أبو العروس “مؤتمر وطني” !
عبد الله الشقليني
14 August, 2014
14 August, 2014
الليل غيرَ الليل في العاصمة المهجورة ليلاً . هجرها الأمن الشخصي ، وسكنتها أشباح الظلام ، من المرتادين بأجر مدفوع . إن تحركتَ في سيارة حديثة التصنيع نسبياً و لا تُعرضك لأعطال طارئة ، فأنت عائد من موت مُحقق إلى دُنياك من جديد .
تقاطر الجميع إلى الصالة الفخمة المؤجرة . الزينة على أعلى المستويات التي أخبروني عنها مقارنة بغيرها. علمت أن إذناً بحفل الزواج وتوابعه من الفلكلور الخاص بتجهيز العروسين سوف يتم في ذات الصالة ولمدة تطول عن المُعتاد . سيارات من الفئات الخاصة المميّزة ، وبعضها بأرقام مدنية و حكومية ،وأخرى بدون أرقام ؛ لا تعرف أسرارها إلا البيوت المظلمة التي تحمي النظام وأهله والمنتسبين .
(1)
كل الوجوه التلفزيونية الكئيبة ،الرمادية الظلال كانت موجودة داخل الصالة . ذات الشخوص التي لها زوجات سرّيات في الشقق المملوكة حديثاً ، كانت كلها موجودة داخل الصالة ، فالعُذر الشرعي إن اكتشفه أحد " زواج استخلاف ". جاءت الزوجات السرّيات لوحدهُنّ ، وأزواجهنَّ السريين جاءوا في العلن مع أُسرهم المعروفة . ضجيجٌ ما بعده ضجيج . الأطفال مثل رجال "المؤتمر الوطني" ، لا يُحسنون الاستماع للغناء ، يتسامرون بأعلى أصواتهم، رغم أن الاختيار قد تمّ من أفضل الموجود . الطعام على شاكلتين : للعامة صحائف ، ولأهل "المؤتمر الوطني" صحائف أخرى من الأطعمة والحلويات والمشروبات.
العريس ينظر كمن لا يصدق . عيناه تكاد تبرُز من محجريهما، رغم الهندام : جاكيت سوداء وقميص أزرق صافٍ بنقوش دقيقة ، وربطة عُنق حمراء . إلا إن الأمر تمّ وكأنه جاء إلى هذا العالم مع دهشة المفاجأة . ترقّب عينيه وهما تتجولان بالنظر ، تتحدثان عن غُربة حقيقية عن المكان والزمان والناس. كأن عقد الزواج صفقة !.
(2)
التقانا مُضيفنا ، وكان صديقاً أجبرنا بإلحاحه على الحضور . وأنتم جميعاً تعرفون طيبة أهل السودان ، ومسلك المتصوفة الموروث في الرضا بالقليل ، وجبر الخواطر . قلت في نفسي " ليس هناك من داعٍ لتقليب المواجع ، فقد نشهدُ سهرة ونقضي أمسية لا تعافها النفس ، وأرفه إن كان هناك من ترفيه في وطن ، سَرق البهجة من أرواح الجميع ،تنظيم يُحسنُ العيش بقوانين الظلام . وقَتِلَ كل إحساس بالفرح . لكني كنتُ أرجو صادقاً أن تُكذبني رؤيتي المُسبقة ،وأرفه عن نفسي ، بعد أن قضيت أيامي في التجوال بين المآتم ، وعقود الزواج في المساجد وزيارة المستشفيات؛ رغم أن الأخيرة "فرض كفاية ". تَمرٌ وعُلب المشروبات الغازية الهازمة للصحة والشاي الأحمر !. هذا عالم بئيس يتعين أن أهجره لحفل يقولون سيكون مرفهاً ،فوالد العروس " مؤتمر وطني " !
أنا وصديقي جئنا ، وفي ذاكرتنا نُردد في صمت بعض كلمات الأغنية المشهورة :
قُلنا لمَنْ عزلنا أنحنَّ هِنا انعزلنا
شرِبنا الود صافي سمونا وما نزلنا
تخيرنا مكاناً بعيداً لا يختاره الحضور عادة ، ولكنه يمكِّننا من مراقبة أنموذج من أهل السودان الذين تعالوا في البنيان بلا مقدمات منطقية ، ونحن نستلذ بالمقولة المعروفة " منْ راقب الناس مات همّاً " .
(3)
أطربنا سليل " البنا " بفاصل غنائي ، عطّره بأغنيات " الحقيبة " التي أعاد فيها روحاً جديدة بالتطريب . وكِدنا نُصدق أن الغناء صار أفضل ، وأن مشاريع اغتيال البهجة من صدور الناس قد رحلت إلى الأبد . وجاء الفاصل الثاني ، لمطرب رأيته لأول مرة ، ويُشاع في الصالة أنه " أمن وطني " ، يصلُح للضجيج لا غير. اهتاجت عناصر "المؤتمر الوطني"كلها ، نساؤها ورجالها وأمنها، وبدأت تباشير الفرح في وجوههم. لم ينقصهم إلا أصبع السبابة ، يتهكمون فيه بدعوات الصلاح ! . انطلقت الجلابيب المتسعة ، التي لم تتمكن من إخفاء البطون المنتفخة والمتدلّية من اثر أموال السُحت " الإغاثي " الجديدة. لم تنتظر هي النعمة أن يكتمل موعد أُكلها ، حتى تبدّت . فبنعمة ربها حدّثت وأفصّحت ، بل صرخت مع الصارخين في أفراح أهل "المؤتمر الوطني" .!
(4)
قلتُ لنفسي سوف أُكمل الليلة العبثية . وأراقب الزيجات السرّية ، كيف تفترق وكيف تلتقي؟ ، علها تفضحُ نفسها . قرب مائدة حولها عائلة أحد "المتآمرين الوطنيين" ، مرت سيدة فاتنة ، صغيرة السن ، ترتدي ثوب الموضة " الخليجي " الصارخ اللون . تقول حناؤها إنها متزوجة ، وليس معها رفيق . نظرتْ قرب منضدة رب الأسرة فاكتشفته من نظرته . التقت عيونهما وابتسمتْ، وفقر الشيخ فاهاً أبلهاً !.
تغير وجه الزوجة الأولى الجالسة أمامه وقالت :
( بِسْ على نسوان الزمن دة..القاهرات )
(5)
تتبعت مائدة مسئول " المؤتمر الوطني " ، وقارنت بين الزوجة الأولى والزوجة السريّة الفاتنة التي اكتشفتها ، وهي تحمل مفتاح سيارتها الصالون الصغيرة ، تهزه في يدها .
كل أوجه " المتآمرين الوطنيين " انتبهت ، وانبعثت من عيونهم شواظ النيران ، تحمل كل ما في الدُنيا من خِصال السوء : الطمع والحسد والانفلات والشهوات التي لم تستطع أن تستتِر . كأنهم في صلواتهم التي يجوّدون قرآنها ، لم يقرؤوا :
﴿...لَاتَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ...) 131 طه.
(6)
جلست السيدة الفاتنة ، وحالما أحاطت بها الخدمات الخاصة ، وطعام لا يشبه طعامنا . لم نُصبْ بأي حسد . كنتُ قد أخرجت نفسي من هذا العالم المتناقض ، وقلتُ لنفسي " سوف أصنع من نفسي مُشاهداً لفلم سينمائي سوداني عن أهل السلطة، يمتلئ بالخونة من أصحاب الرذائل الذين يدّعون التُقى والصلاح ".
قارنت بين الزوجتين : للزوجة القديمة: فمٌ ضخم ٌ ممدود ، وللفاتنة الصُغرى يصدُق الشعر الغنائي :
( أقيس الفم بودعة وألقى الودِع زائد )
( أقيس بالليل شعرهُ وألقى الفرق شاسِع )
(7)
قلت لنفسي لأتخذنَّ من الزوجتين حال المتآمرين قبل ، وبعد أن أرخى " المؤتمر الوطني " للمنتسبين سعة في الرزق ، فتجد رعاة الشاه يتطاولون في البنيان . فنحن أمام سيدة صابرة أكل الدهر منها حُسنها القديم ؛ خدمت أسرتها إخلاصاً وجاءها الثراء بعد أن انطفأ العمر الجميل . ابنها الجامعي يبدو فرِحاً و في ذهول غريب، تكاد أنت تتعرف على حبوب الهلوسة و أثرها على حركة قارب عينيه المتراقص ، يسكر بلا سُكر .تتوهج الألوان من حوله ويتضخم الانفعال .
بعد أن بدأ الفاصل الثاني بغناء التهريج الذي ذكرنا ، انفلت الوقار . تحرّك الزوج " المتآمر " الذي أتتبع سيرته وتسللت عيناي تُراقبه .هرب ليجالس سيدته السريّة . يتضاحكان . هي في عُمر ابنته . فرح الأطفال رأيته في عينيه . فعجبت بالتضييق على المرأة في قوانينهم ، وانطلاق شهواتهم في الحقيقة بلا قيود !.هؤلاء لا يحسنون الحديث مع المرأة ، عطايا المال والذهب المشغول تتحدث إنابة عنهم . ما قطعتْ مُتعته إلا صوت من ميكرفون الحفل يقول :
( دايرين أبو العروس )
عبد الله الشقليني
13 أغسطس 2014
abdallashiglini@hotmail.com
//////////