مقدمة في تقريظ المركزية الديمقراطية (2-3)

 


 

 

علاقة لينين بالديمقراطية
لم يكل لينين عن التأكيد في برنامجه السياسي أن الأولوية الملحة هي تحقيق الحريات السياسية في روسيا ؛ وكانت المواقف السلبية من تلك المسألة هى ما يحدد أعداءه السياسيين داخل وخارج الحزب . عكست كتاباته ، و بحيوية متفجرة ، امتيازات الحرية السياسية الليبرالية. وعندما تحدث عن الثورة ، كان يتحدث عن الثورة من اجل إسقاط الطغيان وتأسيس الحقوق الأساسية و الحريات السياسية " .
*داخل الحزب ، كان مع حرية الانتخاب كليا ، وكان ضد النقد عندما يكون مدخلا للمسأومة والتراجع عن مشروع الثورة ، يتصدى بحسم لدحضه. لم يكن يحتمل التناقض القائم ضمن مسيرة منظمة طوعية اختارت وكرست
نفسها لمشروع كونى محدد، أن تحتمل أصواتا عالية تصدرها قيادات مؤثرة ، تلقى بالشك على جوانب مهمة أساسية لذات المشروع؟ كان يرى أن الحزب هي منظمة طوعية لا تملك أي قوة قهرية بل هى البدائل التي يطرحه العقل و الفعل السياسي واستجابات الممارسة.
*ينطلق لينين من فكرة أن المجتمع الليبرالي يسمح بوجود المنظمات الطوعية ، ليس فقط لأسباب أيديولوجية، بل بأسباب وجودية ، فحيوية المجتمع ليبيرالي (الصاعد في ذلك الوقت) تعتمد على تقديم رؤى كونية تبدو متسقة تقوم على فكرة المنافسة وبالتعدد في السوق والسياسة. بالطبع لم يكن لينين ليبراليا ، فهو ديمقراطي اِشتراكيّ ماركسي ، يناضل من أجل الحريات الديمقراطية والاختيارات الطوعية. حتى ضمن ظروف العمل تحت الأرض، فأن وجود الاختيار الحر بين البدائل السياسية هو ببساطة حقيقة مؤسسة تمور بالحيوية حتى وإن أحاطها القمع.

سيرة التكتلات في الحزب الروسى :

يكتب صديق : “ فقد كتب لينين في 1906 مؤيدا حق الكتل والتيارات والأجنحة في التواجد في الحزب (...) الخ" . لم يحدد اين كتب ، وما نوع تلك الكتابة ، وماهي الظروف السياسية والحزبية وقت تلك الكتابة، وأين كتبها مقال في الجريدة الحزبية ؟ كتيب؟ ما الذي كتبه لينين بالضبط ، وأين نشر ؟ وهذا نوع من الكتابة التي ترهق ، تشتت القارئ ولا تساعد في إنجاز معرفة بالموضوعة المثارة . ولكن لنرى موقف لينين والحزب الشيوعي فيما يخص التكتلات .
تكون حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي( Russian Social Democratic Labour Party) من عدة أحزاب ومجموعات سياسية واشتراكيين ديمقراطيين ( رابطة العمل اليهودية ، ومجموعة جريدة العمال ، عصبة النضال من أجل تحرير الطبقة العاملة ، جمعية ( أو عصبة) الوحدة - بيلخانوف، ومجموعات من الاشتراكيين الديمقراطيين من عدة مدن ) ، كلها منظمات سياسية قامت برامجها على أسس النظرية الماركسية . فما يسمى التكتلات هي أجزءا كونت الحزب منذ نشأته. كان من شأن تلك النشأة أن تجعل من الاختلاف والصراعات بين تلك المجموعات شيئا متوقعا وموضوعيا ، وهو اختلاف يأتي من التجربة المختلفة السابقة ، الأيديولوجية ، السياسية والتنظيمية بكل نجاحاتها وإخفاقاتها ، وقد تقود لتقارب متنام أو بالعكس تقود إلى انشقاقات ، كما عكست التجربة التاريخية العلاقة بين المنشيفيك والبولشيفيك ، فقد انتجت الانقسام الذي كون حزبي ألمنشفيك والبولشيفيك فى المؤتمر الثاني 1903 . كان موقف ألمنشفيك بقيادة مارتوف قائم على تصور للحزب كحزب ديمقراطي فضفاض يلتف حوله مؤيدين يقبلون توجيهات الحزب، أما موقف والبولشيفيك بقيادة لينين حدد الحزب كحزب منظم بإحكام، ومنضبط بشكل صارم من الأعضاء الملتزمين والمنظمين يمارسون حياة حزبية كأعضاء في احد الفروع الحزبية . وكان ذلك احد مكونات الخلاف ، إلى جانب مواضع اختلاف أخري ؛ مثلا كان المنشيفيك على استعداد للتعامل التحالفي مع الليبراليين. كان موقفهم انه يجب أن تحدث ثورة برجوازية ديمقراطية وفترة رأسمالية قبل ظهور الظروف الملائمة للثورة الاشتراكية. بينما نادى البلاشفة بالثورة والاستيلاء على السلطة.
اللافت للنظر أن المؤتمر الذي منع التكتلات في الحزب الشيوعي الروسي ، جاء تحت اسم مؤتمر الوحدة . منعت التكتلات في الحزب في المؤتمر العاشر المنعقد في 8-16 مارس 1921 ( 9 ايام)في موسكو . وقد سمى بتلك الصفة ، حيث جاء قرار منع التكتلات من اجل صيانة وحدة الحزب . وقد انعقد المؤتمر في ظروف عصيبة ، فقد تمددت فيه نزر اعظم مجاعة عرفتها البشرية ، وهو المؤتمر الذي انفجر أثناء انعقاده تمرد البحارة في كرونشتاد وهو المؤتمر الذي أقرت فيه السياسة الاقتصادية الجديدة.
ضم الحزب البلشفي ثلاث مجموعات متكتلة حين انعقاد المؤتمر العاشر . مجموعة ( أو تكتل) سكرتارية المؤتمر التاسع ، وهى المجموعة التي عينتها اللجنة المركزية المنتخبة في المؤتمر التاسع لتكون سكرتارية اللجنة المركزية . مجموعة أخرى هي مجموعة ( أو تكتل) المعارضة العمالية ، وقد نشأت في 1920 كرد فعل على ما ظنوه نمو البيروقراطية المتعاظم في جهاز الدولة السوفيتية ، ونادوا بتسليم إدارة اقتصاد الدولة للنقابات العمالية، بدلا عن الدور القيادي للحزب في إدارة الاقتصاد. (كان بوخارين ناقدهم الأبرز ، ووصف طرحهم بالسنديكالية والضحالة الفئوية النقابوية ،التي لا تثق بالسوفيتيات ولا الحزب) . المجموعة الثالثة هي تكتل المركزية الديمقراطية ، وهى المجموعة التي برزت في المؤتمر الثامن في مارس 1919. انتقدت قيادة الحزب الشيوعي بسبب ما اعتبرته مركزية مفرطة في قيادة الحزب، وانتقدت السيطرة الصارمة من أعلى داخل القطاعات الصناعية والإدارة المحلية. لقد اعتقدوا أن الجانب الديمقراطي للمركزية الديمقراطية قد تدهور. لم تمتلك المجموعة تأثيرا داخل الحزب ، وقد عانت الاحتضار بعد المؤتمر العاشر .
مالذي نص عليه قرار منع التكتلات ؟ ابتدأ القرار بان الوحدة وفي ظل الظروف الحالية (بالذات تمرد كرونشتاد )، أصبحت أكثر ضرورة من أي وقت مضى. وذكر القرار أن النقد، "رغم أنه ضروري للغاية"، يجب تقديمه على الفور- دون أي تأخير، أي دون مداولات مسبقة داخل أي تكتل ، إلى الهيئات المحلية والمركزية في الحزب، للنظر فيه واتخاذ القرار بشأنه . تضمن القرار كذلك رفض - وبشكل مبدئي-"الانحراف نحو النقابية والفوضوية (الاناركية)” . وفى ذات المؤتمر تم قبول المقترحات الأساسية التي قدمها تكتل المركزية الديمقراطية بصدد عدد من الموضوعات . وقرر المؤتمر حل جميع الفصائل( التكتلات).
لم يترتب على قرار حل التكتلات نتائج سلبية كحرمان أعضاء التكتلات من عضوية الحزب ، وفى الحقيقة رشح ذلك المؤتمر بعض قيادات التكتلات ( بعد حلها) في عضوية اللجنة المركزية . وإثارة موضوع منع التكتلات في المؤتمر العاشر يأتى في طرح صديق كممارسة ديكتاتورية انتجتها ممارسة المركزية الديمقراطية ، بينما الحقائق التاريخية مغايرة تماما. لم يكن لينين منظرا ضد التكتلات ، وهو المنظر الصلد ، بل كان حل التكتلات قرار اتخذه المؤتمر ، في فهم واستجابة للظروف الماثلة حينها. ما يشيئ به صديق أن حل التكتلات كان ممارسة ديكتاتورية وراءها لينين يقفز فوق التاريخ الملموس و المسجل في الأرشيف ، ويقفز بالتالي فوق الحقيقة .
وبالرغم من ذلك سيكون من المفيد إيراد فكرة لينين عن التكتلات ففي في كتابه فى "وحدة الحزب"( On Party Unity) ، جادل لينين بأن المركزية الديمقراطية تمنع التكتلات. وقال إنها تؤدي إلى علاقات أقل ودية بين الرفاق ويمكن استغلالها من قبل أعداء الحزب. كتب لينين عن المركزية الديمقراطية أنها «تتضمن الحرية الشاملة والكاملة للانتقاد، طالما أن هذا لا يخل بوحدة إنجاز عمل محدد؛ إنه يستبعد كل الانتقادات التي تعطل أو تجعل من الصعب وحدة العمل الذي يقرره الحزب.”

وبعد أن يقرر صديق أن المركزية الديمقراطية اختراعا لينينيا ويوصى بفهمها على هذه الأساس ، يقول صديق " اعتقد ان المركزية الديمقراطية تلعب دورا أساسيا في حماية الأحزاب اليسارية في ظل الأنظمة الدكتاتورية وطغيان مناهج وأساليب العمل السري وضرورة الحفاظ على الأحزاب من الاختراق. وتلعب دورا في إعداد ورسم الاستراتيجية والتكتيك الملائم لمواجهة مهام المرحلة كما يساعد على وحدة الفكر والإرادة وجماعية التنفيذ.” لاحظ كلمة اعتقد هذه ، لقد رمتنى بالحيرة وذهبت ، صديق يعبر عن قناعته بالخير العميم الذي توفره المركزية الديمقراطية للأحزاب اليسارية ، ومع ذلك يوصى بتركها، لان الزمن قد تجاوزها!! هذه طريقة في الكتابة " تديك العجب" ، وثم يقول بعد ذلك:وفى رأيي إن اهم نواقص المركزية الديمقراطية هي طغيان المركزية.” (...) ويتجلى ذلك القصور في تحكم المركز في صياغة السياسات والبرامج الحزبية خلال كافة مراحلها.“!!فما الذي تنتجه المركزية الديمقراطية ؟ هل تلعب دورا أساسيا في حماية الأحزاب اليسارية ؟ أم هي ناقصة تتميز بطغيان المركزية.!!
استمرار الإمساك الزلق بالمركزية الديمقراطية
ويكتب صديق في الحلقة الثانية من مقاله، انه قد تم تضمين المركزية الديمقراطية في الدستور السوفيتي و بالتحديد في المادة الثالثة من الدستور . ولم يحدد صديق أي دستور . فقد مرت تجربة الاتحاد السوفيتي بثلاثة دساتير . الأول في 31 يناير 1924 أي بعد وفاة لينين بعشرة أيام، والثاني في 5 ديسمبر 1936 وسمى بدستور ستالين، والاثنين لم يتضمنا المركزية الديمقراطية في أي من موادهما . ثم الدستور الثالث (بريزنيف) الذي أورد صديق مادته الثالثة (بالانجليزية) والذي أجيز في 1977 . أي أن المركزية الديمقراطية ضمنت في الدستور بعد مرور ما يقارب الستين عاما بعد نجاح ثورة أكتوبر العظمى .
و يضرب صديق مثالا لسوء الأمور بعد تضمين المركزية الديمقراطية في الدستور ( ولا يحدد أي دستور) ؛ يكتب "كمثال صارت الخطة العامة الشاملة والتفصيلية تقرر في المركز وتتنزل الي المستويات الأقل في شكل برامج وسياسات محددة، (...) حتى تصل إلي أصغر وحدة إنتاجية في شكل واجبات محددة وجدول زمني معلن وما عليها سوي الانصياع والتنفيذ.” وهكذا تظهر المنظومة المتسلطة التي انتجها تضمين مبدأ المركزية الديمقراطية في الدستور ! ( يا دوبك في 1977 !؟) . وهذه قراءة للتاريخ إنتقائية تأخذ منه ما يناسبها ( تترك الباقي)و تنتج سوء الفهم في احسن الأحوال ، تزوره في أسوئها .
ويواصل صديق : “ وبتطبيق هذا القرار وفى ظل دولة الحزب الواحد تقلصت فرص ممارسة الديمقراطية والحوار وأصبحت القرارات تأتى من القيادة. وهكذا وجد ستالين الأرض ممهدة لينفذ كل سياساته تجاه المخالفين له داخل وخارج الحزب وكذلك سياساته الاقتصادية والاجتماعية.” . والقرار المقصود هو قرار تضمين المركزية الديمقراطية في الدستور الذي أجيز فى 1977 ، ورغم لا معقولية ربط القرار بتضمين المركزية الديمقراطية في الدستور السوفيتي ، إلا أن سياق الكتابة في نص صديق ، يجعل منها القراءة الوحيدة المتاحة . والحقيقة لم يجد ستالين الأرض ممهدة بسبب تضمين المركزية الديمقراطية في دستور البلاد في سنة 1977 ، لتنفيذ كل سياساته ، لسبب بسيط جدا ، ففي ذلك الوقت كان ستالين ميتا يتوسد الجابرة !
التجربة الاستالينية
إنها أيضا الفكرة السائدة يروجها الأعداء الطبقيين من كل شاكلة ونوع ، وهى فكرة أن لينين هو التمهيد المنطقي لستالين ، أو إن الاستالينية تساوي اللينينية . يذكر صديق الجرائم التي لا تغتفر لستالين يقول الممارسة الحزبية والممارسة في الدولة السوفيتية مهدتا الطريق للاستالينية ، ويقول : “ ولكن ستالين نفسه هو التعبير المتطرف لممارسة المركزية الديمقراطية" ، وهكذا بالرغم من أن دستوره في 1936 لم ينص على المركزية الديمقراطية ، إلا أن ستالين مثل التعبير المتطرف لها ، أما دستور برزنيف 1977 والذى نص عليها لم يكن سببا لارتكاب تلك الجرائم التي لا تغتفر ! وهذا مثال لغرابة المنطق : غابت المركزية الديمقراطية عن دستور ستالين ، فارتكب الجرائم العظمى ، وحضرت المركزية الديمقراطية في دستور بريزنيف وغابت الجرائم الكبرى ، فبالمنطق – حتى ولو كان صوريا – ألا يعتبر هذا حكما بالبراءة ومجدا يحسب لصالح المركزية الديمقراطية ؟ المهم ؛ وحقيقة الأمر – وتلك حقيقة أخري لا يلتفت لها صديق - أن دستور ستالين في نصه لم يكن سيئا ، فقد حوى بشكل تفصيلي على فيض من الحريات الديمقراطية والحقوق الأساسية ، لدرجة أن كثيرا من النقاد ذكر أفضليته مقارنة بدساتير الدول في غرب أوروبا . وفى الجانب الأخر المتشكك ، لم يصدق كثيرا من نقاده دعاويه أو بنوده، واعتبروه نوعا من البروباجندا. لا علاقة لجرائم ستالين بالمركزية الديمقراطية ، كما لا علاقة بغياب تلك الجرائم في عهد لينين بها ، ولا حضورها (أي الجرائم الفظة) في العهود بعد الاستالينية بالمركزية الديمقراطية . و نذكر من النقاد الذين لم يصدقوه اسحق دويتشر الذي ذكر : انه حجاب من من الافتراضات و العبارات الليبرالية البراقة تغطى مقصلة . ولاحظت حنا اردنت أن الدستور مطروح كإعلان لنهاية الفترة الثورية ، ولكن بعده مباشرة تبعته الفترة التي شهدت اكبر تطهير في التاريخ .
لم تكن المركزية الديمقراطية أساسا للجريمة الفظة للاستالينية ، و لا للفقر الأخلاقي الكبير لبنية القوة الاستالينية ، ولا للقطع العميق مع كل دوافع الثورة البلشفية والمثل الماركسية البلقاء في مشروع التحرر الإنساني . وصديق يتعامل مع الاستالينية كحكم فرد ، ولكنها كانت نظام للقوة الاجتماعية بدا في التكون بعد وفاة لينين وتبلور فى الثلاثينات ، ولعب دستور 1936 وظيفته كغطاء يحاول إخفاء نظام جديد تميز بالتحكم المنظم التراتبي القهري لكل مناحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية و السياسية و الثقافية . نظام تتحكم فيه أوليجارشية قميئة تجلس على قمة جهاز الدولة/الحزب . وتلك الجرائم الفظة التي ارتكبتها الاستالينية (أي بنية القوة المشيدة والمستبدة) هي جرائم ارتكبت ضد المقاومة الثورية الباسلة و المستمرة بذلها الشيوعيون ضد بنية القوة المتكونة ، وهم مجموعة من قادة والبولشيفيك، صارعت ضد تحطيم قواعد الصراع الداخلي وحق الاختلاف ( أي تقاليد المركزية الديمقراطية) التي قادها ستالين والمتحالفين معه ( مثل بوخارين وكامينيف) ، وهم الذين انتهوا جميعا في غياهب الموت في معسكرات الغولاغ، بمن فيهم من ساعدوا أو اشتركوا في تشييد بنيته المجرمة.
يحدد التاريخ بدء الإعلان والممارسة السافرة لبنية القمع الدكتاتورية في اللحظة التي قتل فيها سيرجى كيروف. كان لكيروف سيرة نضالية كبيرة في مسيرة الحزب التاريخية ، وكان من ابرز خلصاء ستالين . في المؤتمر ال 17 في 1934 قدم خطابا زاعقا بمجد ستالين ونسب له كل الانتصارات التي حققها الحزب والدولة ، وتعرض بالسخرية اللاذعة لخصوم ستالين، وذكر في مجرى السخرية تومينسكى ، بخارين وكامينف والذين صاروا من مجموعة 16 قيادى لفقت لهم تهما باغتياله (أي كيروف) عقب انتهاء المؤتمر ، تم إعدامهم في محاكمات صورية اشتهرت باسم محاكمات موسكو . وللمفارقة الكبيرة فقد قامت مجموعة من قدامى ألبلشفيك بتشجيع كيروف على تقديم نفسه كمرشح لمنصب السكرتير العام ضد ستالين، اعتذر لهم ، ولكنه نقل محتوى حواره معهم إلى ستالين، وقد نالهم الردى فى التطهير العظيم، كلهم وعن بكرة أبيهم.
كان اغتيال كيروف - في ظروف لم يكشف غموضها الى الآن - مناسبة لكشف الستار عن بنية قوة اجتماعية قائمة على القهر والتسلط وعبادة الشخصية ( صور البروباجندا الفخمة لستالين باعتباره برجا شاهقًا وعبقريًا عالميًا في كل مجال بشري ) اكتملت بلورتها في الثلاثينيات. ابتدأت بمحاكمات موسكو ، وأطلقت عقار حملة التطهير العظيم ، وهى الحملة التي عززت سلطة أوليجارشية مجرمة غليظة القلب يقودها ستالين، سيطرت على الحزب والدولة، عن طريق إزالة وإعدام المخالفين . تم تصميم عمليات التطهير لإزالة نفوذ تروتسكي و المنافسين السياسيين البارزين الآخرين داخل الحزب ( في اليمين واليسار) و قدامى البلشفيين. حدثت في الفترة من أغسطس 1936 إلى مارس 1938. ويذكر تقرير خروتشوف في المؤتمر العشرين حقائق صادمة ، "فمن بين 139 عضوًا ومرشحًا للجنة المركزية الذين تم انتخابهم في المؤتمر السابع عشر، تم اعتقال 98 شخصًا، أي 70 بالمائة، وإطلاق النار عليهم (معظمهم في 1937-1938). بالإضافة إلى ذلك، إنه من بين 1966 مندوبًا [إلى المؤتمر السابع عشر] يتمتعون إما بحقوق التصويت أو المراقبة، تم القبض على 1108 أشخاص بتهمة ارتكاب جرائم مناهضة للثورة، أي أكثر من الأغلبية بالتأكيد”.المصدر

لم تكن المركزية الديمقراطية سببا لكل ذلك القبح المجرم الزنيم ، بل مجموعة سياسات سدنتها بنية أيديولوجيا شملت نظرية ستالين لبناء الاشتراكية في بلد واحد ، الخطة الاقتصادية لتسريع التصنيع ، التجميع الزراعي و بناء روسيا القومية القوية التي استهدفتها الخطة الخمسية الأولي الكارثية ، دار حولها صراع داخلي وتحالفات متعددة ، نجح ستالين ومجموعته في تحطيم المجموعات الأخري ، وقتل وسجن جميع أعضائها . لم يكن ستالين التعبير المتطرف لممارسة المركزية الديمقراطية، بل كان نقيضها الذي حطمها وقتل كل من حاول الاستناد عليها في مقاومة توجهاته الطغيانية .

يذكر صديق أيضا " حدد المؤتمر السابع عشر (...)، المركزية الديمقراطية في أربعة بنود/قواعد هي: انتخاب كل قيادات الحزب، القيادات المنتخبة عرضة للمحاسبة أمام منتخبيها دوريا، نظام حزبي حديدي وصارم حيث تخضع الأقلية للأغلبية وقرارات الهيئات العليا ملزمة إطلاقا على الهيئات الدنيا ومجمل عضوية الحزب. وأدت هذه القواعد في ظل حملات التطهير والإعدامات والسجون الي تحول المركزية الديمقراطية إلى ما سمى بالمركزية البيروقراطية " . والحقيقة التاريخية -كما ذكر من قبل - تم تحديد المركزية الديمقراطية في المؤتمر الثالث وليس المؤتمر السابع عشر ( فقد قام في 1934)؛ وذكر تلك البنود/القواعد وبشكل متطابق. أي أن هذه البنود كانت موجودة بنصها في دستور الحزب سابقا، كانت فيها مركزية ديمقراطية ، تحولت فجأة إلى مركزية بيروقراطية بعد المؤتمر السابع عشر في 1934 ، و أدت إلى حملات التطهير والسجون والإعدامات . فإذا كان وجودها كنص في دستور الحزب – وهو ذلك الوجود القديم ، والذي لا يذكره صديق- يبقى السؤال لماذا لم تقد إلى تلك النتائج المجرمة منذ حضورها في المؤتمر الثالث؟ وهى إجابة على سؤال متوقع وينطرح بشكل موضوعي ، لا يتكرم صديق بإجابة عليه ، ويكتفى بالوصف أن المركزية الديمقراطية هي جنكيز خان الرهيب !
الاختيارات المنقاة أو المختارة بشكل عشوائي هي طريقة انتباه صديق لمجرى ونتائج المؤتمر السابع عشرة بما يخدم موقفه السلبي من المركزية الديمقراطية ، فما الذي جرى فعلا في المؤتمر مما يصلح لتفسير المآلات بأفضل مما يفعله سوء المركزية الديمقراطية المفترض ؟ كان نصيب ستالين من التصويت السلبي (negative vote) اكثر من مئة صوت ( والتصويت السلبي هو تصويت تستخدم فرصته في التصويت ضد مرشح محدد) ، بينما تلقى كيروف تلاثة فقط. تمت التغطية على هذه النتيجة ، واظهر التقرير الرسمي النهائي تلقى ستالين لثلاثة أصوات سلبية .
ومن القرارات المهمة للمؤتمر حل مفوضية العمال والمزارعين الشعبية للتفتيش ، وهى جهاز حكومي يتلقى التقارير والشكاوى عن أداء الإدارات الحكومية ، يهدف إلى التخلص من البيرقراطية الموروثة ومكافحة الفساد ، إلى جانب تدريب العاملين وتطوير الإدارة .تحولت المفوضية في زمن ستالين إلى نوع من جهاز بوليسي امني يرصد أداء وحركة من اختلف من عضوية الحزب مع ستالين، تم رصدهم وتقديمهم إلى محاكمات عاجلة صورية . حل هذا المؤتمر تلك المفوضية الكريهة ، وهى من إنجازات المؤتمر المهمة التي لم ترض ستالين. لم ترض إنجازات ذلك للمؤتمر صديق ، فلم يذكرها ، فهو مهتم فقط باستحضار السوء الذي أحاق بالمركزية الديمقراطية ، استحضارا لا يلتزم بتاريخية الوقائع .

isamabd.halim@gmail.com

 

آراء