ياسر عرمان: حياة المنافي والترحال تضرّ بالوجدان .. لم أشعر بالندم مطلقاً. لماذا أندم؟ نحن حياتنا أخضعناها لمصالح الشعب السوداني

 


 

 

قرنق شخص قادم، وهو شخص من المستقبل، وأنا متأكّد أنّ الأجيال القادمة ستعود إلى جون قرنق

أديس أبابا - آدم محمد أحمد/ اليوم التالي

عتبة أولى

ثمة شكوك تغلب على طابع الرجل، فهو كما قال "مدرب للتعامل مع كل شيء يثير حفيظته"، سيّما المغلّف منها. وافق على الفور على إجراء هذه المقابلة. كان ذلك قبل يوم من انتهاء جولة المفاوضات الماضية بين الحكومة وقطاع الشمال بأديس أبابا، لكن تنفيذ الفكرة أخذ وقتاً طويلاً، لأنّ ياسر سعيد عرمان، رئيس وفد الحركة الشعبية للمفاوضات كان غير مقتنع بفكرة أن يجري حوارا يجد مساحته في صحف الخرطوم. بدأ يتحجّج بمشاغله، وكنت عندما أذكّره يأتي ردّه دائماً: "انتظر قليلاً لأننا الآن في نقاش حول قضايا كبيرة"، رغم أنّ فكرة الحوار هذه لا صلة لها بما يناقشه عرمان مع وفد الحكومة، إلا أنّ الرجل يمكن وصفه بالمتردّد. وبعد أن أقنعته بأن المقابلة هدفها (الوجه الآخر)، منحني أقلّ من ثلث ساعة للجلوس معه، وقبل أن أكمل زمني، دسّ مبارك آردول ورقة في يد عرمان جعلته يعجّل بقطع الحديث، ومضى بعيداً لا أدري وجهته، فإلى مضابط الحوار الذي تمّ في باحة فندق رديسون بلو بالعاصمة الإثيوبية أديس أبابا.

** كيف يبدو ياسر عرمان؟

- أنا بطبعي شخص متفائل، ولا أحبّ الحديث عن نفسي، ومن أكثر اللقاءات صعوبة بالنسبة لي هي اللقاءات الاجتماعيّة التي تسألني عن قضايا خاصّة، وعادة ما أكون مختصرا. لا أعلم ما المقصود بكيف أبدو الآن، لكن الآن أنا معك في هذا اللقاء، كنت غير مقتنع بإجراء هذه المقابلة، ولكن لعدّة أسباب وبعد دفوعات قويّة، وإلحاح منك، وافقت على هذه المقابلة، وأتمنّى أن تضيف شيئاً مفيداً.

* ألم تشعر بالإرهاق بعد؟

- لا لم أشعر بالإرهاق.. أنا ليس الجسد، بل العقل والنفس لها مرامي كبيرة. أنا سخّرت حياتي من أجل قضايا آمنت بها، وأعتقد أنّها ستضيف للسودان، وأنا ما زلت أؤمن بالسودان من حلفا إلى نمولي، ومن الجنينة إلى كسلا، وأؤمن بأفريقيا ككلّ والعلاقات بين العالم العربي وأفريقيا، وأؤمن بالإنسانيّة ككلّ، ولا زالت أعتقد أنّه يُمكن قيام اتحاد سوداني بين الدولتين مستقلتين؛ الجنوب والشمال، وأنا من جيل تعلّمت على يد أساتذة ومبدعين ومثقّفين وفنانين. أنا أحبّ شمال السودان مثلما أحبّ جنوب السودان.

* يوم عادي في حياة عرمان؟

- لا توجد لديّ أيّام عاديّة. معظم وقتي مكرّس للعمل في داخل صفوف الحركة، وفي مهام قياديّة مختلفة، ومع قوى سياسيّة واجتماعيّة، ونادراً ما أجد وقتاً كافياً، وأكثر ما ألحقه بي هذا البرنامج من أشياء أشعر بالأسى عليها؛ لم أجد وقتاً كافياً لأمضيه مع والدتي وأبي وأهلي وزوجتي. معظم وقتي مكرّس للعمل العام.

* التواصل مع الأسرة في شمال السودان؟

- الرابط الحقيقي لديّ عدد من إخوتي موجودون خارج السودان، وهم يقومون بمهام كثيرة نيابة عنّي، وعن طريقهم اتّصل بشكل مستمر، وأشارك في هموم الأسرة بما استطعت.

* حسناً؛ احك لنا عن حياتك الاجتماعية؟

- الحياة الاجتماعيّة عريضة، لكن إذا أردت أن تتحدّث عن الحياة المباشرة؛ فأنا متزوّج، وزوجتي من جنوب السودان، ومن أبيي، ولديّ بنتان؛ واحدة عمرها (21) عاماً، وهي ستنتهي هذا العام من الماجستير في القانون التجاري الدولي في جامعة في بريطانيا. الأخرى عمرها (17) عاماً، وهي على وشك أن تنتهي من الكليّة. ستذهب أيضاً للفصول النهائيّة من الدّراسة الجامعيّة.

* الخرطوم في وجدان ياسر عرمان؟

- الخرطوم تحتلّ مكانة مركزيّة في عقلي ووجداني. انا أحبّ هذه المدينة، سألني دكتور قرنق ذات مرّة في مجلس الوزراء الأيّام البسيطة المضيئة القليلة التي أمضاها في الخرطوم، سألني: "إذا أردت أن أخلق صلات قويّة مع مواطني هذه المدينة؛ فكيف أفعل ذلك؟". قلت له: "يجب أن تفعل شيئين؛ أن تحضر كل مناسبة فرح وزاوج، وأن تذهب لتعزّي الناس في أتراحهم، ولتنشأ بينك وبينهم أقوى الصلات"، فضحك، وبعدها مباشرة أتى العم الأستاذ محمّد الحسن، الذي كان يعمل في جريدة (الشرق الأوسط)، فحكى له ما قلته له، فضحك كثيراً، لذلك أنا أحبّ رائحة الأرض والناس والنيل في هذه المدينة العظيمة.

* متى العودة إلى الخرطوم؟

- سنعود، ونحن لم نغادرها، إذا غادرناها بأجسامنا فنحن على صلة مستمرة بها، ونتابع ما يجري فيها باستمرار. هذه المدينة هي التي شكلت لوحة حينما حاصرها الإمام المهدي، فقد كان العبيد ود بدر من الجزيرة، عثمان دقنة من الشرق، أبوعنجة كان من الكارة، الزاكي طمل بجذوره التي تمتد في أنحاء عديدة من السودان، وأبو قرجة من دنقلا، ود النجومي من ولاية نهر النيل، والإمام المهدي من جزيرة لبب، في أقصى شمال السودان. كانت تلك لوحة، واللوحة الاخرى العظيمة شكّلها عبدالفضيل ألماظ ومعركة النهر العظيمة، والدته من قبيلة المورة، وأبوه من النوير. هذه المدينة بها عطر محمد وردي، وبها حكاية عظيمة من الثقافة والمجتمع والتاريخ، والخرطوم هي التي جمعت كلّ السودانيين، حتّى في أوقات الحرب استطاعت أن تنشئ علاقات بين المجموعات، لذلك هي بوتقة لالتقاء الثقافات السودانيّة، ويجب أن تظلّ كذلك.

* تريد أن تتحدث عن محمد وردي الفنان، سيما علاقته بالجنوب؟

- محمّد وردي إنسان عبقري، والسودان لا ينجب أمثاله إلا كلّ خمسين أو مائة عام، وهو شخص كبير في الإبداع والنضال وفي الانتماء الحقيقي للسودان. أنا قلت إنني سأوثّق علاقته وموقفه الديمقراطي الذي لا يشقّ له غبار من قضايا الهامش، والجنوب على وجه التحديد. أمسيات وصباحات وغروب السودان تشتاق لمحمد وردي مرّة أخرى.

* ماذا عن حياة المنافي والترحال؟

- حياة المنافي والترحال تضرّ بالوجدان وتخلف أسى، لكنها أيضاً تطلعك وتنفتح على تجارب إنسانية مختلفة ومتنوّعة، وثقافات، وبشر، وهذا يضيف للإنسان أيضاً، وربّ ضارة نافعة.

* آخر قصيدة يفكّر ياسر عرمان في كتابتها؟

- (صمت طويلاً).. أنا لا أتعمّد كتابة الشعر؛ بأن أفكر في قصيدة، لكن هناك قضايا ذات أثر، أعبّر عنها بطريقتي الخاصّة، ونشرت بعض ما كتبته، وكلّ ذلك يأتي بأن كلّ عقلي وفكري ووجداني وروحي متعلّقة بهذه الأرض والجماعات، وبإنسان وتراب السودان، وأيضا أبعد من السودان، بالبشريّة وهمومها المختلفة، ولذلك ليست لديّ محاولة شعريّة في الوقت الحالي.

* في تقديرك؛ هل يوجد في السودان الشمالي والجنوبي شخص مثل دكتور جونق قرنق؟

- يمكن أن ينجب السودان شخصاً مثل جون قرنق. هو شخص مميّز فهو إنسان مفكّر، ووجدانه عامر بحبّ السودان، وكان يعني ما يقول حينما تحدّث عن وحدة السودان. جون قرنق إنسان معجون من تاريخ السودان، ومعاناته، وتنوّع شعوبه.. إنسان لا يُنسى، وتعويضه صعب، لكن غير مستحيل، وما خلّفه من فكر، ومن آراء مشعّة، ستظلّ على الدوام موجودة. ومشروع جون قرنق لم ينته رُغم ما يحدث الآن في شمال السودان وجنوبه، لكن لا يوجد حلّ للقضيّة الوطنيّة السودانيّة -جنوبا وشمالاً- إلا بقبول مشروع السودان الجديد، مشروع العدالة الاجتماعيّة، ومشروع الاعتراف بالآخرين، وحقّهم في أن يكونوا آخرين. مشروع مزج الصفات بين البشر، وتوحيد السودان على أسس جديدة. بالتالي مشروع جون قرنق لم يغب، وإن غيّب من المسرح، فهو موجود باستمرار.

* في دواخلك شيء مميّز تجاه قرنق؟

- كان من حسن حظي أن عملت معه عن قرب، وأتيحت لي هذه الفرصة العظيمة مع إنسان أتى من ريف بور، من منطقة وانقلي، وأمضينا سنوات جميلة مع قرنق، ونحن دائماً نكنّ له الامتنان على تلك السنوات المضيئة، وعلى السنوات الجميلات التي أمضيناها، في محاولة جريئة لخدمة شعب السودان. نقول له: شكراً على تلك السنوات والأيام، وعلى الفكر والفرح الذي أودعتنا له، وعلى الثقة وكسر الحواجز الكبيرة، وعلى تغيير مفهوم العدو؛ أنّ العدو للجنوبي ليس هو إنسان وسط السودان، وليس هو باللون والملامح؛ المحاولة الكبيرة لتوحيد السودانيين. قرنق شخص قادم، وهو شخص من المستقبل، وأنا متأكّد أنّ الأجيال القادمة ستعود إلى جون قرنق، لأنّه ترك إرثاً مكتوباً، ومشاهد ومصوّراً. لا زلت، وسأظلّ باستمرار، أدافع عن قرنق.

* كأنّك تهيئ نفسك لأن تكون بديلاً للرجل؟

- لا لا.. قرنق شخص خلقته ظروف محدّدة. هو إنسان كبير. أنا لم أدّع، ولا أرى أنّ هناك أيّ شخص لديه مميّزاته وطبيعته. الزعيم قرنق هو الزعيم قرنق، ليس قابلاً للاستنساخ، لكن أنا شخص لديّ محاولات متواضعة في دعم قضايا التغيير، والقضايا التي تجمع السودانيين، والعبور إلى أرض جديدة، تمّ عبورها من قبل. أنت تعلم أن قبر عبيد حاج الأمين في واو، وهو رجل أتى من الخرطوم، وهو الرجل الثاني في حركة (اللواء الأبيض)، التي ضمّت على عبداللطيف، وضمت الميري في جبال النوبة، وأمّه من الدينكا علياب وهذه الفكرة تأسرني دائماً وأتابعها باستمرار؛ أن نصنع منظمة ديمقراطية وتقدمية تضم السودانيين، النساء والرجال، من مختلف الثقافات واللغات، لبناء وطن كبير وشامخ اسمه السودان، لتوحيد أفريقيا، وبناء علاقات بين العالم العربي وأفريقيا، وللمساهمة في الحضارة الإنسانية. بلادنا قديمة، وهي جزء من حضارات وادي النيل، ولذلك ما يحدث الآن من محاولات لبناء مجتمع على أساس ومحددات إثنيّة ودينيّة، لا يتناسب مع مكوّنات شعب السودان.

* رغم الاختلاف إلا أنّ لياسر علاقات شخصيّة جيّدة مع بعض قيادات الوطني؟

- ليس هناك مسألة شخصيّة. أنا أعتقد أنّ الوطني الآن لديه فرصة بعد أن ضاعت فرص كثيرة. حكم السودان لمدة (25) عاما، الآن لحظة للتغيير.. لحظة للتفاهم مع كلّ القوى الوطنيّة لحظة لبناء مشروع سوداني جديد، المشروع الذي تمّ تطبيقه على مدى (25) عامًا خلّف جراحات. المؤتمر الوطني يُمكن ومعظم القوى السياسية ترغب في حلّ سلمي مبني على أساس المواطنة بلا تمييز، والديمقراطيّة، والعدالة الاجتماعيّة، وعلى أساس معالجة جراحات الخلافات التي ألمّت بكلّ القوى السياسيّة.. نتمنى أن لا تضيع هذه الفرصة.

* هل يشعر ياسر عرمان بالندم؟

- لم أشعر بالندم مطلقاً. لماذا أندم؟ نحن حياتنا أخضعناها لمصالح الشعب السوداني، وعملنا دوماً من أجل السودان، ولا نقول إنّنا لم نرتكب أخطاء، لكن لم يكن في يوم من الأيام لدينا هدف غير بناء السودان الشامخ، وبناء سودان لكلّ السودانيين، بلا تمييز وهذه أمّة عظيمة ونبيلة. إن لم نحقّق ذلك نحن، فستحققها الأجيال القادمة، فلا ندم مطلقاً، ولا تراجع عن هذا الطريق، وسنمضي مثلما مضى الآخرون، ونحن سعداء. في هذا الدرب التقينا جون قرنق ويوسف كوّة، داود يحيى بولاد، وهاشم بابلو وأناسا من كل أنحاء السودان؛ أحبّوه وأحسنوا إليه. نحن أعطينا نموذجاً مغايراً، وأنّ الجنوبيّين والشماليّين يمكن أن يجتمعوا في منظمة سياسيّة، وأنّ الناس من كلّ أنحاء السودان -من جبال النوبة والنيل الأزرق وشرق السودان ووسطه والشماليّة وغرب السودان- يمكن أن يكون لديهم مشروع مشترك، هذه مهمّة لا تستحق الندم، بل تستحقّ العمل المستمرّ.

* توقّعاتك لجولة المفاوضات المقبلة بينكم والحكومة؟

- والله لا أستطيع. كل ذلك يعتمد على ما سيأتي به المؤتمر الوطني، لأنّ الطرح والقضايا التي طرحت من أولويّة للسلام، وللحلّ السياسي الشامل، والاقتصاد، والهويّة، هذه القضية إذا كانت لها أرجل وسيقان يمكن أن تحدث تغييراً.

* كيف تصف الجولة التي انتهت؟

- الجولة الفاتت اختبرت مواقف الأطراف، والمسافات بينها، والجولة القادمة ستكون جولة حاسمة.

* وماذا بشأن الرؤية الإطارية التي دفعت بها الآليّة الأفريقية لتقريب وجهات النظر بينكم؟

- لا أستطيع أن أعلّق عليها الآن.

اليوم التالي

 

آراء