عندما يتحول الإصلاح الديني الي عمل مخابراتي قذر

 


 

 

 

طرحت في مقال سابق في صحيفة (السوداني) عن نهاية الاسلام السياسي سؤْال افتراضي: هل تعتبر السلفية الجهادية اعلي درجات الاسلام السياسي ام انها انحراف عن مسار حركات الاصلاح السياسي التاريخية التي اعتمدت الوسطية والنهج المتدرج والمغالبة السياسية والفكرية وسيلة لتحقيق أهدافها وغاياتها؟

فتحت دورية فورن افيرز (السياسة الخارجية) بابا للحوار والنقاش حول عملية الاصلاح الديني في الاسلام لمحاربة التطرّف السلفي والجهادي، وأجرت مناظرة قلمية بين الناشطة الهولندية الجنسية الصومالية الأصل والأمريكية الإقامة أيان حرصي علي زميلة مدرسة الحكم بجامعة هارفاد وبين وليم ماكانت مستشار وزير الخارجية الامريكي الأسبق للعنف المتطرف وزميل مركز الشرق الأوسط بمعهد بروكنزبواشنطون. وتبنت أيان حرصي علي التي صدرت عدة فتاوي بتكفيرها دعوة الادارة الامريكية لتمويل برامج عبر المخابرات الامريكية لدعم عملية الاصلاح الديني في الاسلام ورفضت مصطلح الادارة الامريكية عن محاربة العنف المتطرف واقترحت بدلا عنه محاربة المجموعات الاسلامية المتطرفة، وذلك ما اشارت له صحيفة النيويورك تايمزالاسبوع الماضي عن انقسام الادارة الامريكية بشأن تعريف العدو الاول لامريكا هل هو القاعدة ام دولة الخلاف (داعش)؟.

تري أيان حرصي ان مشكلة التطرّف في الاسلام نابعة  من التراث الإسلامي عامة ومن القران والسنة علي وجه الخصوص بإعتبارهما المصدرين الأساسين في الإسلام وان اي سياسة غربية  تهدف لمحاربة التطرّف الجهادي لا بد ان تبدأ بتطهير القرآن من آيات الجهاد وتنظيف التراث الاسلامي من النزعة التكفيرية ضد الآخر. وأجمعت عدة مراكز بحثية في أمريكا منها معهد بروكنز علي ذات ما ظلت تنادي به أيان حرصي بضرورة مواجهة الاسلام كأيدولوجيا مهما تكن العواقب. وان مواجهة الاصولية والتطرف الاسلامي لا بد ان يواجه بدعم التيارات الإصلاحية المتصالحة مع الغرب  سواء كان ذلك مجموعات صوفية او نخب علمانية، ولا يعني بالطبع دعم تلكالمجموعات الإصلاحية بمثابة اعلان حرب دينية علي الاسلام بقدر ما هو دعم بالمقدرات والأفكار والوسائل والأموال لتيارات الإصلاح الديني التي تعارض تطبيق الشريعة وإعطاء حقوق المرأة و والأقليات غيرها. وللأسف تدعو أيان حرصي ومن هم علي شاكلتها من المنتمين الي تيارها الفكري للإستعانة بوسائل المخابرات لتطبيق ذات الوسائل التي اعتمدتها واشنطون  من قبل لمحاصرة واحتواء المد الشيوعي اثناء الحرب الباردة والتي تتمثل في تأسيس منابر حوار وبرامج أكاديمية وتبادل ثقافي وصحف ومجلات ومنشورات بمختلف اللغات الاسلامية و محطات إذاعة وقنوات تلفزيونية. ويفترض هذا الزعم السطحي ان الاسلام كأيدولوجيا مغلقة يحتاج الي إصلاح جذري في جوهر تراثه الروحي المكتوب بما في ذلك مراجعة النص القراني وحذف آيات الجهاد وإعادة تأويلها لدعم التعايش السلمي كما حدث للديانتين المسيحية واليهودية. ولعل استلهام الوسائل السابقة المستخدمة لاحتواء الاتحاد السوفيتي والمد الشيوعي يفتح أبواب مواجهات جديدة بين المسلمين أنفسهم، اي بين ما يسمي دعاة الإصلاح والاستنارة من التيار الليبرالي العلماني وبين الاصوليين المتطرفين ومنسوبي السلفية الجهادية.

وكما ذكرت في مقال سابق فان هذا النوع المشبوه من الطرح الفكري الملتبس يريد ان يحول مجهودات الإصلاح الديني في العالم الاسلامي الي عمل مخابراتي قذر لإستعانته بذات الوسائل التي تم تطبيقها من قبل لتدمير الاتحاد السوفيتي ومحاصرة المد الشيوعي اثناء الحرب الباردة عن طريق وكالة المخابرات المركزية.

في مقابل هذا الطرح المتطرف  وفي إطار هذه المناظرة القلمية قدم وليم ماكانت مستشار وزير الخارجية الامريكي الاسبق للعنف المتطرف والباحث في معهد بروكنزطرحا منصفا مقابل موقف ايان حرصي مؤكدا ان المشكلة ليست في التراث الاسلامي ولا في المصادر الاساسية من قرآن وسنة وأن مقترح استخدام وسائل سياسية ومالية ومخابراتية لدعم عملية الاصلاح الاسلامي لمحاربة التطرّف تبدو فكرة غبية وغير واقعية لان السلوك السياسي للمسلمين عبر التاريخ اختلف من حين الي آخر حسب السياقات والتحديات التاريخية. فبعض الجماعات تنشر رسالة السلام والتسامح من خلال اقتباس ذات النصوص القرآنية. كما ان الذين اتبعوا التطرّف والعنف اعتمدوا علي ذات الاقتباسات من نصوص القرآن الكريم لذا فان دعم المجموعات التي تنادي بالإصلاح ونمط الاسلام الليبرالي لن يوقف الهجمات الجهادية. وذلك لوجود حركات إصلاح اخري داخل التيار الاصولي المحافظ تنافس التيار الليبرالي الذي لا يرتكز علي قاعدة ثابتة من الأيدلوجيا والجمهور ما عدا التماهي مع أهداف الدول الغربية التي ترغب في محاربة التطرّف الاسلامي بوسائل من داخل الاسلام. وكما قال وليم ماكانت فان ما تنادي به أيان حرصي من دعوة الدول الغربية لدعم تيار الاصلاح الليبرالي داخل الاسلام لموازنة دعم دول الخليج الغنية للتيار السلفي في العالم الاسلامي يعتبر تفكير خاطيء.

ويري وليم ماكانت ان الدستور الامريكي لا يسمح للجهاز التنفيذي بتخصيص دعم مادي وسياسي لتيار ديني محدد  علي حساب الديانات والتيارات الآخري لأنه يعتبر خرق بين لمباديء علمانية الدولة التي تساوي بين الأديان، منتقدا الدعم الذي قدمته وكالة التنمية الامريكية لتعزيز عملية الاصلاح الاسلامي الليبرالي لبعض المؤسسات والبرامج الإعلامية  خاصة في اندونيسيا وبعض الدول الآخري.

وألقي وليم ماكانت حجة قوية في وجه التيار المنادي بدعم تيار الاصلاح الليبرالي في الاسلام بواسطة وسائل الدعم المالي والسياسي وبرامج المخابرات المختلفة وقال انه حتي لو قررت الادارة الامريكية تقديم دعم لتيارات الاصلاح الليبرالي في الاسلام فمن تدعم؟ وذلك لوجود عدد كبير من المجموعات الناشطة في هذا الصدد، وأقوي ما قاله وليم ماكانت ان هذه التيارات الليبرالية وهي بطبيعتها علمانية داخل الاسلام لا تقوي علي المنافسة مع حركات الاصلاح المحافظة وتريد من الدول الغربية والسلطة السياسية العلمانية في العالم الاسلامي ان تغلق الباب في وجه هذه التيارات المحافظة وأن توفر لها الحماية وتفتح لها الطريق لتعمل لوحدها وسط الجماهير المسلمة دون منافسة حقيقية من التيارات المحافظة. وهذا توجه بطبعه دكتاتوري لان تيارات الاصلاح الليبرالي لا تقوي علي المنافسة الحرة في سوق الأفكار من اجل الاصلاح. وهذا التوجه كما سماه وليم ماكنت ليس  توجها ليبراليا لكنه توجه ديكتاتوري في لبوس ليبرالي وهذا لن يستطيع ان يقنع احدا. كما ان بعض المعنيين بالإصلاح الليبرالي يبحثون عن الشهرة والمال والمكانة الاجتماعية.

ويقرر ماكانت ان رحلة البحث عن مارتن لوثر مسلم من داخل تيارات الاصلاح الليبرالي الاسلامي ويحظي بدعم الدول الغربية   لن يجد حظا من النجاح والقبول وسط الجماهير المسلمة لشبهة الحصول علي دعم مالي من الدول الغربية مما يعتبر اتهاما غليظا لإعادة  انتاج  الاستعمار بوسائل اخري. ويقترح وليم ماكانت ان تدعم الجماهير المسلمة حركات الاسلام الليبرالي من حر مالها لا ان تعتمد علي الدعم الغربي، لأنه سينزع منها الشرعية بل ويتهمها بالعمالة من اجل تدمير الاسلام بدعم غربي، ولعل اهم ما أشار اليه ايضا هو ان تتم عملية الاصلاح خارج السياق الديني بالتركيز علي قيم الحريات الاساسية مثل حقوق الانسان وغيرها، خاصة وان العالم الاسلامي انهي ممارسة الرّق دون الحاجة الي إصلاح ديني. عليه لا يشترط لعملية الاصلاح الديني ان تتم من داخل الظاهرة الدينية بل من خارجها تماما فاحترام الحريات الاساسية وحقوق الانسان تقود بطبيعة الحال الي إصلاح ديني دون ان نسميه او ان يستفز مشاعر المسلمين.

وفي ختام مناظرته القلمية يري وليم ماكانت ان ما دعت اليه أيان حرصي بتوفير الدعم الغربي لمفكري وتيارات الاسلام الليبرالي لإنجاز مهام الاصلاح الديني كما فعلت أمريكا اثناء الحرب الباردة لمحاربة المد الشيوعي واضعاف الامبراطورية السوفيتية يعتبر قياسا خاطئا لان أمريكا لم تكن تهدف الي اصلاح الماركسية او الشيوعية بل كانت تسعي لتدميرها والقضاء عليها بجميع الوسائل الإقتصادية والسياسية والمخابراتية. اما الاصلاح الاسلامي فلا بد ان يتأسس علي حركة ذاتية تنبع من داخل الاسلام لا بدعم خارجي باستخدام السند المالي والدعم المخابراتي بالوسائل والبرامج والسياسات ، ولعل الخطأ الأكبر لمعظم الباحثين الغربيين هي المساواة بين السلفية الجهادية وحركات الاصلاح المحافظة لأن الاخيرة تجد دعما جماهيريا وقبولًا متعاظما كل يوم بينما ينخفض التعاطف مع تفجيرات السلفية الجهادية في العواصم العربية كل يوم ايضا. وعلي الولايات المتحدة واجهزةمخابراتها كما قال وليم ماكنت الخروج من اصطناع الدعم لحركات الاصلاح الليبرالي وهي حركات علمانية بطبيعتها والعمل علي منح كل التيارات المتنافسة في سوق الاصلاح الديني حرية تامة وفرص متساوية وعدم الالتفات لصيحات الليبراليين في العالم الاسلامي والعربي كما تم في مصر بخنق وكبت صوت تيارات الاصلاح المحافظة ، لأن هذا يعني تركيز تيارات دكتاتورية في لبوس ليبرالي لا تقوي علي المنافسة الحرة في سوق الأفكار والإصلاح الديني في الاسلام.

ان المناداة باتباع اُسلوب الحرب الباردة بتغذية تيارات الاصلاح الليبرالي لمحاربة التطرّف الاسلامي بالدعم المالي والسند السياسي عن طريق برامج المخابرات لهو رهان خاسر لان الاصلاح عملية تفاعلية لا بد ان  تتم بارادة ذاتية وتبع من الداخل كاستجابة طبيعية لتحديات الواقع وان تنهض بها نخب وطلائع تحظي بالثقة والمصداقية والشرعية. اما البحث عن مارتن لوثر من تيارات الاصلاح الليبرالي ودعمه بالمال وبرامج المخابرات والسند السياسي الغربي سيقود حتما وفعلا لتعميق رسالة التطرّف والترويج لها لأن ما تنادي به أيان حرصي علي هو اعادة توطين الاستعمار بوسائل جديدة يشعل المنطقة ويعمق الأزمة اكثر من ان يسهم في حلها.  

khaliddafalla@gmail.com

 

آراء