في ذكرى المئوية الثانية لزيارة بوركهارت للسودان
Khaldoon90@hotmail.com
جون لويس بوركهارت الذي يُعرف اسمه في الإنجليزية ب John Lewis Burckhardt وفي الفرنسية ب Jean Louis Burckhardt و في لغة قومه ب Johann Ludwig Burckhardt ، رحالة ومؤرخ وجغرافي ومستشرق ومؤلف سويسري الجنسية ، ولد بمدينة لوزان السويسرية بتاريخ 24 نوفمبر 1784 م ، وتُوفي ودفن بالقاهرة في يوم 15 أكتوبر 1817م.
درس بوركهارت بجامعتي لايبزيج Leipzig وجوتنجن Gottingen ، ثم ارتحل بعد ذلك إلى إنجلترا في عام 1806 على إثر احتلال جيوش نابليون لبلاده ، خصوصاً وأن والدة بوركهارت نفسها كانت إنجليزية الجنسية كما تقول سيرته الذاتية. وفي لندن ، انضم بوركهارت إلى عضوية الجمعية الملكية البريطانية للكشوفات الجغرافية في إفريقيا ، وسرعان ما وافقت تلك الجمعية في عام 1809م ، على عرض تقدم به بوركهارت لقيادة حملة لاستكشاف منابع نهر النيجر. وبعد موافقة الجمعية الإفريقية على ذلك العرض ، قرر بوركهارت السفر إلى بلاد الشام لكي يتعلم اللغة العربية ، اعتقاداً منه بأن سياحته في مجاهل إفريقيا سوف تغدو ميسورة إذا ما تخفّى في هيئة رجل مسلم يتكلم شيئاً من العربية. وتمهيداً لتك الخطوة ، درس بوركهارت اللغة العربية لفترة قصيرة في جامعة كمبريدج ، ثم قام بتدريب نفسه وترويضها على حياة الشظف والخشونة والشدة ، استعداداً لما كان يتوقعه من شدائد وأهوال ، وخصوصاً من حيث الطقس والمناخ وشظف العيش في صحارى إفريقيا وبلاد العرب. فطفق يجوب الريف الإنجليزي سيراً على قدميه في وقت الحر الشديد ، مكتفياً بتناول الخضروات وشرب الماء فقط ، إلى جانب النوم على الأرض من غير فراش.
وفي سوريا تعلم بوركهارت اللغة العربية ، وحفظ شيئاً من القرءان الكريم ، كما اتخذ لنفسه اسماً وهوية إسلامية هي: " الحاج إبراهيم بن عبد الله الألباني ". ومما يُنسب إلى بوركهارت من مآثر في بلاد الشام ، اكتشافه لآثار مدينة " البتراء " القديمة الموجودة حالياً بالمملكة الأردينة الهاشمية ، كأول شخص أوروبي يصل إليها ويشاهدها في العصر الحديث.
وصل بوركهارت إلى القاهرة في عام 1812م ، واتصل بمحمد علي باشا والي مصر آنئذ ، وقد كان يتحين الفرصة للسفر مع القوافل المتجهة إلى فزّان بجنوب ليبيا ، لكي يواصل منها رحلته إلى نهر النيجر الذي سبق أن اقترح أن يقوم باكتشاف منابعه لمصلحة الجمعية الملكية الإفريقية ببريطانيا كما أسلفنا ، ولكنه سرعان ما عدل عن رأيه ذاك – ربما بتأثير وتشجيع من محمد علي باشا نفسه – فصحب قافلة سنارية أوصلته إلى أرض السودان ابتداءاً من وادي حلفا شمالاً ، إلى شندي جنوباً ، ثم اجتاز صحراء العتمور شرقاً إلى سواكن التي أبحر منها إلى جدة ثم الأراضي المقدسة في مكة والمدينة ، لكي يبدأ سياحته في الجزيرة العربية التي تزامنت مع فترة سيادة الدولة السعودية الأولى.
تمت زيارة جون لويس بوركهارت للسودان للسودان بين عامي 1813 و1814م ، وقد أصدر عنها كتاباً بعنوان: Travels in Nubia أي: " أسفار في بلاد النوبة " ، نُشر في لندن في عام 1819 عن دار J. Murray ، وقام بترجمته إلى اللغة العربية الأستاذ " فؤاد اندرواس "، حيث صدرت الترجمة في عام 2007م ، عن المجلس الأعلى للثقافة في مصر.
لقد انقضى قرنان كاملان بالضبط من الزمان منذ ان زار ذلك المغامر السويسري الشاب الفطن والجسور أجزاء واسعة من بلادنا ، وخلّف عنها سفراً قيّماً ، يُعدُّ بحق مرجعاً بل مصدراً موثوقاً لجوانب مهمة من تاريخ السودان السياسي والاجتماعي والثقافي في تلك الحقبة ، فعسى أن ينتبه الناس ، وخصوصاً في الدوائر والمؤسسات الأكاديمية والبحثية والثقافية ذات الصلة بهذه الذكرى المئوية الثانية لزيارة هذا الرحالة والمستكشف إلى السودان ، وتمنيت لو أن ندوة عالمية بمشاركة علماء وباحثين من السودان ومصر والسعودية وسوريا والأردن وسويسرا وبريطانيا ، قد انعقدت لإلقاء المزيد من الأضواء على شخصية هذا الرجل ، وتركته الفكرية والمعرفية الذاخرة.
أما فيما يتعلق بكتابه الموسوم ب " أسفار في بلاد النوبة " الذي سلفت الإشارة إليه ، فنعتقد أن فيه بينة ضمنية تشي بترجيح ما ذهبنا إليه من وجود شبهة تأثير أو تشجيع على نحو ما من قبل محمد علي باشا لهذا الرجل لكي يقوم بجولته تلك في أرض السودان ، بعد أن كان قد عقد العزم على السفر إلى بلاد السودان الأوسط بهدف اكتشاف منابع نهر النيجر ، بل كان ذاك في الواقع ، هو المشروع الذي ندب إليه نفسه ابتداءا. فهل كانت رحلة بوركهارت إلى ديار السلطنة السنارية بالسودان في ذلك التاريخ – على الأقل في جزء منها – عملاً استخبارياً لصالح محمد علي باشا التي غزتها قواته بقيادة ابنه إسماعيل باشا في عام 1820م ، أي بعد مرور ستة أعوام فقط من تاريخ زيارة بوركهارت للسودان ؟. ذلك بأن مما استوقفنا مليّاً في كتاب بوركهارت عن السودان ، هو أنه قد ركّز بإلحاح على فكرة خوف السودانيين من السلاح الناري الذي لم يكونوا على معرفة كثيرة به وقتئذٍ ، وعدم قدرتهم على مواجهته على حد زعمه. حيث ذكر بعبارت واضحة أن فرقة صغيرة مسلحة تسليحاً نارياً جيداً ، بوسعها أن تفرض سيطرتها الكاملة على هذه البلاد في زمن وجيز. ولا بد ان تلك قد كانت رسالة موجهة إلى السلطة الخديوية في مصر ، ومن ورائها سائر القوى الإمبريالية المتربصة بسلطنة الفونج التي كانت تترنح بدورها ، وتتداعى على نفسها من جراء العديد من المشاكل والخلافات الداخلية التي كانت تمور بداخلها آنئذٍ.
لقد نشر الدكتور " كمال عبيد " ، المدير الحالي لجامعة إفريقيا العالمية ، قبل بضعة أعوام ، مقالاً يسير في ذات الاتجاه في الواقع ، جاء بعنوان: " هل كان كتاب تشحيذ الأذهان لمحمد بن عمر التونسي تقريراً استخباريا ؟ ". والمعروف أن زيارة التونسي لدار فور التي تمت في عام 1803 م ، قد سبقت زيارة بوركهارت لشمال وشرق السودان بنحو عقد واحد فقط من الزمان ، كما أن من المعروف أيضاً ، هو أن التونسي قد ألف كتابه المومى إليه بتشجيع من المسيو " بيرون " أحد قواد حملة نابليون الفرنسية لاحتلال مصر. فكأنّ هذين الكتابين يصدران عن سياق سياسي واستراتيجي واحد أو متشابه على أقل تقدير.
على أن كتاب بوركهارت عن السودان يشتمل على معلومات في غاية الأهمية بالنسبة لتاريخ بلادنا في تلك الحقبة. فمن ذلك مثلاً تأكيده ، تأكيده في عام 1813م ، على وجود قرية او بلدة بالقرب من جبل البركل في دار الشايقية ، يسميها أهلها " مروي ". وهذا التأكيد لسيرورة هذا الاسم منذ ذلك التاريخ ، يدحض بكل تأكيد ما يذهب إليه البعض من أن اسم " مروي " المطابق لاسم المملكة السودانية القديمة ، التي ازدهرت ما بين القرن السادس قبل الميلاد ومنتصف القرن الرابع الميلادي ، وكذلك عاصمتها ، قد اختفى عن الوجود والاستعمال في السودان بالكلية ، كما يدحض زعم من يزعمون أن " مروي الشايقية " هو اسم أطلقه عليها بعض الرحالة الأوروبيين ، ظناً منهم بأنها مروي البجرواية المذكورة في مؤلفات الكتاب الكلاسيكيين مثل: هيردوتس وبليني واسترابو وغيرهم ، وذلك لما شاهدوا آثارها وأهراماتها أولاً ، وهم قادمين من مصر باتجاه الجنوب.
ومهما يكن من أمر ، فإننا نود أن ندعو في الختام بالرحمة والمغفرة لجون لويس بوركهارت ، أو الحاج إبراهيم بن عبد الله الألباني ، الذي يُقال إنه مات ، وصُليّ عليه ، ودُفنَ مسلماً في القاهرة في عام 1817م ، والله وحده أعلم أيُ ذلك كان.