تقليديَّة من أجل تأسيس مسار مدني للدولة الشرقيَّة، التي كانت لا تزال خارجة لتوها من فلك الصيغة الإمبراطوريَّة.
ففيما سبق ندرك أنَّه في تأريخ الإسلام، الذي هو تأريخ صراع سياسي من أجل امتلاك السلطة السياسيَّة، كان هناك "منصفون من الفقهاء ومن مؤرِّخي المذاهب والفرق، وكانوا حريصين ما وسعهم الحرص على ذلك، على التمييز بين التفسيق والتبديع والتفكير في إصدار الأحكام الشرعيَّة."(128)  ولكن في واقع الأمر كانوا قلة قليلة؛ وما كتبه أولئك وهؤلاء من أهل العقل والإنصاف كان نذراً قليلاً بالقياس إلى أدبيات التكفير والهجرة.
كل ذلك لأنَّهم طالبوا بحريَّة الرأي والتفكير ضد أولئك وهؤلاء المتدثِّرين والمتخندقين بالإسلام، وتتجلَّى الحريَّة في كتاب "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" لعبد الرحمن الكواكبي، الذي كان يعد من دعاة الإصلاح الدِّيني والسِّياسي.  ويتميَّز تأليفه إيَّاه بأنَّه كتاب رائد في موضوعه وطريقة كتابته وبحثه، حيث استطاع فيه أن يضع قضيَّة الحريَّة على قمة أولويات البحث في الفكر العربي الإسلامي.  هذه الحريَّة هي التي جعلت المأمون الخليفة العباسي أن يخيِّر الحرَّانيين (أهل حرَّان) بين أن يلتحقوا بالإسلام وبين أن يعتنقوا ديناً من الأديان السماويَّة المذكورة في القرآن، وذلك بعد أن علم بأنَّهم ليسوا أهل كتاب.  فاختاروا لأنفسهم حينئذٍ اسم "الصابئة" لورود هذا الاسم في القرآن، ولزمهم هذا الاسم منذ عهدئذٍ.  والجدير بالذِّكر أنَّ الفعل صبأ لغة يعني بدَّل دينه.




للحديث بقيَّة،،،،

 

آراء