عبدالحي الربيع .. في ذكري السمندل الذي غاب في أحداق تلودي

 


 

 




ولأن غيابك كان حفر علي وشم السهم الذي مضي متكسرا نصاله علي نصال الفجيعة والجراحات الغائرة ، فها قد أقتربت هواطل العيد ومزامير الإحتفال، وتذكرت أعيادا كثيرة قضيناها معا، وأنت تسافر عبر غربة الروح الي آفاق بعيدة، كأنك كنت تري بعين الخيال مقعدك بين الأخيار.
كانت تنتابني أطياف الذكري وهاجسات الرحيل، حتي رأيتك في فلق الصبح وأنت ترفل في ثياب الرضى وأبتسامتك الناصعة كأنها قنديل يضيئ من زيت العرفان، كنت تقف علي حافة الغياب حيث لم يعد الزمان هو الزمان ولم يكن المكان شيئ ألفته في دروس الجغرافيا أو صور الحاضر أو أرشيف التاريخ، بل هو شيئ من أطياف حلم كأنه ثريات معلقة علي حافة العرش.
أتيت من نيالا البحير والسودان يتنفس صبح التغيير حيث كانت الشعارات طازجة والأحلام غضة وعنفوان الحاضر يرسم ملامح الأمل القادم في واسطة عقد الثمانين..كنت تخب الخطى تحمل بين جنبيك قلب عامر باليقين يحفك غدق من هفهفة الشباب، كيف لا وأنت سليل دوحة آل الربيع الذين عطروا حواضر دارفور بمقامات الإمامة الندية في المساجد وتعليم القرآن. كان الناس يتهامسون عن فتي القرآن الذي يطرز أجنة الليل ببريق الخيال وسجيع النثر وفتوحات القصائد العصماء والقوافي الحلال.
لم أكن أدرك كنه ذلك الحزن العميق وبريق الذكاء الخفي وأنا أحدق في عينيك وأنت تترجل من الطائر الميمون في مطار الخرطوم تحتقب الأماني العراض والخوف من المجهول. كان حظك من حطام الدنيا حقيبة صغيرة ومصحف وأرتال من الهدايا تحمل عبق دارفور وتقاليدها الراسخة. أتذكر وأنا أدلف معك الي مبني الإذاعة لأول مرة واتأمل التصميم علي النجاح وأفتراع رحلة الصداقة الممتدة مع أثير الإذاعة السودانية، كان الإستقبال حارا وأنت تتحدث عن تجربتك في إذاعة نيالا الإقليمية. أكثر ما شدني ذلك الإستقبال الحميم وكلمات التشجيع من كبير المخرجين حينها ومدير الإذاعة الراهن الأستاذ معتصم فضل، وكذلك الرعاية المهنية من الأستاذ محمد الكبير الكتبي. وأنخرطت في سرعة شديدة تتجاوز أختبارات الصوت والتدريب في تحرير وصياغة الأخبار حتي صار خطك الكوفي الجميل كأنه لوحة ناطقة في أصوات القارئين. كنت تحمل جهاز الناقرا وأنت تتنقل كالفراشة في دواويين الحكومة تلتقط التصريحات والتقارير عن الأحداث اليومية. وحين أطل صوتك عبر الأثير لأول مرة هامسا هنا أم درمان أقمنا أحتفالا صغيرا زينته الباسطة وأفوال أم درمان وتموجات من زيت السمسم الصقيل. كنت تحمل في قلبك ثلثي القرآن حفظا صميما حتي أتيت الي جامعة القرآن الكريم حيث أناخ الركب رواحله فنهلت من رحيق العلوم  واللغات وأتممت حفظ القرآن. وكان نشاطك جما حينها في قسم الرياضة برعاية الهرم الكبير الراحل علي الحسن مالك.
رغم صوتك الجهير الذي كان يسري عبر أثير الإذاعة هنا أم درمان إلا أنك في حياتك الخاصة كنت خفيض الصوت كثير الحياء والتعفف كأنك عذراء في هودج الرحيل، ولم تكن صخابا في الأسواق، ولا لعانا بظهر الغيب ولا طعانا في شرف الغوافل، وكنت تهرب من فاحش القول وبذيء الكلام إذا صك أذنيك بفعل ناقل، لذا كان لك الحلم دثارا والعقل زينة في ايام المسغبة والملمات الجسام. وحملتك الأقدار الي دنقلا تخاطب أهلها عبر الأثير بلسان عربي مبين فخرجت منها بصداقات وصلات أزدادت توهجا مع مرور الأيام. وأحبك الأهل في طابت وأنت تزورهم في الأعياد والمناسبات فيتسابق عليك الصغار قبل الكبار لدماثة خلقك وطيب معشرك، واستميحك عذرا لأروي شهادة بالغة الدلالة إذ أهل شهر رمضان الفضيل في مفتتح عقد التسعين فحزمت حقيبة الرحيل متوجها الي خلاوي ود الفادني وأنت لا تحمل زادا أو مالا وقلت أريد أن أقبل علي مائدة القرآن وأنا أشعث أغبر لا أحمل زادأ قل أو كثر، ولا أتجليوسادة للمرقد، وكنت تستحي عندما يميزك الشيخ وتصر أن تكون مع الفقراء مطعما ومشربا ومرقدا. وظللت مرفوع الهامة والرأس لأنك لا تطلب الدنيا ولا تسعي الي مغانمها.
أختطفتك الغربة الي أرض الحرمين الشريفين فزرعت في مدينة جدة حيوية جديدة ونشاطا جما في حقل الإعلام عشقك الأول ولكن روحك التواقة الي المجد زجرتك عن اللهث وراء رنين الدنانير، فعدت الي عشك سالما لتطل من جديد عبر تلفزيون السودان القومي. كان قدرك أن تذرع أرض السودان الفسيحة وفضاءاته الممتدة متنقلا وجائلا بين حواضره وأريافه لتنقل الأحداث والفعاليات والتغطيات، وكنت أدهش وأنا أستمع الي تقاريرك متنقلا بين عدة مدن مختلفة خلال فترة وجيزة فأستغرب لهذه الطاقة الخلاقة في تضاعيف هذا الجسد النحيل.كانت تقاريرك تحظي بمشاهدة عالية خاصة في أوقات التحولات الهامة والأحداث الجسام وكان أسلوبك المميز في الصياغة وقراءة النص وأنت تعطي الحروف حقها ومستحقها من التحقيق والإظهار المبين مصدر أعجاب كثير من المشاهدين، بيد أن هناك قلة كان لا يعجبها الإتقان في العمل والإحسان في ترقيش مخرجاته.
كان عبدالحي لا يطيب له مقام في مكان واحد مشدودا الي وتيرة الإنجاز والعمل ، فضاعف ذلك من الإعتماد عليه من قبل إدارة التلفزيون التي كانت لا تستبطيء مقامه بل كانت تعجل بإبتعاثه الي مدن السودان المختلفة وكان لا يرد لهم طلب أو رجاء. ولعل روحه المسماحة وفرت لبعض القائمين علي الأمر مسحة من شبهات الإستغلال فظل معلقا بين سماوات السودان الفسيحة ينقل للتلفزيون وقائع الأحداث وزيارات المسئولين لا يهمه التوقيت عيدا أو صياما أو نحرا. كان يهب عمله كل طاقته من الصبر والإحتمال فغدا مثل فرس أبي الطيب المتنبئ يضر بجسمه طول الجمام. كانت الجملة الثابته هي عبدالحي الربيع..تلفزيون السودان. أما المكان فهو الكلمة المتغيرة في حديثه فتارة من بورتسودان، وبارا وملكال وتارة من حلفا والجنينة وهلمجرا. كان مهرابا من سؤال الإقتران وعش الزوجية كأنه يدرك أقداره الغلابة مسرعا في صراط العبور الي الخلد المطلق. كانت العفة والسماحة دثارا وشالا وعنوانا لشخصيته في أيام الرخاء والمسغبة وكان كريما مغداقا علي أهله وأصدقائه. كان يعتبر علي شمو وعوض إبراهيم عوض هما المثال الذي يجب أن يتطلع اليه الجميع لبلوغ قمته في العمل الإذاعي والتلفزيوني.
صعدت روح عبدالحي الربيع الي السماء والرفيق الأعلي كما كان يحب شهيدا في أداء الواجب وهو يسعي لبث فرحة العيد الي أهل تلودي مع ثلة من الأخيار. وترك سيرة عملية باذخة وتراثا إنسانيا رائعا ونموذجا سائغا في نكران الذات والسعي بالخير بين الناس. سيأتي الي الله يوم القيامة كما قال الطيب صالح علي لسان محميد يحمل الصداقة والمحبة في ميزان العرش.
لقد مضي الي ربه كما جاء الي الدنيا خميصا حزينا لم يشبع من ريها و طعامها لأنه كان يستنكف البطر،و يعاف مغانمها وذهب شاخص البصر الي ربه شاهد بالوحدانية وشهيد للواجب.ولا نزكي علي الله أحدا.
شذرات هذه السيرة تستحق أن تخلد أسمه في أحدي مكتبات أو قاعات الإذاعة أو التلفزيون تخليدا لذكري شهيد الواجب ولا أظن أن صديقه ومن خبر عمله الأستاذ عبدالماجد هارون وكيل وزارة الإعلام الراهن يبخل علي هذه السيرة برمزية التخليد الذي تستحقه.

kha_daf@yahoo.com
/////////

 

آراء