آية الله الكوز الأكبر: “السيرة الفكرية للمرشد الأعلى خامنئي”

 


 

 

12 أكتوبر 2014    
(هذه ترجمة ببعض التصرف لمقال للمعارض الإيراني " أكبر قانجي"  بمجلة فورين أفيرز Foreign Affairs  الأمريكية عدد سبتمبر/أكتوبر 2013 بعنوان "من هو خامنئي؟ Who is Khamenei?)
لقد تم انتخاب حسن روحاني لرئاسة الجمهورية الإيرانية في حزيران (يونيو) 2013 متمنطقاً بدعوته للإصلاح، مما دفع الكثيرين للحلم بأفق جديد من الاعتدال في السياسات الإيرانية الداخلية والخارجية؛ غير أن الاستسلام لمثل هذا الحلم ينمّ عن جهل بحقيقة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتلافيف دستورها، فالرقم الأول والأهم بالنسبة للسياسات الإيرانية ليس رئيس الجمهورية، إنما هو المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي، ذلك الفرعون الذى يتمتع بسلطات تعلو فوق كل مؤسسات الدولة، والذى تخضع له الأجهزة التنفيذية والتشريعية والقضائية. ولقد ظل بموقعه منذ عام 1989، معززاً وموسعاً لسلطاته بكافة السبل؛ فهو رأس الدولة والقائد الأعلى للقوات المسلحة والمسؤول عن الإعلام والمنظّر الأول والمرجعية النهائية في شؤون الدين والدولة؛ (أما الرئيس حسن روحاني فهو مجرد خيال مآتة = "مدفع دلاقين"- المترجم).
وبما أن أفكار خامنئي هي التي تؤسس عليها السياسات في إيران، فلا أقل من التمعن في جذورها وتطورها عبر السنين.
ولد على خامنئي بمدينة "مشهد" بشمال شرق إيران عام 1939، الإبن الثاني من ثمانية لأب من الملالي متبحر في الفقه الشيعي، ولكنه متواضع الحال. وقد سلك علي خامنئي طريق والده بالتفرغ للدراسات اللاهوتية، مثلما فعل إثنان من أشقائه، فدرس بمدينة قم من 1958 إلى 1964، وفيها التحق عام 1962 بحركة الإمام آية الله روح الله الخميني المعارضة للشاه؛ وعندما هبّت انتفاضة 1979 لعب فيها خامنئي دوراً نشطاً قربه للخميني الذى عينه رئيساً للجمهورية من 1981 إلى 1989، وأصبح مرشداً أعلى بعد وفاة الخميني فى 1989، (وهي درجة أضفت عليه قدسية رفعته فوق البشر، ولن يتخلى عنها حتى الممات، مهما بلغ من أرذل العمر - وتلك القدسية غير موجودة في الإسلام أصلا - المترجمً).
ولقد تبلورت أفكار خامنئي منذ صباه الباكر في خمسينات وستينات القرن العشرين عندما كانت إيران الشاه حليفاً تابعاً للولايات المتحدة، وكانت المعارضة لا ترى في الشاه إلا مجرد عميل أمريكي. ولم يكن خامنئي منكفئاً على ذاته مثل رصفائه كوادر الشيعة، بل متواصلاً ومنفتحاً على المثقفين العلمانيين والوطنيين الآخرين، فتماهى مع خطابهم السائد آنذاك بقدر ما استطاع، دون أن يتخلى عن الدراسات الدينية، خاصة الشريعة الإسلامية وتطبيقاتها. وفى تلك الأثناء، إطلع خامنئي على كتابات مؤسسي حركة الإخوان المسلمين، خاصة سيد قطب، الذى تأثر به كثيراً وترجم بعض مؤلفاته إلى الفارسية. 
ومنذ شبابه، تيقظ خامنئي للتوتر الذى يشوب علاقات الدول الغربية بالعالم الثالث، ومن ذلك الإحساس تولّد موقفه المتصلب تجاه الولايات المتحدة فيما بعد الثورة الإيرانية، إذ تفاقم ذلك الإحساس حتى أصبح فوبيا مزمنة بأن واشنطن لن تترك إيران تفلت من بين يديها، وسوف تنقضّ على الثورة الإسلامية؛ وحتى اليوم يصر خامنئي على أن الولايات المتحدة لن تتوقف عن محاولاتها تغيير النظام في طهران، إما عن طريق انهيار من الداخل، أو انتفاضة شعبية، أو من خلال الحصار الاقتصادي، أو التدخل العسكري المباشر.
ومن ناحية أخرى، ما برح خامنئي مشيحاً بوجهه عن الديمقراطية الليبرالية، ومؤمناً بحتمية انهيار النظام الرأسمالي الغربي طال الزمن أم قصر. ورغم كل هذه التحفظات، لا يصنف خامنئي نفسه كعدو مائة بالمائة للولايات المتحدة وللغرب، فهو لا يحسب أن مشاكل العالم الإسلامي كلها بسبب الغرب وأمريكا، كما لا يرى أن الحل يكمن فقط في الرجوع للشريعة، إنماً يتطلب أيضاً  الإقبال على التكنولوجيا والعلوم الصادرة عن الغرب؛ ويزعم خامنئي أنه ليس متزمتاً أو متشنجاً لا يلوى على شيء يثنيه عن المواقف العدائية ضد الغرب تحت كل الظروف. (وهناك بالطبع تناقض بين هذا الإدعاء وبين مواقفه العملية الداعمة للأنظمة والمنظمات الإرهابية المتطرفة بالشرق الأوسط وأوروبا وآسيا وإفريقي؛ ومواقفه المعادية للحريات اللازمة لتلقي العلم والتكنولوجيا والاستفادة منهم - المترجم). 
وعلى الرغم من تظاهره بالمرونة، ونفي التطرف عن نفسه، ما فتئ المرشد خامنئي يستبطن تحفظات عميقة ضد الغرب تجعل الحوار معه ومع حكومته غير سلس ولا يفضى إلى أي نتائج ذات بال؛ وذلك ما يفسر الموقف الراهن للعلاقات الأمريكية الإيرانية الذي يتسم بالتذبذب، وبكثرة الكوابح والمطبات، وبعدم الثقة المتبادل.  
المرشد الأعلى فى شبابه:
إن الهواجس التى تساور خامنئي تجاه الولايات المتحدة لها جذور في تاريخ العلاقات الأمريكية الإيرانية المفعم بالتعقيدات:
مع بداية الخمسينات، ومع أفول نجم الإستعمار التقليدي، دلفت الولايات المتحدة نحو منطقة الشرق الأوسط لتعبئة الفراغ الذى تركته الدول الاستعمارية، مثل بريطانيا، خاصة في المناطق التي تفجرت بها ثروة النفط منذ الفترة السابقة للحرب العالمية الثانية، وعلى رأسها إيران.                
وفي إيران بالتحديد حدث الآتي:
- فى عام 1953 دبرت حكومة الرئيس دوايت آيزنهاور انقلاباً عسكرياً بطهران ضد حكومة الدكتور محمد مصدق المنتخبة ديمقراطياً، وعاد محمد رضا بهلوي للسلطة على سنابك السي آي إي ليؤسس نظاماً قمعياً تحت الرعاية الأمريكية، حتي أطاحت به انتفاضة 1979؛ ومن هنا ارتبطت النظرة العدائية ضد نظام الشاه بعداء مماثل تجاه الولايات المتحدة الداعمة له. 
وعندما اندلعت ثورة 1979 كان علي خامنئي في الأربعين من عمره، وكان ذا روح عصرية رغم تدينه الشديد، إذ كان يحب الموسيقى والشعر والأدب بصفة عامة، متميزاً (في الظاهر) عن رفاقه المتزمتين؛ ولقد تظاهر بأنه متأثر في موقفه ضد الولايات المتحدة بالراديكاليين اليساريين والوطنيين الرافضين لإنقلاب 1953 ضد محمد مصدق رئيس الوزراء.
- ومما يذكر أن خامنئي قال لمجموعة من طلاب جامعة طهران عام 2012:
(قام الأمريكان بإطاحة حكومة مصدق رغم أنه لم يكن معادياً للغرب، بل كان له موقف مناهض للاحتكارات البريطانية فقط، بينما حاول أن يمد يد الصداقة للولايات المتحدة. وعلى الرغم من ذلك، قضت الإمبريالية الأمريكية بالتآمر عليه لصالح حليفهم البريطاني، فعادوا بالشاه ومكنوه ومكنوا أنفسهم جراء ذلك.)
وكان خامنئي ذا صلة وثيقة بكل من جلال الأحمد وعلي شريعتي - المعروفين وسط مثقفي الفترة السابقة للثورة الإيرانية، واللذين اشتهرا بفوبيا العداء للغرب. أما الموقف المناهض للإمبريالية فقد تناهى لخامنئي من أصدقائه الوطنيين الآخرين، وأصبح جزءاً من فكره السياسي. وكانت النظرة السائدة فيما قبل الثورة الإيرانية أن الحضارة الغربية تحتضر، وأن العالم الثالث هو الوريث الشرعي لها، مدفوعاً بنزعته للانعتاق من الفقر واستبساله في التحرر من ربقة الاستعمار. ومع أن إيران دولة مستقلة (نظرياً)، فلقد كانت تدور بالكامل في فلك الغرب، وظلت نخبتها الحاكمة بقيادة الشاه تخدم الامبريالية الغربية وتحرس وتؤمن مصالحها بالمنطقة. كما استمر الغرب في توسيع وترسيخ نفوذه بالعالم الثالث، وفي القضاء على ثقافاته المحلية ودهس روحه الوطنية. ومن هذا المنطلق، فإن الإسلام عند خامنئي ليس فقط معتقداً دينياً، ولكنه أداة إيديولوجية تفعل فعل السحر في انصياع الجماهير للقيادة الدينية وعدم الخروج عليها.
وكان خامنئي قارئاً نهماً للكتاب الإيرانيين محمد علي جمال زاده وصادق شوبك وصادق هدايت، وللكتاب الغربيين (الذين يتضاءل أمامهم في نظره أصدقاؤه الأدباء الإيرانيون) مثل ليو تولستوي وميخائيل شولوخوف وبلزاك وبوريس باسترناك وفكتور هوغو؛ كما تعرف على "الكوميديا الإلهية" و"الأمير أرسلان" و"ألف ليلة وليلة"، وكان "البؤساء" لفكتور هوغو أفضل ما قرأ في حياته على الإطلاق كما قال عام 2004.
وادعي خامنئي أن الرواية تفتح له نوافذ يطل منها على الذهنية الغربية؛ وقد نصح مجموعة من المفكرين الإيرانيين بالآتي:
(إقرأوا الكتاب اليساريين الغربيين مثل هوارد فيرست، واطلعوا على رواية "عناقيد الغضب" لجون شتاينبك، لتتلمسوا كيف يعامل الرأسماليون في الغرب طبقاتهم الكادحة.)
"غير أن أثر الثقافة الغربية على خامنئي أثر سطحي ديكوري فقط، ولم يغسل روحه من شهوة السلطة والتمكن، ومن الرغبة في الجلوس على هامات الآخرين والبطش بالمعارضين، تماماً كالشاهنشاه؛ كما لم يتعلم خامنئي شيئاً من الصراع بين الخير والشر الذى يعج به الأدب الغربي،خاصة الرواية والدراما،  بل ظل نصيراً لقوى الظلام في العالم التى اتخذت مقعداً خلفياً فى أوروبا منذ نهاية العصور الوسطى المظلمة وانحسار سطوة الكنيسة وتقليص سطوة البابا- المترجم."  
المفاهيم الإسلامية الخامنئية:
ورغم ادعائه الإلمام بالثقافة الغربية، فإن الفكر الأكثر تجذراً لدي خامنئي هو التوجه الإيديولوجي الإسلامي، متوسلاً عبره للثورة الاجتماعية في بلاده التى سوف يجلبها تطبيق الشريعة الإسلامية - (حسب وجهة نظره). وفى هذا الصدد كان أستاذ على خامنئي الأول هو سيد قطب الزعيم الإخواني المصري الذى أعدمه جمال عبد الناصر عام 1966؛ ونظرية سيد قطب الأساسية تتمحور فى إقامة دولة للمسلمين ورد توصيفها في كتابه (المعركة بين الإسلام والرأسمالية) كالآتي:
"إذا أردنا للإسلام أن يصبح أداة للتحرر، يجب أن يصبح ديناً ودولة، إذ يجب أن ندرك أن هذا الدين لم يتنزل علينا لنتحول إلى رهبان داخل صومعة أو دير، أو ليعشعش في صدورنا فقط؛ إنما جاء ليحكم حياتنا ويديرها بالطريقة الصحيحة. جاء لنبني به مجتمعاً متكاملاً ومتقدماً إلى الأمام. فإذا أردنا حلاً لمشاكلنا الاجتماعية وغيرها، فلنحكم بالإسلام ونقيم دولته ونصدر تشريعاته وأوامره، فالإسلام والأمة بلا حكومة إسلامية أمر لا معنى له."
ويلوك الدعاة لدولة قطب الافتراضية شعارات العدالة والمساواة والتوزيع العادل للثروة (كدعوة حق أريد بها باطل)، ويجترون قول سيد قطب: "الإسلام الحقيقي هو الذى يحرر قلوب معتنقيه كما يحرر مجتمعاتهم من الخوف الذى تبثه هيمنة القوي على الضعيف"، ( وهي شعارات يغسلون بها أدمغة الجماهير حتى يعتلون السلطة، فيفعلون بها الأفاعيل - المترجم). وتهويمات سيد قطب هي التى تأسس عليها الفكر السلفي المعاصر، ونهل منها دهاقنته، مثل الشيخ القرضاوي وحسن الترابي والغنوشي وأسامة بن لادن وأيمن الظواهري وأبو بكر البغدادي...إلخ، وهي الأفكار التى تلقفها خامنئي ليخلص عبرها إلي قناعة لم تبرحه (رغم ضبابيتها) بأن الخلاص يكمن في الإسلام، (والوسيلة لذلك هي الدولة الثيوقراطية التى يتحكم فيها ملالي قم، بتفويض إلهي يجعلهم مقدسين كبابا الكنيسة الكاثولوكية في القرون الوسطي، ويجعل معارضتهم زندقة وكفراً يستحق جز الرؤوس - المترجم).
ولقد حدد قطب فكرة "دار الإسلام" و"دار الحرب" بقوله:
"هناك دار واحدة للإسلام وهي الدولة الإسلامية التى سيتم تأسيسها، ويتم تطبيق الشريعة وإقامة حدود الله فيها، وبها يتكافل المسلمون؛ أما دون ذلك فهي دار الحرب، وعلاقة المسلم بها إما حرب أو سلام مبني على ميثاق معين."
ولقد أوحى قطب لخامنئي بأن أمريكا عبارة عن مجتمع متحلل، كما رآها في أربعينات القرن العشرين أثناء البعثة الدراسية؛ وكان قطب ذا إنطباع بأن الأمريكان يتجهون نحو الإسلام، ولكن ليس بصورته التحررية وشخصيته المتحدية والمتجددة التى يقترحها هو، إنما كأداة لمكافحة الشيوعية:
"لقد ازداد اهتمام الأمريكان بالإسلام لكي يحاربوا به الشيوعية، خاصة في الدول الإسلامية بالشرق الأوسط وآسيا وإفريقيا، ولكنه ليس الإسلام الذى يدعو لمناهضة الامبريالية والتسلط، فقط ذلك الإسلام الذى يصلح كترياق ضد الشيوعية؛ ولا يريدون الإسلام الذى يؤسس أمة المسلمين المكافحة ضد الاستعمار وضد الشيوعية في نفس الوقت."
ما بعد الثورة:
عندما سمحت الولايات المتحدة للشاه بدخول أراضيها للعلاج إثر ثورة 1979، بعد التى واللتيا، احتل الطلاب والحرس الثوري الإيراني السفارة الأمريكية بطهران.  وحسب ما ذكر الرئيس الأسبق رفسنجاني، فإنه وخامنئي لم يوافقا على تلك الحركة القرصانية، ولقد تفاجآ بها أثناء تواجدهما بمكة المكرمة لأداء فريضة الحج.  ولكن بمجرد مساندة الخميني للحركة، تبعه باقي القادة الثوريين الجدد خانعين مستسلمين، بمن فيهم خامنئي. وعندما أصبح رئيسا للجمهورية، استمر خامنئي نصيراً للقرصنة الطلابية، بل ظل يعتقد بأن حبس الدبلوماسيين الأمريكان داخل وكرهم التجسسي، مع تعطيل أجهزة إتصاله، شكّل حماية جيدة للانتفاضة الإيرانية من مؤامرات الثورة المضادة الأمريكية. وكان خامنئي قد عمل لفترة وجيزة قبل الرئاسة كنائب لوزير الدفاع، مما قربه من تفاصيل الملف الأمريكي. و عندما انفلت جيش صدام حسين على إيران عام 1980، ولما تصل أزمة الرهائن الأمريكان إلى أي حل، وقفت الولايات المتحدة موقفا سلبيا من ذلك الغزو العراقي، ولم تشجع الأمم المتحدة على كبح جماح صدام، بل ساعدته لوجستياً في تلك المغامرة؛ كما دخلت القوات البحرية الأمريكية على خط الحرب ضد إيران ودبرت غارات جوية على بعض الآبار النفطية الإيرانية بالخليج عام 1987،  وفجّرت طائرة ركاب إيرانية عام 1988 فوق سماء الخليج العربي.
وفي عام 1987 قام خامئني بزيارة إلى نيويورك لحضور جلسات الجمعية العمومية للأمم المتحدة، و قال في خطابه أمامها:
" إننا في إيران نمر بفترة مريرة و سوداء تتخللها كافة أنماط الحقد الأمريكي على أمتنا، استمراراً  لخمس وعشرين سنة من المساندة الأمريكية للشاه الذي عذب شعبنا، ومن السرقة المنظمة لموارد بلادنا بمساعدة نظام الشاه، ومن دعم للشاه و هو يفتك بالمعارضة، قبل نجاح الثورة. والآن نواجه تجميد ممتلكات وأرصدة حكومتنا بأمريكا، بالإضافة للمقاطعة الاقتصادية ودعم العدوان العراقي علينا. كل ذلك يعبر عن الموقف العدواني للحكومة الأمريكية ضد إيران ".
انتقال الزعامة من الخميني إلى خامنئي:
لقد تصلبت مواقف خامنئي ضد الولايات المتحدة أكثر و أكثر بعد أن أصبح مرشدا أعلى في 1989، وترسخت قناعته بأن الغرب بقيادة أمريكا يسعى لقلب نظام الحكم في إيران، مثلما فعل في الإتحاد السوفيتي.
وقد أشرك خامنئي بعض المسؤولين الإيرانيين في بنات أفكاره عام 2000 قائلاً: 
”لقد تم وضع خطة متكاملة للإطاحة بنظام الثورة الإسلامية، تكرارا للسيناريو الذي تم تطبيقه في الاتحاد السوفيتي. و على كل حال، كانت هناك عوامل داخلية أدت لإنهيار الاتحاد السوفيتي، مثل الفقر والقمع والفساد  والصراعات الإثنية؛ واستغل الأمريكان تلك الظروف لدفع الإتحاد السوفيتي نحو الهاوية. بيد أن هذا السيناريو سيتعذر تطبيقه في إيران، لأن الإسلام ليس إيديولوجية جديدة تم تبنيها بعد الحرب الكونية؛ وإيران أمة عريقة ضاربة الجذور كدولة موحدة، و لم تنشأ كإمبراطورية توسعية إستعمارية مثل روسيا أو الإتحاد السوفيتي فيما بعدها، بل هي دولة راسخة وتتمتع بشرعية ثورية  تاريخية ودينية."
و يرى خامنئي أن التحوّط  ضد المصير السوفيتي يعني الآتي:
يجب تحجيم ومحاصرة العناصر المعارضة والمتفلتة (الذين يشبهون بوريس يلتسين، الكاتاليست المحلي الذى ساهم في انهيار الاتحاد السوفيتي.)
يجب أن تتم إصلاحات محدودة و مبرمجة، و يجب ألا يتم استغلالها لغير أغراضها الأصلية.
يجب ألا يسمح للإعلام بإضعاف الحكومة و الفت في عضدها.
يجب منع التدخل الخارجي، خاصة ذلك الذي يأتي من لدن الولايات المتحدة.
- (أي المزيد من التمسك بالسلطة ورفض الآخر وانتهاك حقوق الانسان - المترجم). 
و يعتقد خامنئي أن الغرب و الولايات المتحدة وإسرائيل يريدون أن يستغلوا الانتخابات الإيرانية بكل مستوياتها: المجالس المحلية والمجالس النيابية ومجلس القضاة ومجلس الحكماء، لخلق حالة من الإرتباك ولفرض نظرية "السيادة المزدوجة"، بالتعاون مع عملائهم المحليين. والهدف كذلك هو زرع إسفين بين المرشد الأعلى وغيره من المتنفذين الدستوريين بالدولة. (وبالطبع لا يؤمن خامنئي بشيء اسمه الفصل بين السلطات - المترجم). ومثلما فعل البريطانيون منذ قرون خلت عندما قلصوا سلطات الملك حتى أصبح صاحب وظيفة تشريفية فقط، (وهو تطور حضاري إيجابي لم يستطع خامنئي أن يستوعبه - المترجم)، فإن الغرب يسعى لتحجيم ولاية الفقيه وتقليص صلاحيات المرشد الأعلى حتى يستحيل إلى خيال مآتة.  ولقد جاء المفكر الإيراني سعيد هجاريان بتعبير "السيادة المزدوجة" كتوصيف لتوازن القوى الذي شهدته البلاد فيما بعد فوز محمد خاتمي في الإنتخابات الرئاسية عام 1997 (وهو انعطاف خجول نحو نظرية الفصل بين السلطات - المترجم) - ونتيجة لذلك قام أنصار خامنئي بمحاولة اغتيال ذلك المفكر في مارس 1999، ورغم أنه نجي من الموت إلا أنه ظل مشلولا منذ تلك الحادثة. وفي عام 2004 أعاد خامنئي الهجوم على مسألة "السيادة المزدوجة" باعتبارها فكرة تخريبية مصدرها أعداء البلاد.
وعلى إثر انتخابات حزيران يونيو 2009، خرج آلاف الإيرانيين لشوارع طهران احتجاجا على التزوير الذي شاب تلك الانتخابات؛ وفي خطبة الجمعة هاجم الإمام خامنئي المتظاهرين، مشبها إياهم بأولئك الذين أشعلوا ما أسماها ساخراً "بثورات الألوان"، خاصة انتفاضة جورجيا التي يزعم خامنئي أنها صنيعة بريطانية وأمريكية، (أي أنه كان يتوجس من تلك الانتفاضات الشعبية العفوية - المترجم)؛  و تعرض خامنئي لموقف الغرب من التظاهرات الإيرانية واصفا إياه بالتواطؤ والتآمر. ولقد عاد خامنئي لهذا الموضوع مرة أخرى في حزيران يونيو 2011 عندما خطب قائلا إن تلك الحركة الاحتجاجية المسماة ب"الحركة الخضراء" ما هي إلا مجرد تجسيد للثورة المضادة التي تخوضها أمريكا والغرب ضد الثورة الإسلامية الإيرانية.
و لقد جاء في إحدى خطبه في أغسطس 2010:
"إن الغرب يعمل على تصفية الثورة الإسلامية، ومن أسلحته الحصار الإقتصادي الذي يهدف لتركيع الجمهورية الإيرانية، ولزرع إسفين بين الحاكم و المحكوم في بلادنا." 
و قال خامنئي في أغسطس 2011:
"ليست المقاطعة الاقتصادية بسبب الملف النووي؛ فلقد بدأت هذه المقاطعة قبل شروعنا في تخصيب اليورانيوم بزمن طويل، والهدف هو دفن الثورة الإسلامية."
(وهكذا، فلقد أصبح فكر خامنئي تجسيداً لنظرية المؤامرة، معجوناً بعقدة الميقالومانيا- المترجم).
و يرى خامنئي أن محاولات التطبيع مع أمريكا لم تسعف الموقف، مثلما حدث أثناء رئاسة خاتمي الذي جمد تخصيب اليورانيوم من أجل بناء الثقة مع الغرب والأسرة الدولية، ولم تستفد إيران من ذلك التجميد للتخصيب، ولم يرفع عنها الحصار الإقتصادي ولم يطلق سراح الأرصدة المجمدة بالمصارف الأمريكية. و كان رد خامنئي هو استئناف التخصيب  وعدم الالتفات لما يطالب به الغرب في هذا الخصوص، فبرغم مهادنة خاتمي  وتعاونه مع الغرب في موضوع أفغانستان، لم يستنكف الرئيس بوش عن إدخال إيران في زمرة الدول المارقة - "محور الشر".  ويستدل خامنئي كذلك بليبيا التي قررت عام 2003 أن توقف و تفكك مشروعها النووي، ولم يشفع لها ذلك عند الغرب الذي أطاح بالقذافي عام 2011. وعلى هذا المنوال، فإن الغرب لن يرضى بغير تغيير النظام مهما توددنا له وأبدينا تعاوناً فيما يختص بالملف النووي، كما يقول خامنئي، إذ أنه سيتحجج بقضايا أخرى مثل الإرهاب او حقوق الإنسان أو الموقف من إسرائيل. 
المقدسات الدينية:
عندما قام قس أمريكي متطرف بحرق المصحف الشريف بفلوريدا عام 2010، تساءل خامنئي عن الذي يقف وراءه، وأجاب نفسه مشيراً للدوائر الصهيونية المتواطئة مع المؤسسات الأمنية الأمريكية والبريطانية  والأوروبية. كما أبدي خامنئي نفس المشاعر عندما ظهر فيلم "براءة المسلمين" عام 2012، متهما أمريكا وإسرائيل بالضلوع في إنتاج وتوزيع ذلك الفيلم، والضلوع في كافة المؤامرات التي استهدفت الإسلام، مثل كتاب سلمان رشدي "آيات شيطانية"، والرسومات الكاريكاتورية المسيئة للنبي محمد عليه الصلاة والسلام في الدنمارك وغيرها.
وفي نفس الوقت، يحاول خامنئي أن يتجنب الإقرار بأن الإسلام المؤدلج يقف في مواجهة صريحة مع المسيحية، ويصر على أن المواجهة هي هدف الغرب الذي يسعي لزرع الفتنة بين المسلمين والمسيحيين؛ أما المسلمون فهم يحترمون المعتقدات الدينية الأخرى ولا يتعرضون لها بالإساءة أو التجريح، بحكم تعاليم دينهم الحنيف.

أيلولة الغرب للإنهيار:
ورغم أن خامنئي يدرك التقدم الهائل الذي أحرزه الغرب في المائة سنة الأخيرة، فهو موقن بأفول شمس الحضارة الغربية. وهو يرجع تخلف دول العالم الثالث إلى أنها لم تأخذ بأسباب العلم والتكنولوجيا بسبب الأنظمة الأتوقراطية التي ظلت تعتقل تقدمها. وخامنئي معجب ببعض مظاهر التطور في العالم الغربي، ولقد خطب في جمهرة من الشباب عام 2001 قائلا:
"من مزايا الأوروبيين أنهم دائما مستعدون لركوب المخاطر  وخوض المغامرات بحثا عن الحقيقة العلمية، وهذا هو سر نجاحهم، بالإضافة لاستعدادهم للصمود وتحليهم بالهمة في العمل. ومعظم العلماء  والمخترعين الغربيين يصبرون ويقبعون داخل مختبراتهم لسنين طويلة،  ولا يبالون بشظف العيش، حتى يخرجون باكتشافاتهم؛ وعندما تطالع قصص حياتهم تجد نماذج مدهشة من الصبر والعمل الشاق الدؤوب؛ وتلك هي الجوانب المضيئة في الحضارة الغربية. فالحضارة الغربية فيها الصالح والطالح، ونحن نحتاج للتأثر بالجوانب الإيجابية، ولتجنب السلبيات فى حضارة الغرب."
و من رأي خامنئي إن الإسلام في نهاية التحليل هو الأفضل، لأن الحضارة الغربية مشلولة بالجانب المادي، والتقدم عندها يحتوي فقط على المقتنيات المادية والمعطيات التكنولوجية والقوة العسكرية؛ بينما نجد أن  المفهوم الإسلامي للتقدم يعني الجانب العلمي، بالإضافة للعدالة ورفاهية البشر  وحريتهم واستقلالهم وتقواهم وتقربهم إلى الله، أي أن الحضارة الإسلامية تحتوي على مكون آخر غير المكون المادي،  وهو المكون الروحي والأخلاقي. 
(وذلك يعني أن مثل هذه الدولة وقف على المسلمين فقط، ولا سبيل للتعايش في كنفها مع أصحاب المعتقدات الأخرى، بل الطوائف الأخري: أنظر للمصير الذي حاق بالأقلية السنة في إيران وبالزيدية والأشوريين والأكراد على يد داعش السيد قطبية/لإيرانية - المترجم).
و خامئني ليس من المعجبين بالديمقراطية الليبرالية، ويعتقد أن الديمقراطيات الغربية تأتي بحكومات لا يصوت لها إلا أقليه من السكان،  ويزعم أن الدول الغربية (الديمقراطية) أبداً تسعى لإستعمار واستغلال دول العالم الثالث، وأن ما يسمى بالقرية الكونية هو في الحقيقة إخضاع العالم للنفوذ الأمريكي، مثلما حدث في العراق وأفغانستان.
ويدعي خامنئي أن إيران تمارس الديمقراطية الخاصة بها المتجذرة في تعاليم الدين الإسلامي، وتلك منابت تختلف عما تنطلق منه الحضارة الغربية؛ فكل البشر لدينا يتمتعون بحقهم في التصويت وفي تقرير مصيرهم! (هذا إذا نسينا أن الانتخابات في إيران، وفى كافة الدول التى يحكمها الإسلاميون كالسودان، صحبتها دائماً أساليب التضييق على المنافس غير المرغوب فيه من قبل الحاكمين، والملاحقة والحبس للمعارضين، وعمليات التزوير واسعة النطاق - المترجم). ومن رأيه أن الديمقراطية الغربية لا تقود للحرية، إنما للهيمنة والعدوان واستعمار الآخرين، بعكس المفهوم الذي يتجلى في "الديمقراطية الإسلامية". ورغم هذا الموقف المتشدد، فإن خامنئي نصح المثقفين الإيرانيين بالإطلاع على الفكر الغربي وعلى ترجمة أعمال كارل لوللا  وماتون وميلتون فريدمان  ورولاند دواركن وإيسيا برلين و جون رولز  ورتشارد رورتي ومارثا نصبوم وروبرت بوتمان وامارتيا سن وآخرين، على طريقة "خذوا بناصية علوم الأعداء لتتقوا شرهم". 

و من رأي خامنئي أن النظام الرأسمالي الغربي يعاني من مشاكل مزمنة و متأصلة ستقود إلى زواله في آخر الأمر، وقد جاء في خطبة له عام 1992:
"النظام الرأسمالي الغربي غارق حتى أذنيه في المشاكل الإجتماعية؛ فبرغم الثروات المادية التي تراكمت لديه، نجده عاجزا تماما عن تحقيق العدالة الاجتماعية التي تتناهى لكل شرائح السكان. ( لعله لم يسمع بالبنية التحتية المتقدمة بالغرب، وبالمستوى المعيشي فيه الذى لا يقارن بإيران، وبدول غربية كالسويد والنرويج والدنمارك سكانها أسعد بنى البشر على الإطلاق - المترجم). 
ويري خامنئي "أن الإضطرابات الأخيرة التي أججها السود في الولايات المتحدة كشفت أن الظلم والعدوان الأمريكي لا يستهدف الدول الفقيرة بأمريكا اللاتينية  وافريقيا وآسيا فقط، إنما تعاني منه الشرائح المهمشة من الشعب الأمريكي نفسه؛ ولقد أظهرت كذلك أن الدولة الأمريكية تواجه ذلك الحراك الاحتجاجي المحلي بنفس العنف والقمع الذي تمارسه الأنظمة الدكتاتورية بتلك القارات. ورغم أن الغرب سعيد بذهاب النظام الشيوعي من شرق أوروبا، إلا  أنه سيلحق بنفس ذلك الركب عاجلا أم آجلا."
ومن رأي خامنئي أن أزمة 2008 الإقتصادية تقف دليلا على قرب أفول نجم الغرب، و هي نذير بأزمات متتالية قادمة. ويقول المرشد أن 1% من الشعب الأمريكي يحكم باقي الشعب المكون من 99%. وعموما، لقد انسدت الآفاق أمام النظام الرأسمالي الغربي، وسوف يبدأ عصر جديد بالنسبة للبشرية، بعد أن تصرم عهد الماركسية والليبرالية والرأسمالية. ويقف الربيع العربي كدليل على يقظة هذه الشعوب الإسلامية، وهو مقدمة للثورة ضد الإمبرالية الأمريكية والصهيونية العالمية. (رغم أنه في مواضع أخرى يسخر من انتفاضات الربيع العربي ويصنفها كمؤامرة إمبريالية - المترجم). وستقف الإرادة الإلهية مع هذه الهبة القادمة، وما صمود الجمهورية الإسلامية لمدة ثلاثة عقود في وجه المؤامرات الغربية إلا دليل على هذه الإرادة الإلهية؛  وستنتصر القيم الروحانية والدينية في وجه القيم المادية المفلسة.  وبعكس عالم الاجتماع ماكس ويبر الذي ذهب إلى أن القيم الدينية قد انحسرت في عصر العلم والتكنولوجيا، يشدد خامنئي على أن القيم الدينية ستنتصر على حساب القيم المادية، " دون أن يقدم حيثيات أو أدلة علمية، بل يمعن في تكرار مقولة "الإسلام هو الحل" ملقاة على عواهنها- المترجم".
المفاوضات:
ظل خامنئي رافضا لأي تفاوض مع الحكومة الأمريكية، ولكنه في الآونة الأخيرة أخذ يطلق بعض البالونات التي توحي بشيء من المرونة، مطالبا الحكومة الامريكية بتغيير مواقفها تجاه إيران، وبدا أنه يتوجس خيفة من الضربة الأمريكية/الإسرائيلية الموعودة.
وفى نهاية التحليل، فإن تحسن العلاقات بين البلدين أمر ممكن طالما أن مصالحهما تتطلبان  ذلك. ولا بد أن تستشعر الحكومة الإيرانية عاجلاً أم آجلاً مسؤوليتها تجاه الحالة المعيشية المتردية لشعبها بفضل المقاطعة الاقتصادية؛ ومن باب المرونة الواجبة، يتعين على الحكومة الإيرانية السير على الطريق التى سوف تجعلها تلتقى مع الحكومة الامريكية في منتصفه، من أجل مصالح الشعبين؛ وفيما يبدو أن الرئيس الجديد حسن روحاني يطلق الكثير من بالونات المرونة وكسر حواجز التمنع التي حالت دون مفاوضات مباشرة بين الحكومتين. وحتى الآن، لم يبد خامنئي إعتراضا يذكر على اتجاهات روحاني التوفيقة في التعامل مع الأسرة الدولية، خاصة الغرب و أمريكا. 
(وعلى كل حال، فإن مفهوم "التقية"الشيعي يدعو خامنئي لأقصى درجات المرونة والمراوغة والتلبيس والتدليس حتى تنجز إيران برنامجها النووي، وتمتلك ترسانة من أسلحة الدمار الشامل، وتقلب موازين القوى رأساً على عقب بالشرق الأوسط، وتصبح جاهزة لاستعادة الامبراطورية الفارسة وتحقيق الأحلام التوسعية التى تعشعش في رؤوس ملالي قم؛ وتؤكد دورها كالمهدد الحقيقي لدول الخليج العربي، وللسلام الإقليمي والعالمي - المترجم.) 

والسلام.
fdil.abbas@gmail.com

 

آراء