(كلب السجّان) للروائي مُحسن خالد
abdallashiglini@hotmail.com
قرأت اليوم على صحيفة مصورة أرسلت إليَّ في بريدي الإلكتروني . وجدت في برهة من وسط أحزمة القضايا التي تنتظر يوم العمل، ودلفت إلى الخاص . في صفحة من صفحات صحيفة " الرأي العام " قرأت :
الروائي " محسن خالد يعتزل الكتابة :
( قليلون جداً هم الكُتاب الذين اعتزلوا الكتابة ..الشاعر الفرنسي الشاب " رامبو" اعتزل كتابة الشعر وهو في مقتبل العمر وذلك لمروره بحالة روحية صوفية فترك كتابة الشعر ...الروائي السوداني " محسن خالد " بعد نجاحه الكبير في الرواية والقصة حيث قدم ورايته الذائعة الصيت " تموليلت " ومجموعته " كلاب السجان " قرر اعتزال الكتابة والاعتكاف للتعبد والتنسك ...) .
قلتُ لنفسي : وما ذنب الكتابة والقص ، وفي الذكر الحكيم :
{ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ ٱلْقَصَصِ} سورة يوسف 3.
تركت كل شيء وبدأت أبحث في كتاباتي في " غوغل " 2005 ، ووجدت ما كنتُ قد كتبت:
(1)
في مساء اليومالذي جلس فيه الأديب مُحسن خالد قُبالتي وأنا أتصفح المجموعة القصصية ( كلب السجان)، ومعها روايته الأخرى ( الحياة السريّة للأشياء ) ، كان قد تركها على الطاولةيُسراه ، ونحن ننتظر دفء كؤوس الشاي أن تأتينا من نادلة أخرى في مطعم لا يُتقن أهلهكيف يقدمون البضاعة . قلت له:
ـ أنا لم أعرف ولم يُسعفني الوقت لأقرأ لك ْ . السماوات التي أراها مُتحركة في (سودانيز أونلاين ) لا تترك مجالاً لتتبُع خُطاكوأنت بأصابعك من ( الكي بورد ) وإلى السماء السيبيري مباشرة . ليس لدي الوقت لأتابعإنجاز قصّك المُتحرك . كيف أقتني كُتبك سيدي ؟ .
قال :
ـ هذان الكتابانهدية لكْ .
تراجعت مضطرباً ، لأسد منافذ التسول باللُغة المتطورة ، فقلت :
ـ ما قصدت ..، أريد أن أقتني كتبك . كيف للشاري أن يعثر عليها والكونبضاعة مُتخمة لا تعرف أنت كيف تبدأ ، وأين تقف شارياً ؟ . أمن السماء تشتري أم منالمكتبات أو تتسول الأصدقاء أم تقرأ القص السيبيري ؟ . أنا أتتلمذ على( النت ) ووسائطه ، مُريدٌ لا يعرف أي شيخ يتّبِع . شيوخ الطريقة الفارهة ، يطلبون الماللأتعلم ، والزمان لأترحّل ، والقلب الرشيق لأبدأ هوى جديداً ،يقلب حياتي الراكدة منبعد غياب الأسرة.
قال :
ـ هُما لكْ ..هدية .
قلت في نفسي ،أظنه قد ثبت الأجر وابتلَّت العروق . أيها الإنسان كم أنت قليل الأصل . قرار الكراموقع عليكِ يا نفس وقوع الصاعقة . شكرته وأنا في رونق المساء والأضواء الخافتة حولنا . أضاءت نفسي من الفرح . سكنت موسيقى التلفاز ، وبدأ حديثاً منه وتقلبت الصور . قلتآخر ما عندي من حبائل التسول :
ـ عزيزي ربما لا تملك غيرهما ؟.
قالالروائي مُحسن خالد :
ـ ربما.. ولكن في دارنا مجموعة وسوف ألقاهما مرة أخرى . لو زرتني يا عبد الله ستكتنـز مجموعة كُتب بالمجان ، وتقرأ متى شاء لك الزمان أنتقرأ . لتسرع الخطى إلينا فأنا صادق الوعد .
(2)
على المنضدة قربمرقدي جلس الكتابان فوق بعضهما ينتظران . أنا أتقلب في النوم أو على بوابات الصحوأو يتعلق ناظريّ ببعض ما يعرضه التلفاز من الأخبار المُتحركة والوسائط الهُلاميةالتي تطهوكَ على الخبر ومُشتقاته وتقنية الرسائل المُشفّرة للعقل الباطن وهموم العملالمُحبِط أثقل من حجارة الجبال تتساقط كيفما اتفق .لم أقرأ ولم أجد ما يكفي منالوقت . الصفحة الأولى من المجموعة القصصية ( كلب السجان ) قالت لي :
ـ قُميا رجل ، أين خُبز العقل ، وادعاء الفتوة الثقافية ؟ .أنتم أيها السودانيين تنتقيقراءتكم الصدفة . تعبون عب الجياع ، ومن بعد .. تدوسون النِعمة بأرجلكم !
أمسكت بالصفحة الأولى وبدأت .. فاغراً ألفاه وأنا أخطو ببطء . عرفت أني أطأأرضاً بكراً بعينييّ . سلاسة اللغة وانجذاب التشويق بين الدهشة وحافة الهبوط منالقاع إلى العُلا ! . يااااااااه كم كُنتُ تعساً في حياتي السالفة .
(3)
لم أكن أصدق أن الفوضى الضاربة من حولي هي مُهلكة لحدّ الفُجور . لم تعُد خزانة الملابس وحدها التي تشكُو . عند كل زيارة لها ، أفتح بوابتهافتُقذف وجهي بما شاء لها من الأقمِشة . الكتب مع الأوراق أيضاً تنام أينما اتفق ،بل الحاسوب صار يشكو و يُحاسبني على الفوضى تثاقلاً ، من الملف إلى الآخر مرَّالسحاب لا ريث ولا عجل . الضفة اليمنى عنده أكثر ثقلاً من اليُسرى . أي سلسلةفقارية تتحمل ! . لو أن جلادو مواضي التاريخ يعرفون أن العذاب في الفوضى أكثرإيلاما ، لعلموا أن مجموعة الأديب مُحسن خالد القصصية ( كلب السجان ) من بعد أنفقدتها عشت تأنيباً للضمير أشد قسوة من كُل العذابات السالفة . عُدة أيام من الحسرة . كأن الدنيا أطبقت عليّ بحوائطحجرٍ باردٍ في منفى بسيبيريا ، أيام الدولة العُظمىالتي طواها التاريخ بين أوراق أضلعه . آخيراًعثرت على المجموعة القصصية مُختبئة تحت حاشيةمتاع . كنـزٌ في مقلب قمامة ، بعد أن فقدت الأمل . عادت الروح إلى الجسد الباردوانتفضتُ فرحاً.
(4)
اليوم أنا ذاهب لعمل في قلب الصحراء بسفينة سيرمن عصر جديد ، لا يلفحُكَ السموم ، ولا يُضنيكَ وهج نهار الصيف . السابعة صباحاًانطلقنا ، تكييف الهواء وفق ما تشتهي الأنفُس . على يُسراي سائق مُتمرِس باكستانيالجنسية ، قليل حديثٍ باللُغة الهجين بين العربية الدارجة والأوردو وبعض الإنجليزية، تنام جميعها على طريق مُجنـزرةٍ تدحوها دحو الرقاق !. عصير مُشكّل من الودوالوصال شربناه معاً .
قُلت لنفسي أكمل قراءة المجموعة القصصية ( كلب السجّان) فهذا هو الوقت وتلك هي الساعة، لنلج عالم "مُحسن خالد " الخاص . المكان الذي نقصُدللعمل يبعُد أكثر من سبعين وثلاثمائة من الكيلومترات عن المدينة التي رحلنا عنهااليوم مُبكرين . في الوقت متسع . بدأت أقرأ واستراحت النفس ، وأنا أتقلب في دعة علىأرجوحة مُعلقة بأقطار السماء . يلفحني نسيم بارد هو مائدة الصيف عندما يشتد الحر . بدأ العالم من حولي من خلف زجاج السيارة وهجاً شفافاً من النيران أراها وأنا فيبرودة المكان حولي كأنني أقرأ عن الصيف ولا أعيشه . قرأت أرتالاً من حاملات كُفوفالراحة لأشرب من حنان اللحظة الهاربة بجمالها من عذابات السودان ، قصّ من جمرٍوذهب. تلتقط ما شاءت لك الصدفة أن يكون الراوي، على شُرفات تُطل على طريق الحياةهناك . قصٌ أخذ من بنية الواقع وأحابيل التقنية المُبهرة واللغة سليمة الأصولوالخيال الجامِح .
(5)
قلت أقرأ ماذا كُتبَ على المُغلف وأنا في غمرةالشوق للمتابعة :
كلب السجّان
تضم هذه المجموعـة أربع قصص ، هي :
(عيد المراكب)،
(الوجود والوجود الآخر)،
(كلب السجّان)
و ( ذهب بنيشنقول.)
أربعة نماذج فنية نحتتها تجربة أدبية مميزة ومخيّلة خلاقة، لكاتبيحفر في طبقات متعددة من جسد التجربة ، في اختبار للغواية يرجّ الشكل المألوف ،وينفذ بالقص ، عبر طاقة استثنائية لعمل الحواس ، نحو عوالم تشع بالمدهش مرئياًومتوهماً . إنها تجليات قصوى للروائح ، والألوان ، والملمس ، المشهد ، الطعوم ، فـ(الغواية ) ؛ ومن الغواية يبدأ الاكتشاف .
(6)
أكملت قراءة قصة(عيد المراكب ) ورأيت :
كأنني أغتسل من سائل الحنين مُلوناً وأخرج عارياً . بجلدالطفولة ،نفسي وقد ارتدَّت إلى الأفق الحاني من جديد . بدأت حياتي مع الراوي . غض الشبابأنا مُترع بفتوة وخيلاء تجعلني أتمرغ في الكون من أقصاه إلى أقصاه . تَعب الدنياومشاق الحياة تغسلهما بُدرة القص الصابونية . خرجت من فواجع الأيام الكئيبة السابقةوأنا سيد نفسي أهوى الانطلاق .
أبدأ لكم من حيث انتهى الراوي وهو يخُط فرحه قبلفجيعته فيمن أحب ، وبعد الفجيعة حين أطبق عليه الحُزن لهباً ،أحرق العُمر النضيروسوَّد الأفق .
أنقل النص الآن متجاوزاً الحقوق الأدبية مستأذناً من الناشر أننيأقف عند شُبهة الترويج :
قبل الفجيعة :
{النهر كان دهراً من لمعالشوق ، ولم يكن لحظة ماء عابرة . هناك مركب تَغبَّش بها النهر عن بعد ، وفي لوثةمن ضباب ، كما العقل المرهون لهاجِس خوف وخطر مُقْلِقْ ، ثم أخيراً تفتق عن فكرةتنقذه .
قدماي مخضرتان حيث يحزهما ماء النهر الذي وقفت فيه طويلاً ، أية خضرةهذه يا ترى ؟ أدغدغة حقل يا ربي ، لكوني رقعة لآدم من طين وبذور ؟ أم عوالق وطحالبالانتظار ، لكوني وقفت لملء عمر من السنوات ؟ ربما المراكب التي تأتي بسلمى لاينتظرها الإنسان في نهر . فقد تَزِل قدم الشوق عفواً ، ويدفع الإنسان ثمن وقعته ،وقعة نهر كاملة وبحذافيرها . تمضي نحو مصب مياه كجهة الغروب في لوحة ، جهة لاتبلغها شمس الرسم أبداً}.
وبعد الفجيعة :
{الليلة يذهب بها العُمرإلى حيث قَصَّرت بك الأيام . هاك العمر كله ، أضحى مُسَوِّساً ، ومفتوحاً بالحرمانوغياب أحد كبيوت الأرامل . جاءوا بها بلا كراسات كما هي ليست طالبة الآن . لم تعُدتَهُمّ ، ككتابك الذي أخذوه إن كنت تذكر . رائحة درس لم يكتمل تكفي كذكرى من أحد . لا ، بل انتظرها عند المُشرَع ستعود ، أو هاهنا ، حيث تنام ، فقد تصحو مع نوارسالبحر الأبيض ،إذ تعلَّقَ بها صِحابها من الملائكة كي تقضي معهم هذا الخميس ، فاهِم؟}
عبد الله الشقليني
15/1/2014