خطاب البرهان الى الامين العام، هل أزمة جديدة مع المجتمع الدولي في الطريق؟

 


 

 

يسهل على الراصد للشان السوداني، و الباحث في علاقات الحكومة السودانية مع المجتمع الدولي، أن يؤشر مستوى من التراجع في العلاقات بين الحكومة و الامم المتحدة منذ 25 إكتوبر 2021 ، حيث بدات العلاقة تتوتر بصورة خاصة بين رئيس مجلس السيادة و رئيس البعثة الاممية السيد فولكر بيرتس.
ظهرت على محطات التلفزيون الاخبارية، و من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، خطاب بتاريخ 26 مايو 2023 صادر من السيد رئيس مجلس السيادة الفريق عبد الفتاح البرهان، (يطلب) فيه من الى السيد انطونيو غوتيرش، الامين العام للأمم المتحدة ترشيح بديل للسيد فولكر بيرتس، بسبب عدم التزامه بمبادئ الامم المتحدة الاساسية في الحياد و عدم الانحياز و إحترام سيادة الدول. لخص الخطاب عدد من الاسباب التي دفعت السيد رئيس مجلس السيادة لكتابة هذا الخطاب الى الامين العام للامم المتحدة. و بدون الخوض في مضمون الخطاب ذو الثلاث صفحات، هناك ملاحظات شكلية على الخطاب لا تخطئها العين. فالخطاب صدر من رئيس مجلس السيادة و بتوقيعه، و لم يصدر الخطاب كما كان متوقعا من وزارة الخارجية و لم يتم ارساله الى الامم المتحدة عبر بعثة السودان الدائمة في رئاسة الامم المتحدة بنيويورك كما تقتضي الاعراف في التواصل مع المؤسسة الدولية الاكبر في العالم. و لم يراعي الخطاب الشكل الدبلوماسي التقليدي في المخاطبات و لم يتبع اللغة المعهودة في مثل تلك الخطابات التي يتم توجيهها الى الامم المتحدة. لكل ذلك ذهبت تحليلات المراقبين بان الخطاب صدر بعيدا عن المؤسسات المعنية بهذا الامر، و ان هناك مؤشر بان التواصل بين المؤسسات قد انقطعت ربما بفعل الحرب و تدمير وسائل التواصل بين الاجهزة و المؤسسات. إستنادا على هذه الفرضية، من السهل الزعم بأن الخطاب قد تمت كتابته بواسطة شخص غير متخصص و لا علاقة له بالدبلوماسية الدولية.
صدر هذا الخطاب بعد الزيارة التي قام بها السيد فولكر الى نيويورك لتقديم احاطة حول الوضع في السودان لاعضاء مجلس الامن التابع للامم المتحدة. في الاحاطة التي قدمها المبعوث الاممي امام مجلس الامن، أشار الى الانتهاكات الجسيمة التي اقترفها الطرفين اثناء الاشتباكات.
طلب ام ابعاد؟:
و الخطاب بصورته تلك يطرح السؤال عن الطبيعة السياسية و القانونية للخطاب، و الاثر الذي قد يخلفه هذا الخطاب على علاقة الحكومة السودانية بالامم المتحدة في هذه الظروف الحرجة التي يمر بها السودان. و قد نصت الفقرة القبل الاخيرة من الخطاب على ( طلب من الامين العام باستبدال السيد فولكر بيرتس). من المهم الاشارة هنا الى ان البعثة الاممية في السودان تقع تحت مسئولية مجلس الامن الذي اسس البعثة بموجب قراره بالرقم 2524 و مجلس الامن، و بموجب هذا القرار يكون لمجلس الامن وحده الاختصاص في وضع القرارات الخاصة بعمل البعثة في السودان. بالتالي، و بدون الحاجة الى ذكر، يكون مجلس الامن هو الذي يقرر في الطلبات المقدمة من الدول ( و هنا الحديث عن السودان) والخاصة بالبعثة. و لا يستوي كذلك القول، ان المراسلة التي قام بها رئيس مجلس السيادة غير معتبرة او ستذهب الى سلة المهملات بسبب عدم الاختصاص، اذ من الممكن للدول ان تخاطب مجلس الامن عبر الامين العام للامم المتحدة.
و الملاحظة الثانية التي يثيرها (طلب) رئيس مجلس السيادة من الامين العام للامم المتحدة باستبدال المبعوث الاممي في السودان، إذا الخطاب ( يطلب) من الامين العام باستبدال ممثله الخاص في السودان. و في هذه الحالة من السهل القول بان الطلب قد تتم الاستجابة عليه بواسطة الامين العام بالقبول او الرفض.
و تقديم (طلب) الى الامين العام يختلف تماما عن ان يصدر السودان (اعلانا) باعتبار السيد فولكر بيرتس (شخصا غير مرحبا به في السودان). و في حالة الاعلان بالشخص غير مرحب به في السودان، فانه يكون (قرار سيادي) من الدولة باستبعاد الشخص المعني من الاراضي السودانية.و في هذه الحالة يكون قرار السودان نهائي و لا ينتظر بخصوصه رد او تعقيب، على خلاف (الطلب). و يصدر (الاعلان) بان الموظف الاممي المعني (غير مرحب به) من وزارة الخارجية، و يتم تطبيق القرار وفق ارادة الدولة المضيفة. و هناك سوابق راسخة في الذاكرة حيث قام السيد وزير الدولة بوزارة الخارجية وقتها، السيد على كرتي باصدار اعلان باستبعاد ممثل الامين العام للامم المتحدة من السودان، السيد يان برونك، بوصفه شخصية غير مرحب بها، في 22 اكتوبر من عام 2006، و ايضا اصدرت وزارة الخارجية في ديسمبر 2014 اعلان بان المنسق المقيم للأمم المتحدة ومنسق الشؤون الإنسانية علي الزعتري والمديرة القطرية لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي إيفون هيلي شخصان غير مرغوب فيهما في السودان. إذن لطالما أن الحكومة السودانية على علم بالفرق بين (الطلب) و (الاعلان) فانها على الارجح فعلت ذلك و هي تدري بان القرار في الطلب سيكون عند الامم المتحدة.
لكن الاعتبارات السياسية و الدبلوماسية تجعل لمثل هذا الطلب آثار كبيرة على مستقبل عمل البعثة في السودان التي سيتم تجديد تفويضها في مطلع شهر يونيو 2023 لمدة 6 اشهر اخرى، و التي سينتهي تعاقد مبعوثها في السودان، السيد فولكر بيرتس، في مطلع عام 2024. أذن هذا الخطاب استعجل الوصول الى نهايات، هي كانت قادمة بالضرورة، الا وهي نهاية عقد المبعوث الاممي
خلفيات الازمة بين فولكر و البرهان:
بقراءة الاحداث السابقة لسفر ممثل الامين العام الى مجلس الامن لتقديم الاحاطة الدورية عن الاوضاع في السودان في الاسبوع الاخير من شهر مايو، من السهل التكهن بمصير العلاقة بين الرجلين و بمستقبل عمليات بعثة الامم المتحدة في السودان. و هذا ما توضحه الاحداث.
في ابريل 2022 في الوقت الذي قادت فيه البعثة الاممية مشاورات واسعة من اجل استعادة المسار الديمقراطي بعد انقلاب اكتوبر 2021، هدد السيد رئيس مجلس السيادة بطرد السيد فولكر من السودان بسبب تدخل الاخير في الشئون الداخلية و عدم التزامه بالتفويض الخاص به حسب رئيس مجلس السيادة. إذن الرغبة في طرد المبعوث الاممي لم تكن مخفية. كما شهدت مقار البعثة الاممية في الخرطوم مظاهرات متعددة، مدعومة من انصار حزب المؤتمر الوطني المحلول التابع للرئيس المخلوع عمر البشير. مع تقدم النقاشات بين المدنيين و العسكريين، من أجل استعادة مسار التحول الديمقراطي في السودان، التي كانت تقودها بعثة اليونتامس مع الالية الثلاثية مع الايقاد و الاتحاد الافريقي، تصاعدت حملة اعلامية واسعة ضد بعثة يونتامس و رئيسها. حيث شهدت الايام السابقة لاندلاع الحرب بين القوات المسلحة و قوات الدعم السريع في 15 ابريل 2023 تهديد مباشر لرئيس البعثة الاممية بالاغتيال عبر فيديوهات مسجلة حظيت بانتشار واسع عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
عودة الى مربع الخصومة مع المجتمع الدولي:
لقد ابدى المجتمع الدولي إهتماما كبيرا بدعم التحول الديمقراطي في السودان عقب الاطاحة بالرئيس السابق عمر البشير في إبريل 2019، و كان انشاء بعثة اليونتامس في عام 2020 أحد أهم مظاهر ذلك الدعم. و باندلاع الحرب بين القوات المسلحة و الدعم السريع في 15 ابريل 2023، أبدى المجتمع الدولي إهتماما عاليا بمسالة أنهاء الحرب و حماية المدنيين. و من ثمرات تلك الجهود إنشاء منصة للتفاوض بين الطرفين المتحاربين في جدة في مطلع شهر مايو2023، و توقيع اعلان جدة لحماية المدنيين في 11 مايو، و توقيع اتفاق وقف اطلاق النار قصير المدة في 20 مايو. و مع انطلاقة المفاوضات في جدة بين الاطراف المتحاربة، اصدرت ادارة الرئيس بايدن في 4 مايو قرارا تنفيذيا يفرض عقوبات على الاشخاص الذين يهددون استقرار السودان، معتبرا استقرار السودان من اهداف الامن القومي الامريكي. و مع توقيع اتفاق وقف اطلاق النار قصير المدة، بث وزير الخارجية الامركية انطوني بلينكن رسالة الى الشعب السوداني من خلال فيديو بثه عبر وسائل التواصل الاجتماعي، و اعتبر ان انتهاك اتفاق وقف اطلاق النار من اي من الطرفين سيستوجب فرض عقوبات امريكية على الطرف المنتهك.
يبدو ان الطرفين لم يعطيا التهديدات الامريكية قيمة كبيرة، لان الطرفين لم يلتزمان بالتعهدات التي تم الاتفاق عليها في جدة. إن خطاب الفريق البرهان الى الامين العام و طلبه باستبدال فولكر، مقرونا مع عدم احترام الالتزامات، و تجاهل التحذيرات بفرض عقوبات يفتح الباب أمام تكهنات مرجحة بصورة كبيرة بتازيم العلاقة بين الجيش السوداني و المجتمع الدولي. و من المرجح في مثل هذه الظروف ان يعود السودان الى سابق عهده – الى زمن الرئيس السابق عمر البشير الذي في عهده انقطعت الصلات مع المجتمع الدولي و منظماته بشكل لم يسبق له مثيل في تاريخ السودان.
مستقبل الحرب في ظل توتر العلاقات مع المجتمع الدولي:
مع الوضع في الاعتبار أن منصة جدة للتفاوض لم تستقر حتى الان، و دور الامم المتحدة فيها ليس واضحا و غير مؤثر حتى الان، و بالتالي لم تعد آلية بناء السلام واضحة للعديد من المحللين و المتابعين. في حال ان ساءت العلاقة بين الجيش السوداني و المجتمع الدولي، ستنهار المفاوضات الثنائية، و سيصعب انجاز منصة فعالة للحوار و التفاوض في الوقت القريب بسبب إنهيار الثقة بين المجتمع الدولي و الجيش، و تباين مصالح المتداخلين في الحرب. لقد شهدت الحرب السورية و الحرب في ليبيا صعوبة شديدة في عقد مفاوضات ناجحة بسبب تباين مصالح الدول المتداخلة في الحرب، و ضعف ادوار المؤسسات الدولية بما فيها الامم المتحدة. و سيظهر وجه الشبه بين الوضع في السودان و تجربتي سوريا و ليبيا بشكل واضح، حين يصر الاطراف المتحاربة على السعي الى بناء تحالفات دولية تدعم الاطراف المتحاربة بالاسلحة و المرتزقة في مقابل عدم التعاون مع المجتمع الدولي الساعي لبناء سلام.
لمحاصرة فرضية استمرار الحرب، و منع اتساع نطاقها، و الحد من التدخل الدولي فيها، من المهم بناء تحالف دولي عريض يشمل المؤسسات الدولية، بما في ذلك الامم المتحدة و الاتحاد الاوربي، و المؤسسات الاقليمية، بما في ذلك الاتحاد الافريقي و الايقاد و جامعة الدول العربية، بالاضافة للدول الفاعلة في الشان السوداني و التي لديها خبرة طويلة مع النزاعات المسلحة في هذا البلد. مثل هذا التحالف يكون إضافة و دعم، و ليس بديل، لمنصة جدة التي تقودها السعودية و الولايات المتحدة الامريكية.على هذا التحالف ان يحد من التدخلات الدولية الضارة في الحرب السودانية، و يخلق توافق دولي حول اليات حل النزاع و انهاء الحرب.
إن خطاب السيد رئيس مجلس السيادة الى الامين العام فتح الباب واسعا امام التكهنات بخصوص مستقبل عملية بناء السلام و استعادة التحول الديمقراطي في السودان. أبدت دوائر دولية عديدة عن قلقها حول مستقبل العلاقة بين السودان و الامم المتحدة، و عن مستقبل التحالف الدولي من أجل انهاء الحرب في السودان. لا شك ان المرحلة القادمة تتطلب حكمة اكبر التعامل مع أزمة الحرب و الاضطراب السياسي في السودان، و الاهتمام بمسألة بناء الثقة لضمان استقرار مبادرة السلام التي تقودها بكل صبر المملكة العربية السعودية و الولايات المتحدة الامريكية. مازالت فرصة مساعدة الشعب، و بناء السلام في السودان بمساعدة المجتمع الدولي، كبيرة و ممكنة، برغم التحديات الماثلة.

advosami@hotmail.com
/////////////////////////

 

آراء