نحن والردى فى السودان الكليم!
بسم الله الرحمن الرحيم
قال محمود درويش فى قصيدته بإسم تلك المدينة العسجدية المضطربة على الدوام: (جئنا إلى بيروت....كي نأتي إلى بيروت.) وأراني أكتب كي أكتب، for the hell of it، على الرغم من أن الشعراء لم يغادروا أي متردّم، ورغم أنا معشر المعارضين بالخارج ظللنا نكتب منذ ربع قرن tenaciouslyولم نصل إلى بسطام، فما زال النظام يعمل لدنياهwith similar tenacity كأنه يعيش أبداً، ولا يعمل لأخراه البتة، ويبدو واثقاً من نفسه، بعد أن وضع جل معارضيه فى جيبه. وعندما ذهبت للسودان قبل بضع أسابيع وجدت أن معظم الناس لم يقرأوا ما دبجناه بالصحف الإلكترونية، إذ ما برحوايصارعون الحياة ويكابدون الرزق يوماً بيوم، وتفتك بهم الملاريا والعلل المستوطنة والأزمات الإقتصادية وتصاريف الأيام وصبابة العيش التى طففتها الأيام تطفيف بخس (على قول البحتري)؛....... حتى ضابط الأمن الذى حقق معى لنيف وساعتين بعد أقل من إثنتي عشر ساعة من وصولي، لم يسمع بى من قبل، (أو هكذا ادعى ليقلل من شأني)، وقال إني أدرجت بالقائمة السوداء فى 15 يناير من هذا العام - على الرغم من أنى ظللت أكتب ضد هذا النظام منذ تلك الصفحة بجريدة (الوفد) المصرية التى كان يحررها معتصم حاكم فى مطلع التسعينات، مروراً ب"الإتحادي الدولية" الصادرة من القاهرة لساناً لحال التجمع الوطني الديمقراطي، وكذلك بالصحف الخليجية، خاصة (أخبار العرب) التى كان لى فيها باب ثابت كل جمعة لعدة سنوات بدءاً من 2003، ثم الصحف الإسفيرية منذ أن ظهرت للوجود حتى الآن،Sudanile, Alrakoba, Huriyyat, Sudaneseonline, ، بالإضافة للحضور المتكرر فى حوارات البرامج الإخبارية بالعديد من القنوات الفضائية.........فهل ياربكنا ننفخ فى قربة مثقوبة؟...........أم أن جهودنا "بندق فى بحر"؟
على كل حال، أجدني أكتب بحكم العادة، أو ربما للتاريخ، أو ربما عملاً بالحديث الشريف: من رأى منكم مكروهاً فليزله بيده، وإن لم يستطع فبلسانه...وأراني أعمل "اللسان" المقروءوفق هذا المنهج، كمساهمة متواضعة فى نشر الوعي، وذلك لعمري جهد تراكمي طويل الأجل، (كنقّاع الزير)، سيكون له أثر مفصلي طال الزمن أمقصر، عندما يتحول الكم إلى الكيف،......بيد أن ذلك يستوحب صبر سيدنا أيوب عليه السلام.
وقد انسلخ من عمري شهر إبريل المنصرم كله فى السودان، مشروخ النفس ومحزون الفؤاد بجوار شقيقي عبد السلام الذى يصغرني بست سنوات، والذى كان طريح مستشفى سليمان فضيل - إلى أن تدهورت حالته وأدخل العناية المركزة، وبعد أربعة أيام فاضت روحه الطاهرة بكل هدوء، عليه رحمات المولي عز وجل بلا حدود، وجعل الله البركة فى ذريتهوفى نسله إلى يوم الدين. وقد تجمّلنا بالصبر لما تذكرنا أبا الطيب:"فالموت آتٍ والنفوسُ نفائسٌ".....، أي أنها ودائع "عارية" من رب العالمين...يستردها كيفما وحينما يشاء، ولا راد لقضائه. وقد خففت علينا المصاب مثل هذه المعاني الأزلية السامية، بالإضافة للمواساة الدافئة واللصيقة من أهلنا القنتّاب الذين تقاطروا علينا من ذلك الصقع النائي عند منحنى النيل قبل أن يتجه شمالاً صوب مصر، ومن سنار والحصاحيصا ومدني وغيرها، ومن زملاء المرحوم بوزارة الري، ومن كافة الأصدقاء والجيران والمعارف؛ فالسودانيون كما عهدناهم دائماً وأبداً أهل عواطف جياشة وحناندافق ومروءة لا تنضب وشهامة ونخوة لا مثيل لها فى كل العالم.
ومن الطرائف التى أزالت عنا الكآبة،أن كنا نفراً قليلاً نجلس فى الصباح الباكر أمام صيوان العزاء باليوم الثالث، وعلى مسافة منا جلس إثنان من المعزّين –أحدهما متمنطق بالعمامة الناصعة البياض والشال المرتب. فجاء أحد المارة يسأل: صحى فى بكا هنا؟ فأجابه أحد الجالسين: أبداً. هنا فى صناديق تصويت، والقاعد هناك أبوعمة وشال ده المرشح. فقفز الرجل كالملدوغ: لا لا ! أنا مقاطع. فسألوه: عزاء من تريد؟ وأجاب: أنا والله ما عارف الميت منو، لكن بس جايى أصنقر معاكم شوية، أفطر وأمشى. فرحبوا به أيما ترحيب وأكرموا وفادته حتى الثمالة، وانصرف لايلوى على شيء.
وحيث أن السياسة لم تفارقنا ونحن فى بيت العزاء، فقد كان موضوع الساعة بالنسبة للسابلة القادمين من كل فج عميق هو الانتخابات التى صادفت تلك الأيام؛ وأجمع كلهم تقريباً على أن السودانيين قاطعوها بشكل حاسم وصارم، أي أنهم صوتوا بأرجلهم رافضين لها جملة وتفصيلا. وإذا سألت عن السبب يقولون لك :(فيها إنّة)، فقد جاءت فى الوقت الخطأ، وكان يجب أن تتم تتويجاً للحوار الوطني الذى دعت وروجت له الحكومة منذ أكثر من عام، والغرض من ذلك الحوار هو إشراك كل القوى السياسية فى الأمر، وتوافقها على وثيقة جديدة جامعة –استلهاماً واستكمالاً لوثيقة القضايا المصيرية التى تمخض عنها مؤتمر التجمع الوطني الديمقراطي فى أسمرا، يونيو 1995 – ويعنى ذلك فيما يعني انتخابات جديدة تشارك فيها كل القوى السياسية، قبل أو أثناء أو بعد المرحلة الانتقالية المتفق عليها. أما أن تتهافت الحكومة وتتثعلب وتتكالب على انتخابات رئاسية وبرلمانية غير متفق عليها و(مكلفتة، مثل جنين سفاح دفن بليل)،فذلك يعني أنها لا تأخذ الحوار مأخذ الجد، أو أنها قد نسيته فى غمرة سكرتها بالسلطة التى لم تفق منها حتى الآن، أو غمرة نشوتها بالمباركة التى حصلت عليها من السعودية ودول المحور المناوئ للإخوان المسلمين مؤخراً،...أو أنها من الغرور بحيث ترى أنها تستطيع أن تتلاعب بأهل السودان كيفما تشاء،...أو أنها أساساً تحكم بالحديد والنار - ولا تحتاج لأحد يمنحها مشروعية - وما شعارات الديمقراطية التى تطلقها بين الفينة والأخرى،مثلما فعلت عندما وقعت اتفاقية نيفاشا فى يناير 2005، إلا مجرد كذب ومزايدات ومناورات وتكتيكات مخادعة - كتلك التى دأبت عليها الأنظمة الشمولية بالمنطقة، أيام المشير جعفر نميري، وفى مصر السادات ومبارك، وليبيا القذافي، وعراق صدام،وسوريا البعث.
وعموماً أجريت الانتخابات، وفاز الرئيس بنسبة 94% - بكل قوة عين،...ويبدو أن هناك لاعبين مؤثرين بالمنطقة صاروا ينظرون لنظام البشير بعين الرضا، خاصة السعودية ومصر، فيما بعد اشتراك نظام البشير فى "عاصفة الحزم"، أو بسبب صفقات معينة متعلقة بمياه النيل وسد النهضة الإثيوبي، أو متعلقة بالاستثمارات الضخمة فى استصلاح البيداء السودانية وزراعتها بالأعلاف والقمح. وعندما حلقت بي الطائرة القادمة من دبي فوق البطانة كان ملفتاً للنظر اتساع مزارع الري بالتنقيط الدائرية والمربعة والمستطيلة الخضراء على طول المسافة بين نهر عطبرة والنيل، كأنها هبطت فجأة من السماء؛وما كنا نحسبه فى طور المفاوضات، بانتظار التشريعات الاستثمارية المناسبة، أصبح أمراً واقعاً منذ وقت مبكر، (أم غمتّي)، قبل أن يسمع به بنات عمه -أهل الأرض الحقيقيين. وأذكر أني كتبت مقالاً قبل عامين فى الصحف الإلكترونية بعنوان (نهب الأراضي السودانية– 15 أبريل 2013 –Sudaneseonlie)، محذراً من الصفقات المريبة التى تتم مع الرأسماليين العرب والمصريين المشبوهين، بعيداً عن أصحاب المصلحة المحليين وعن الرأي العام الرقيب والصحافة الحرة؛ وقد هاتفني أحد أبناء الشكرية من السعودية (ولا أدرى من أين حصل على رقم تلفوني) متسائلاً: "ياأستاذ، إنت قلت فى اتنين مليون فدان اشتراها السعوديون من أرض البطانة......الكلام ده صح؟"فقلت له إن المعلومات المنشورة بالمواقع والدوريات تقول بهذا الكلام. فروى لى نكتةً: "مرة فى شكرى جا المحكمة شاهداً فى قضية. قالوا له: أحلف برب السموات السبع والأراضى السبع. فأقسم بالسموات السبع ولكنه قال إن الأراضي ست فقط. قالوا له: كيف ذلك ياأخ العرب؟ فأجابهم: السابعة دى البطانة. علي الطلاق الله ما عنده فيها شبر."
وأقسم لى أنهم (قوم أبو سن) وأبناء عمومتهم البطاحين (قوم أبو حريرة) سيستردون كل هذه الأراضى فى يوم من الأيام، إذا هي فعلاً بيعت من قبل الحكومة دون مشورتهم.
وعلى الرغم من أن السودانيين قد تجاهلوا الانتخابات بصورة لا تخطئها العين، تبدو الحكومة غير منزعجة، وسادرة فى غيها رغم أنف المعارضة، متظاهرة برباطة الجأش -فهي تعول كثيراً على سطوتها الأمنية التى جربتها فى سبتمبر 2013، عندما حصبت المتظاهرين السلميين بالذخيرة الحية،shoot to kill، ولم ينجم عن تلك المجازر أي مساءلة أو احتجاجات أو قضايا تعويض، ومرت المحنة كسحابة صيف تقشعت وتبخرت إلى غير رجعة. وما زالت أجهزة الأمن تمثل دور ال BIG BROTHER المهيمن على الشارع السوداني. وأذكر أني سألت الأستاذ فاروق أبو عيسي عندما زرته بمنزله بضاحية الرياض بعد إطلاق سراحه: " من يحكم السودان يا مولانا؟ أي اللوبيات وأي الأسر وأي القبائل وأي الزوجات؟" .............فأجابني بلا تردد، بكلمة واحدة: "الأمن."
ولقد استضافني هذا الجهاز المهيمن الجبار مرتين فى أول يومين لى بالخرطوم؛ استوقفوني لبعض الوقت بالمطار، وأفرجوا عنى بعد وساطة شديدة اللهجة من قريب لييعمل بالمطار....رجاهم أن يتركوني أذهب لمعايدة شقيقي بالمستشفى، ملتزماً بأن يحضرني لهم فى العاشرة من صباح اليوم التالي بمكاتبهم بموقف شندى بالخرطوم بحرى. وقد التفت نحوي ضابط أمن المطار قائلاً بكمية هائلة من التعالي: "طبعاً بتعرف مكاتبنا فى بحري؟ لا بد أنك زرتنا قبل كده؟" فقلت له: (لم يحصل لي الشرف، ولكني سمعت بها، كما سمع بها أناس كثيرون غيري). فقال: "غريبة! غايتو، مرحباً بك فى إدارة الشؤون السياسية والاجتماعية، وكده." وصادر جوازي وهاتفي النقال، (ولم يرجعوهما لي إلا بعد عشرة أيام). وفى مكاتب موقف شندى تم التحقيق معى فى اليوم التالي حول أنشطتي السياسية والفكرية عبر الإعلام أثناء إقامتي التى دامت لربع قرن كامل بالإمارات العربية المتحدة. ولم يخل الضابط المحقق من بعض الكياسة والتهذيب، ولكن الأسئلة كانت ركيكة وبيروقراطية ومملة: ما اسم أمك وخالاتك وأخوالك وأعمامك وإخوانك وأبنائك وأصدقائك...إلخ؟ وأسئلة أخرى كثيرة لو كان لديه قوقل لوجد الإجابة عليها، فلا أدرى لماذا أضاع وقته ووقتي ووقت الحكومة السنية؟ وبعد حوالي ساعتين أخلوا سبيلي، وامتطيت "أمجاداً" مهترئة حملتني إلى مستشفى فضيل.
مهما يكن من أمر فإني لا أريد أن أسهب فى مسألة توقيفي بجهاز الأمن، لأني لا أريد أن أدعى بطولة فى غير موضعها، وهي مجرد سويعات، بينما بقي صديقي الأستاذ فاروق أبو عيسي بصحبتهم لعدة شهور - وهو شيخ ثمانيني، لم يرتكب جنحة غير موقف وطني مشرّف متعلق بتوحيد كلمة أهل السودان للخروج من النفق المظلم الحالي.
والمهم فى الأمر هو شأن السودان: ما آلت إليه الأوضاع، واحتمالات التغيير السياسي: سلمياً....أو بالوسائل الأخرى، حسبما سمعت ورأيت منذ أول إبريل:
• يشهد الله وخلقه أن السودان يمر بأسوأ حالاته منذ نيف وقرن، ولا شبيه لأوضاعه إلا سنوات حكم الخليفة عبد الله التعايشي (1885 – 1899)، حينما تحرش بجيرانه إثيوبيا ومصر (باعثاً تجريدة للأولى بقيادة حمدان أبو عنجة ثم الزاكي طمل – وللثانية بقيادة عبد الرحمن النجومي) بينما بلاده تمر بمجاعة خفضت عدد السكان من تسعة إلى ثلاثة ملايين فقط، وتوقف الإنتاج الزراعي تماماً، وانطلق "الجهادية" يبطشون بأهل السودان، مثل إنكشارية العهد التركي وجنجويد اليوم (قوات الدعم السريع). ولقد استفرد الخليفة بالحكم بعد أن تخلص من كل منافسيه من آل المهدي والأشراف وكبار الأنصار وزعماء القبائل والقادة العسكريين مثل الأمير عبد الرحمن النجومي – الذى قتل فى توشكي بالتخوم المصرية - وحمدان أبو عنجة والزاكي طمل رغم بلائهما ضد الأحباش. وما كان أمام الأسرة الدولية آنئذ، ممثلة فى الإمبراطورية البريطانية المتحالفة مع السلطان التركي وواليه بمصر، إلا أن تغزو السودان عام 1897 وتخضعه لاستعمار دام نيفاً وخمسين عاماً.
• النظام الراهن فى السودان يرفع نفس شعارات المهدية الثيوقراطية، متدثراً بغطاء ديني مخادع، من شريعة وجهاد أممي هادف إلى فرض خلافة إسلامية جديدة متمركزة فى الشرق الأوسط ومتجهة نحو العالم كله بغية إخضاعه لإرادتها. ولكنه هذه المرة، بخلاف حكم الخليفة عبد الله المعزول والمتقوقع، نظام مؤدلج ومنفتح على قوة عالمية تسمي "تنظيم الإخوان المسلمين الدولي"، له تجلياته المزعجة للغاية فى سوريا وشمال العراق (داعش) وفى سيناء وليبيا ونيجريا وبلدان الصحراء الكبري بشمال إفريقيا وجنوب اليمن والصومال وأفغانستان.....ومن خلفه دولة عما قريب ستصبح نوويه، إيران؛ وأخري نفطية / غازية مترعة بالريالات البترولية رغم صغر حجمها، قطر- (مهد قناة الجزيرة والقرضاوي).
• القوى الشرق أوسطية المتحفظة ضد الإخوان المسلمين، (ورغم ذلك انطلي عليها النظام السوداني، فآخته وأفردت له جناح المودة والرحمة)، إنما تتبع منهجنيفيل تشامبرلين رئيس وزراء بريطانيا المحافظ عام 1938 الذى وسوس له شيطان ذلك الزمان - أدولف هتلر - وأوقعه فى حبائله، واجتذبه إلى ميونيخ ليوقع اتفاقية ثنائية تعهد بموجبها الرئيس البريطاني بأنيغض الطرف إذا اجتاحت الجيوش النازية إقليم بلزن بغرب تشيكوسلوفاكيا –"المأهول بالأقلية الألمانية والواقع على الحدود بينها وبين ألمانيا، والذى أضافته إتفاقية فرساي بعد الحرب الكونية الأولي إلى تشيكوسلوفاكيا، وأصبح واحدة من الظلامات التى تعرضت لها ألمانيا المهزومة فى تلك الحرب "–،...ولكن هتلر اعتبر ذلك ضوءً أخضراً يسمح له بالعبث بالدول المحيطة به كما يشاء، فاجتاحت جيوشه بعد اتفاقية ميونيخ ببضع شهور ليس إقليم بلزن وحده، إنما تشيكوسلوفاكيا بقضها وقضيضها، ومن بعدها النمسا، ثم انعطف غرباً نحو باقى الدول الأوروبية، وشرقاً نحو بولندا...ومن بعدها الاتحاد السوفيتي (العظيم).إن أي appeasement أو انبطاح أمام فلول التطرف مثل النظام السوداني، له عواقب وخيمة لن تنتظر طويلاً حتى تطفو على السطح، مهما كانت مغريات الأراضي الشاسعة بفيافي البطانة التى ولغ فيها الرأسماليون المتخمون بالدولار النفطي.
• منحت هذه الدول المتعاطفة نظام البشير الإخواني حفنات من العملة الصعبة وجرعات من الدعم الاستخباراتي واللوجستي قوّت مناعته ضد الخصوم السياسيين وزادت غروره وجعلته يزدرى المعارضة ويضرب عنها صفحاً ويستمر فى الحكم بالطريقة التى درج عليها طوال ربع القرن المنصرم.... ويطغي ويستكبر.
• غير أن الأوضاع التى يمر بها السودان لن تصمد طويلاً -فالمحك الحقيقي هو الإقتصاد: وإذا استثنينا الهبات والقروض والودائع القادمة من هذه الدول التى صادقت نظام البشير مؤخراً، ماذا لدى السودان من دعائم ومداميك اقتصادية؟ ماذا ينتج وماذا يصدّر لكي يجلب العملة الصعبة ويصلح من شأن الميزان التجاري؟ أين القطن والصمغ العربي والكركدى والحبوب الزيتية والأمباز والفتريتة (ألتى يفضلها الطليان لصناعة أجود أنواع البيرة) والأخشاب والماشية والتمور (القنديلة والبركاوي) والفواكه الأورقانيك، أي غير المسمدة بالكيماويات....إلخ؟ لقد توقف كل ذلك، باستثناء جعل ضئيل يتسرب عن طريق التهريب إلى مصر وتشاد وإثيوبيا وإرتريا، ومن هناك يتم تصديره لصالح الميزان التجاري لتلك الدول. وإنك لتعجب، على أي شيء يعتمد الاقتصاد السوداني هذه الأيام؟! ما هي موارد البلاد الرئيسة بعد أن ذهب 90% من النفط لأربابه الجنوبيين؟ وهذه البنود الهائلة من الصرف الحكومي على أجهزتها وجيشها وأمنها وحروبها المتعددة بأواسط وجنوب وغرب السودان، كيف تغطيها؟ من أين لها بتكلفة هذه المعامع التى تربو على الخمسة ملايين دولار فى اليوم؟ هذه أوضاع تشبه الحالة المتردية التي مرت بها إلمانيا فى مطلع ثلاثينات القرن العشرين، والتى اعتلى النازيون السلطة فى غمرتها عام 1933. وفى حقيقة الأمر، تبدو البلاد كشخص ينخر الداء فى عظامه وأحشائه الداخلية، بينما لا تظهر عليه سيماء المرض بوضوح كاف، ولكنه على كل حال يتوقف عن الحياة فجأة وسط ذهول المحيطين به. هذا، ولقد أعلن العلامة البروف حيدر إبراهيم علي فى آخر مقال له وفاة السودان، وطالب بأن نفكر فى دفنه بصورة لائقة.
• ومما يغري حكومة البشير بمواصلة مسيرتها المدمرة الفاشلة....ضعف المعارضة واستكانتها – هذا ما يتفق عليه القاصي والداني؛ فمنها من يمم وجهه شطر المؤتمر الوطني وتماهى مع سياساته وتكتيكاته لدرجة الاندغام و (الاندماج)، مثل الاتحادي الديمقراطي بكافة فروعه، باستثناء على محمود حسنين الذى يؤذن فى مالطا إسمها سوانزى (بويلز بالمملكة المتحدة)، وطوراً قاهرة المعز (التى لا تبارك نشاطه تماماً - لحاجة فى نفس يعقوب). وآخر هذه التيارات هو الحزب الإتحادي (الأصل) الذى انبرى لقيادته السيد محمد الحسن الميرغني؛ وهذا الشاب حيرني كما حير جميع الاتحاديين الذين لقيتهم فى السودان. لقد كان فى أول أمره واعداً ومدهشاً للغاية عندما زار أبوظبى في صحبة عمه السيد أحمد عليه رحمة الله قبل حوالي عشر سنوات؛ إذ رأيته فى النادى السوداني يرتدى بنطال جينز ولا يهتم بالبروتوكولات الطائفية، ويبحث عن المثقفين العاديين، وعن غمار الناس وأبناء الكادحين من أمثالنا، ويتبسط معهم لأقصي درجة، ويستمع أكثر مما يتكلم. ووجدنا لديه رؤية تقدمية حول إصلاح الحزب وحول كافة قضايا النضال من أجل التغيير على مستوى الوطن والسير به نحو الديمقراطية الحقيقية والتقدم الإقتصادي والتحول الاجتماعي. ثم سمعنا بعد ذلك أنه كان يقف على الجانب الصحيح من التاريخ، معارضاً لأي اشتراك فى حكومة الإخوان المسلمين، ومصراً على المثابرة فى معارضتها مهما كانت التضحيات ومهما طال الزمن، وسمعنا أن هذا الموقف أغضب عليه والده فنفاه إلى مصر حيث أقام فى فيلا الميرغني بمصر الجديدة. وهناك زرته فى رمضان 2013 بنصيحة من صديقي حاتم السر علي، وجلست معه منفرداً لثلاث ساعات، وتسامرنا حول كل الأوضاع السودانية، وتأكدت من موقفه الوطني الرافض لدكتاتورية الإخوان المسلمين مهما لونت وجهها ومهما انطلت على الآخرين، واتفقنا على ضرورة تفعيل القواعد وتنشيط الكوادر الحزبية الوسطية، وضرورة تنظيم ورش عمل مضغوطة تزودها بالمعرفة اللازمة بتاريخ السودان، وبالفكر الليبرالي الديمقراطي، وبتجليات "نهاية التاريخ"، وبحقيقة الدعاوى الفاشية والإسلاموية المتطرفة، وبأصول التنظيم الحزبي واللوائح الداخلية والتجنيد والدعاية السياسية والخطابة والكتابة...إلخ. ولقد خرجت مبهوراً من ذلك اللقاء، وظننت أن الراحل الشريف حسين الهندي قد بان له خلف بالحزب الإتحادي الديمقراطي، إسمه الحسن.
• وفجأة، ظهر السيد الحسن فى الساحة الإتحادية هذا العام بقناع جديد وجلباب آخر غير الذى رأيته فيه بمصر الجديدة، وأحاط نفسه بنفر من الفاقد التربوي الذين لم يسمع بهم أحد من قبل، وانقلب على زعماء الحزب المعتقين الذين كانوا عوناً ثابتاً ومستديماً للسيد محمد عثمان الميرغني طوال فترة التجمع الوطني الديمقراطي، وكلهم معروفون بعلوّ الكعب السياسي والمهني وطهارة اليد وعفة اللسان، واستبدلهم ب"المقرّدة" والمنعرجة والنطيحة وما أكل السبع. وحيث أن الإناء بما فيه ينضح، لم يأت المستشارون الجدد ولم يتواطأوا مع السيد الحسن إلا على أكثر المواقف خطلاً فى تاريخ الحزب كله: فقد شاركوا فى انتخابات قاطعها الشعب عن بكرة أبيه، وانجروا وراء مخططات المؤتمر الوطني برمتها دون أي تحفظ أو كرامة أو احترام للنفس، كمن يمشي مكباً على وجهه، ووافقوا علي النزول فى العدد الضئيل من الدوائر التى خصصت لهم- (سقط المتاع)؛ ولما عزف عنهم الوطنيون النظيفون، بحثوا فى مواخير المدينة عن مدمني الخمر والمخدرات (شلل الكورة والغرزات)، واصطفوا منها ثلة من المستوزرين...لهم بريق إعلامي، ولكنهم فى درك سحيق من الجهل السياسي، ولديهم قابلية لخيانة الوطن وللاستفادة من الجهاز التشريعي والتنفيذي لخدمة المصالح الذاتية...ولاستحلاب جهاز الدولة بأكثر مما فعل أسلافهم ورصفاؤهم الجدد - الإسلاميون وعصابات المؤتمر الوطني.
• ماذا حدث للسيد الحسن؟ حاولت أن أقابله فى الخرطوم بأواخر إبريل، ولكنه لم يعد من سفرته المفاجئة إلا بعد مغادرتي، وتركت له نسخة من كتابي (السودان فى عام)، متمنياً أن ينفتح سيادته على مثل هذا النوع من الحوارات. إن السير خلف بريق السلطة التى يتربع عليها الإخوان المسلمون، لا يشبه إلا السير خلف (الفكي أبو لمبة) أو (أم سيرو)، وهي زفة من الجن قد تلقاك فى عرض الخلاء، وتحسبها عرساً لبنى آدمين، وإذا صحبتهم لآخر المشوار فإنك ستجد نفسك فى عالم آخر، عالم "البسم الله"، وبه العياذ.
• يقول المحللون (الدكاكينيون) أن السيد الحسن خضع لضغوط مكثفة من والده، وقد رضخ لها – ربما انحناءً للعاصفة حتى يتمكن، ثم يخرج بشخصيته الحقيقية التى عرفها كل من صادفه خلال العشر سنوات الأخيرة. ويقول آخرون إن السيد محمد عثمان باع القضية بالمرة literally - وهنالك من الخلفاء المقيمين بالخليج من يؤكد أن آخر دفعية كانت خمسة عشرة مليون دولار قبيل الانتخابات، ذهبت خمسة منها للحسن لتمويل الحملة الانتخابية. وبما أن الأدلة المادية شحيحة، يكتفى المحللون بالدخان الذى رأوه يتصاعد من فوهة المسدس.
• ويتساءل المراقبون: أين يقف السيد محمد عثمان من كل ما جرى فى الآونة الأخيرة؟ إن الإشاعات التى سرت حول اعتلال صحته ليست صحيحة، وأقسم بالحق عز وجل أنه بحمد الله فى أتم عافية جسمية وعقلية، وعلى اتصال هاتفي يومي برهطه وخلفائه فى "أبو جلابية" ببحري وفى الخرطوم، وفى دبي. فلماذا كل هذا الصمت الرهيب؟ إنه أحد ألغاز السياسة فى السودان الذى يحتاج لمنجمين أو لقوى ميتافيزيقية خارقة تفك طلاسمه. إننى شخصياً لا أدرى ما السر فى انزواء مولانا فى هذا الظرف الدقيق من تاريخ الوطن، ولدي حلم بأن مولانا ينطوى على مفاجأة ما، فقد سمعت قبل فترة وجيزة أنه اجتمع مطولاً ببعض قادة الحركات المسلحة الدارفورية.....أم لعلها مجرد أضغاث أحلام. مهما يكن، فإن مولانا لو استمر فى هذا الموقف العجيب فعلى حزبه السلام. أما السودان، فله رب يحميه، وله شعب يعرف كيف يتخلص من الطغاة، فى الوقت المناسب. أما صمت الشعب السوداني الراهن، فهو صمت كاظم، فى جوفه قنبلة ناسفة، كما قال الشاعر الفحل عالم عباس فى قصيدته التى ألقاها بمناسبة جائزة الطيب صالح قبل بضع شهور، على مسمع ومرآى من بعض رموز النظام الذين بدت وجوههم عابسة مكفهرة، وبدوا كأنهم يتحسسون حبال المشانق حول أعناقهم، كأنها التفت بالفعل:
• قال عالم عباس، لا فض فوه:
هدوءٌ،ولكنه عاصفةْ.
هدوءٌ،
وفي صمته الكاظم منغيظه
قنبلةٌ ناسفةْ.
هدوءٌ،
يهندس في السرِّ
ذرّاتِوثبته،
ومجرّاتِثورته،
واكتساحَجحافلهالجارفةْ.
هدوءٌ
يدَمْدِمُغَضْبتَهُ،ويُكوّرُقَبْضَتَهُ
ويدوْزِنُأوتارَحناجرِهِالهاتِفةْ.
هدوءٌ،
يسطّراشعارمسيرتهالعارفةْ
ويرتّبُللنصرعبرصفوفكتائبهالزاحفة.
هدوءٌ،
يكدّسالرعدَوالبَرْقَضمّادةً
فوقشرايينهالراعفة.
هدوءٌ،
ليملأعينيهمنخناجرجلادهالنازفةْ.
هدوءٌ،
يُحَفّزُخَيْلَالوُثُوبِ،
بِمِهْمَازِهَبّتِهالهادفةْ.
هدوءٌصَمُوتٌليكبُتثرثرةَالمُرْجفينَ،
ويَفْضَحُعُرْيَالمُرائين،
علَىوَهْجِنيرانهاالكاشفةْ.
هدوءٌ،
يُخاتِلُعُذْرَالتأنِّي،
وغَدْرَجَلاوِذَةِالأمْنِ،
إفْكَالدجاجلةالملتحين،
ذويالسحنةالزائفةْ.
هدوءٌ،
وتحسبههدْأةالموت،
لكنّهاالآزفةْ،
ستتْبعُهاالرادفة.
فلاهجعتتلكمُالأنفسالخائراتُ
ولاوهنتجذوةُالرفضفينا،
ولانامتالأعينُالخائفةْ.
(2)
ياسهادَالدفاتِرِفيليلةالصَّمْتِ،
والشعراءُالخليّونَناموا.
ياصراخَالقوافِيالحبيسةِمابيناقلامِهم،
واصْطِخابِمحابِرِهِمْ،حيثقاموا.
ياارْتِعاشَالتَّمَرُّدِفيالدمِّيغلي،
فلايستقرُّإلىأنيقرَّالسلامُ.
إلىأنْيًقامَالقِصاصعلىساحةٍالعَدْلِبالْقِسْطِ،
لايَتَفَلَّتُجانٍ،
ولايعْتَرِيالمُنْصِفينانْهِزامُ.
هدوءٌ،يُبَدّدُوحشَتَهُ،
ويُحَدّدُوجْهتَهُ،
ويُزَلْزِلُعرْشَالبُغَاةِ،يَدُكُّصَياصِيَهُمْ،
حيثحَلّواوحيثأقاموا.
هدوءٌ،تبرْكَنَيغلي،
يُؤَكِّدُأنَّالطواغيتَوَهْمٌ،
وأنَّدمَالأبْرِياءِحرامُ.والسلام.
fdil.abbas@gmail.com
/////////////