غازي العتباني يسأل: من يحمي تلك الحُريَّة الصغيرة ؟
بابكر فيصل بابكر
2 May, 2015
2 May, 2015
boulkea@gmail.comقبل أن يُعلن الدكتور غازي صلاح الدين انشقاقه عن الحزب الحاكم كتبتُ مقالين أحلِّل فيهما كتابات وأحاديث مستجدة له خلصتُ فيهما إلى أنَّ تغيُّراً ما قد طرأ على فكر الرَّجل, وطالبتهُ ومن معهُ من إصلاحيي المؤتمر الوطني أن يُراجعوا الأفكار, وأن يعترفوا بأخطاء التجربة , وأن يقدموا نقداً جاداً للممارسة التي كانوا جزءاً أصيلاً ومؤثراً وفاعلاً فيها.
إنَّ الإعتراف بالخطأ يُمثل في حد ذاته قيمة مًهمَّة ومؤشراً أساسياً لماهيَّة الطريق الجديد الذي ينتوي الشخص أن يسلكهُ, ولا يُجدي في هذا الإطار الإكتفاء بالعموميات, ومحاولة التهوين من حجم الخطأ من أجل تبرئة الذات, وهو الأمر الذي ظلَّت قيادات الإنقاذ – وعلى رأسهم الدكتور الترابي – يتهربون منهُ ويعجزون عن مواجهته بجرأة وشجاعة, مما يُرسِّخ من المشكوك الموجودة أصلاً حول مدى مصداقية مواقفهم المُستجدة.
لم أقعُ حتى اليوم على إعترافٍ صريحٍ لكبار قادة الإنقاذ بخطأ "الإنقلاب العسكري" وما ترتب عليهِ من مآس غير مسبوقة في تاريخ السودان, ووجدتُ أغلبهم يُبرِّر للخطوة بأحاديث من شاكلة : لو لم نستلم السلطة لإستلمها حزبٌ آخر, أو أنَّ الأحزاب كانت تخطط للقضاء على "الجبهة القومية الإسلامية" ولو لم "نتغدى بهم لتعشوا بنا", أو في أغلب الأحيان يقولون : نحنُ لسنا إستثناءاً فجميع الأحزاب دبَّرت إنقلابات عسكرية.
سقتُ هذا الحديث كمقدمة لمناقشة بعض الآراء التي قال بها الدكتور غازي مؤخراً, والتي تبدى لي من خلالها أنَّ الرَّجل لم يُحدث القطع المطلوب مع الماضي, والذي يتطلب شجاعة وجرأة في كشف الأخطاء والممارسات التي أدخلت البلد في نفقٍ مظلم وأورثتهُ أزماتٍ يُمسك بعضها بتلابيب بعض بصورة غير مسبوقة في التاريخ الوطني الحديث.
في حوار أجرتهُ معه الأستاذة صباح موسى سُئل الدكتور غازي عن إتهام حزبه للمؤتمر الوطني بإستغلال إمكانيات الدولة وأموالها في الإنتخابات, وكيف أنَّ الأخير أتهمهم بالإساءة لتاريخهم, فقال في إجابتهِ :
( أولا أنا شخصياً لم أقل هذا الكلام على لساني، ولكنه ورد على لسان بعض القيادات رأوا أن هذه المسألة كان يجب أن توضح إزاء زعم الطرف الآخر بأن التمويل مستقل ويعتمد على العضوية، وحقيقة الساحة السياسية تحتاج لكثير من التفسير والسند والحجة، ولكن القضية قضية عامة، نحن لسنا مع ولم نتخذ أي خطوة أو عمل فيه خيانة لعهد سابق ).
إجابة الدكتور غازي هذه تثير الكثير من التساؤلات وعلامات الإستفهام, فهو ينفي أنَّ الإتهامات وردت على لسانه شخصياً ثم أنه كذلك يُسمي الخطوة "خيانة" لعهد سابق, ونحن من جانبنا نسأله : لماذا لم تبادر أنت بدلاً عن قيادات "الإصلاح الآن" بالتطرق لهذا الكلام, وفي ظننا أنَّك أعلم من غيرك بمدى صحَّتهِ, ذلك أنك كنت في قمة هرم السلطة ومركز إتخاذ القرار داخل الحزب وفي الدولة لأكثر من عشرين عاماً ؟
ونذهبُ أبعد من ذلك لنقول لك أنَّ أوجب واجبات الإصلاح يتمثل في مُكاشفة الجماهير بخفايا وحقائق ودقائق ما كان يدور في أروقة الحكم وكنت أنت جزءاً منهُ, وعدا ذلك فإنَّك ستظل تدور في ذات الدائرة المفرغة التي سبقك إليها الكثيرين من دُعاة الإصلاح الذين ما لبثوا أن عادوا وانضموا لحزبهم السابق من جديد.
غير أنَّ النقطة الأكثر خطورة في حديث الدكتور غازي تتمثل في نفيه إتخاذ أية خطوة يُمكن أن تعتبر "خيانة" لعهده السابق, أى أبَّان وجوده في الحزب الحاكم, وتتمثل خطورة تسمية كشف الحقائق وتوضيحها للشعب "بالخيانة" في أنَّها تضرب مصداقية دعوته للإصلاح في الصميم, فالإصلاح في أصله يكون لأمر قد إنحرف عن مسارهِ, ولا مجال لإنفاذه – أى الإصلاح - إلا بكشف الممارسات التي أدَّت لذلك الإنحراف.
وبالتالي فإنَّ توضيح الحقائق, وتعرية وفضح الأساليب التي أدت للإنحراف لا يُمكن أن يمثل "خيانة", بل هو واجب وضرورة, وفي هذا الإطار يجب على داعية الإصلاح أن يتحمل كل أنواع الأذى التي قد تلحقُ به شخصياً من جرَّاء سيره في هذا الطريق, وفي مقدمتها ما قد يصدُر من "إخوانه" السابقين أو من الرأي العام.
فعلى سبيل المثال كان الدكتور غازي قد إشتكى من أساليب ملتوية, و "مؤامرة" هدفت إلى إقصائه وإبعاده عن منصب الأمين العام للحركة الإسلامية, ولكنهُ هو نفسهُ متهمٌ بالصمت عن مؤامرة شبيهة أدَّت إلى إبعاد الأستاذ الشفيع أحمد محمد من ذات الموقع وجاءت به هو في مكانه, فلماذا لا يكشفُ الدكتور غازي حقيقة تلك الإتهامات للرأي العام ؟ و هل يُعتبرُ كشف الممارسات المنحرفة في مثل هذه الحالة "خيانة" لعهد سابق ؟
كذلك شكا الدكتور غازي وحزبه من محاولات المؤتمر الوطني شق صفهم بعد أن أثبتوا وجودهم في الساحة السياسية, وهذا أيضاً ليس بالأمر الجديد, فقد بدأ منذ مجىء الإنقاذ, حيث عملت على إختراق و تقسيم و تفتيت الأحزاب الوطنية الكبيرة وفقاً لخطط مرسومة بعناية, وبتنسيقٍ تام بين المسؤولين السياسيين في الحزب الحاكم والأجهزة الأمنية بحسب قول القيادي السابق في المؤتمر الوطني حسن رزق.
حينها كان الدكتور غازي موجوداً في قيادة الحزب والدولة, ولا بُدَّ أنَّه يعلم الكثير عن هذه الممارسات التي أدَّت لتفكيك الأحزاب و كانت واحدة من أسوأ نتائجها ظهور غول الجهوية والقبلية الذي بدأ في الإختفاء تدريجياً منذ مطلع القرن الماضي بفضل التطور الإجتماعي الذي أفرز الأحزاب السياسية بوصفها كيان متقدم على العشيرة والطائفة, فهل يُمثل فضح هذه السياسات ضرباً من خيانة العهود السابقة ؟
بالطبع لا أودُّ أن يبدو تناولي لهذا الموضوع وكأنهُ محاكمة للدكتور غازي والذين معهُ ممَّن كانوا شركاء أصيلين في النظام الحاكم, فهذه مُهمَّة سيضطلع بها الشعب السوداني في وقت ما, وبطريقة ما, وسيحكم عليها التاريخ, ولكنني أهدفُ للوصول إلى نقطة الإنطلاق الصحيحة التي يجب أن يبدأ كل داعية إصلاح منها, وهى نقد التجربة, والإعتراف بالخطأ, حتى يتسِّم الموقف بالجدية و المصداقية ولا يكون مُجرَّد خلاف عابر سرعان ما تعود بعده "حليمة لقديمها".