دبيب النمل الصيني في إفريقيا

 


 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

بمناسبة زيارة الرئيس السوداني عمر البشير للصين هذه الأيام فقد تذكرت أني كنت قد نشرت بالصحف الإسفيرية ورقة بعنوان "التغلغل الصيني في إفريقيا" فى 25 مارس 2013، ووجدت أنها ما زالت طازجة وقد تساهم فى التعرف على حقيقة الصين "الجديدة" التى تلبست دور الاستعمار التقليدي. وقد أضفت لها طرفة عندما ضمنتها الكتاب "السودان فى عام" الصادر بالعام المنصرم، فحواها:

(فى مطلع خمسينات القرن العشرين، أيام الكفاح ضد الإستعمار البريطاني، سأل إعرابي رزيقي قريبه الدكتور عقيل أحمد عقيل:

آلدكتور! الإنجليز دول أبوهم آدم وأمهم حواء زينا كي؟

أجابه الدكتور:

كوْ! دول أمهم عظرميت الجنية خادم سيدنا سليمان.

فقال الإعرابي: الكترابل! الخادم طلقت فينا الشنين.)

  والشنين هو النمل الأحمر، ونحن الآن بصدد النمل الصيني الأصفر الزاحف على إفريقيا.     فإلي المقال السابق:     التغلغل الصيني في إفريقيا:

الفاضل عباس محمد علي

العلاقات الصينية الإفريقية ليست ضاربة الجذور فى التاريخالإفريقي، باستثناء بعض الملامسات: مثل طريق الحرير فى سابق الأزمانالذى كان يربط بين الصين وصنعاء باليمن، ويحمل البضائع الصينيةكالحرير والمنتجات الخزفية، والتى كانت تجد طريقها لبعض الممالكالإفريقية القديمة؛ ومثل الملامسات المسجلة بكتب التراث كرحلات إبن بطوطةالذى جاء من المغرب فى القرن الرابع عشر الميلادي وانتهي به المقام فىالصين عام 1345 سفيراً لمملكة هندية مسلمة، وهناك أقام لتسع سنوات؛ومثل بعض البعثات التجارية البحرية الصينية التى وصلت إلي شرقإفريقيا فى القرن الخامس عشر الميلادي.

بيد أن العلاقات السياسية والإقتصادية ذات الأهمية بين الصينوإفريقيا بدأت بعد انتصار الثورة الشيوعية الماوتسي تونجية فى بكين عام1949، حيث شرعت الصين الجديدة فى دعم حركات التحرر الإفريقية كجزءمن الحرب الباردة، بإعتبار الإمبريالية الغربية عدواً مشتركاً بين الصين التىتحررت لتوها وبين الدول الإفريقية التى ظلت ترزح تحت الاستعمار، أوالتى نالت استقلالها مؤخراً. وبدأت الصين تبادلاً دبلوماسياً رسمياً معمصر عبد الناصر والجزائر والسودان وغينيا والصومال والمغرب فىستينات القرن العشرين، كما دعمت حركات التحرر فى روديسيا (زمبابوي) وجنوب إفريقيا وإرتريا منذ تلك الحقبة. وكانت المساعدات الإقتصادية التىتقدم لبعض الدول الإفريقية لا تستهدف أكثر من الدعاية السياسية ورفعشأن الصين، إذ أن الصين نفسها كانت تعتبر من دول العالم الثالث؛ ومثاللمساعداتها للدول الصديقة ما قدمته للسودان عام 1973 إبان حكم النميري،وهو  قاعة الصداقة لصينية السودانية بالأسكلا فى الخرطوم: عبارة عنمجمع ثقافي به مسرح وقاعات متنوعة وسينما ومكاتب حكومية،...وتشييدجسر على النيل الأزرق بودمدني، وبعض فرق طب الوخز بالإبر، كمنحة منالحكومة الصينية.

ولقد شكلت زيارة الرئيس الأمريكي رتشارد نكسون للصين فى فبراير1972 بداية لانفتاح الأخيرة علي الغرب، ولنجاحها بعد ذلك ببضع سنواتفى الحصول علي مرتبة الشريك التجاري المفضل لدي الولايات المتحدة، مماساهم فى تحسين الميزان التجاري الصيني، وجعل البضائع الصينيةتنافس فى الأسواق الأمريكية، وفى الغرب كله بعد ذلك، وقد أدي ذلك الوضعلبناء تراكمات هائلة من الأرصدة لصالح الصين بالعملات الصعبة. ومعصعود نجم الرئيس دنغ شياو بنغ ونظريته "السياسة الجديدة" عام 1978،اتجهت الصين نحو التطور الرأسمالي الجزئي والمعاملات التجارية الدوليةوفق مفهوم رأسمالي، مع الإبقاء على الحزب الشيوعي الحاكم... فى مزاوجةبين النظامين – توجيه الدولة وسيطرتها علي الاقتصاد، ونموذج اقتصادياتالسوق - كتجربة فريدة فى العالم؛ وصارت الصين تتحرك فى إفريقيا ليسبالدافع الإيديولوجي...ولكن وفق العامل الجيو اقتصادي. ولقد أتتالسياسات الجديدة أكلها بسرعة خيالية، إذ تضاعف النمو الإقتصادي،وارتفع الناتج القومي الإجمالي، وازدهرت الصناعة الصينية الهادفةللتصدير، خاصة حول شنغهاي بالمنطقة الشرقية، فى مجال صناعاتالتجميع والملبوسات والمنتجات الاستهلاكية الصغيرة، (مع انتهاكات واسعةالنطاق لحقوق الملكية الفكرية وبراءات الاختراع الخاصة بالدول الصناعيةالمتقدمة)، وانعكس كل ذلك على العلاقات الاقتصادية والتجارية مع القارةالإفريقية.

وحسبما جاء فى العديد من المصادر (مثل "الصين فى إفريقيا" للكاتبكريس ألدن، ص 26-27)...فلقد كان حجم التبادل التجاري بين الصينوإفريقيا بليون دولار عام 1980، ولكنه بلغ 6.5 مليار دولار عام 1999... وارتفعإلي 10 مليار فى العام التالي، 2000. ومنذ عام 1990 تضاعفت التجارة بينالصين وهذه الدول بنسبة 700%،...ومع حلول 2006 وصلت 55 مليار دولار،وفى عام 2012 تناهت إلي 163 مليار دولار. وكانت الصين فى بادئ الأمرتنافس الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا من حيث الحجم الكلي للتجارةالسنوية مع الدول الإفريقية، ولكنها منذ العام 2008 أصبحت أكبر شريكتجاري لإفريقيا. وبنهاية العام المنصرم كان هنالك 900 شركة صينية عاملةبإفريقيا، و750 ألف فني وعامل ورجل أعمال صيني بهذه القارة. ولقد تطورت العلاقات الدبلوماسية والإقتصادية بين الصين والدولالإفريقية وفق نظرية "الإشتراكية بخصائص صينية"، وتميز النشاطالإقتصادي الصيني فى إفريقيا بأنه يتم علي أيدي شركات حكومية وشبهحكومية...مما حقق لها حماية قوية فى وجه الشركات الهندية وغير الهنديةالمنافسة،...وبأنه يقوم علي أساس عدم التدخل فى شؤون الآخرين، والتركيزفقط علي المسائل الاقتصادية والتجارية. وتطورت هذه العلاقات أكثر بعدمنتدى (فوكاكForum on Chinese African Cooperation ) الذي انعقدببكين عام 2000 والذى أمّه وزراء الخارجية الأفارقة، والذى تلته العديد منالاجتماعات التنسيقية، آخرها القمة التى انعقدت ببكين في 27 يوليو 2012، وحضرها ستة رؤساء وعشرات الوزراء من 50 دولة إفريقية. ولقد حققتالصين فتحاً جديداً بهذه الخطوات الدبلوماسية، علماً بأنها أصبحت فىحاجة ماسة للنفط والمواد الخام الإفريقية بعد أن انتعشت اسواقها المحليةوتفتحت شهية آلاف الملايين من سكانها للاستهلاك. ولقد تضاعف دخل الفردالصيني عام 2005 تسع مرات، وهبط معدل الفقر ينسبة 50%، وما عاد الموردالنفطي المحلي كافياً، وأصبحت الصين منذ 1993 مستورداً للنفط الذى يأتىربعه من أنغولا بالجزء الجنوبي من إفريقيا، بالإضافة لما يأتي من السودانوتشاد والجزائر ونيجريا.

وظلت الصين منذ 1996 تستورد كميات هائلة من الأخشاب من ليبيرياوالكاميرون وموزمبيق والكنغو، وتستورد خام الحديد من زامبيا والغابون،والقطن من مالي وبوركينا فاسو، والمعادن النفيسة من غانا وبتسواناوجنوب إفريقيا ونيجيريا، والكاكاو من ساحل العاج، والبن من كينيا،والأسماك من ناميبيا. ولقد بلغت الصادرات الصينية لإفريقيا 93 مليار دولاربالعام المنصرم.

هذا، ولقد تقدمت الصين بقروض ميسرة للعديد من الدولالإفريقية...بلغت 5 مليار دولار عام 2012، مع صفقات تجارية قيمتها 1.9 مليار دولار فى نفس العام، مما جعلها منافساً خطيراً للمؤسسات الماليةالغربية كالبنك الدولي وصندوق النقد العالمي. وتقدم الصين قروضاً مغريةتختلف كماً ونوعاً عن قروض تلك المؤسسات الغربية، وغير مصحوبةبشروط حول حقوق الإنسان أو خلافه، ولا يتجاوز الربح عليها 1.5%...بفترةسداد بين 15 و20 سنة؛ ولقد تنازلت مؤخراً عن العديد من ديونها لدي بعضالدول المعسرة. كما تقوم الحكومة الصينية ببناء العديد من المؤسسات الصحية والتعليمية فى الدول التى لديها استثمارات بها: ففي الكنغو مثلاًتم الفراغ من تشييد 31 مستشفي و145 مركز صحي مع حلول عام 2010، كماأنشأت الصين العديد من المراكز الثقافية بكافة أنحاء القارة، مثل موريشصومصر وبنين عام 1988؛ وأنشأت 20 مركزاً ثقافياً يحمل إسم "كنفوشيوس" فى 13 دولة إفريقية؛ وفى الفترة 1960/2005 أرسلت الصين 15 ألف طبيباًلكافة أنحاء القارة وقدمت العلاج ل170 مليون مريض إفريقي.

ولكن، هناك من يقول بأن الصين تمارس دوراً لا يختلف كثيراً عنالاستعمار التقليدي، بقفازات ناعمة. فهي تركز على تصدير الأسلحة لمعظمالدول الإفريقية التى تتعامل معها، (ولقد جاء فى صحيفة "الإتحاد" الإماراتية عدد 19 مارس 2013 الآتي:

"ذكر معهد بحثي يتخذ من السويد مقراً له أمس أن الصين أصبحت خامسأكبر دولة مصدرة للسلاح فى العالم")،... وبالطبع تحظي العديد من الدولالإفريقية بأكبر نسبة من ذلك السلاح. وتمتاز الأسلحة الصينية بكونهارخيصة من حيث الثمن، ولكن رغم ذلك فهي تشكل تكلفة باهظة بالنسبةلاقتصاديات الدول الإفريقية الناشئة، كما تساهم فى عدم الاستقرار وفيتدعيم وتثبيت أنظمة قمعية لا تهتم كثيراً بالتنمية الاقتصادية بقدر ما تركزعلي البقاء فى السلطة. ويضرب المراقبون مثلاً بكل من زمبابوي والسودان،إذ لم تكترث الحكومة الصينية لممارسات هاتين الدولتين فى مجال حقوقالإنسان، وظلت تدعمهما إقتصادياً وتطور مواردهما النفطية باتجاه التصدير الذى يصب فى مصلحة الصين بالدرجة الأولي. وبالنسبةللسودان، فإن الصين تستحوذ على 40% من موارده النفطية، وتقوم بتنفيذالعديد من المنشئات (مثل مبني الحزب الحاكم والقصر الجمهوري الجديدالذى شرعت فى تشييده بالخرطوم، بينما الأولويات الملحة تشير لمجالاتأخرى كانت أولي بالدعم، كالخدمات الصحية والتعليم وصحة البيئة)، كمالم تهتم الصين بما يجري فى دارفور من انتهاكات ووضع إنسانيمتدني...وما انفكت تدعم الحكومة السودانية فى مجلس الأمن وتستخدمحق الفيتو ضد أي إجراءات عقابية تستهدف حكومة الخرطوم، مثلما تفعلهذه الأيام مع النظام السوري.

ويشير المراقبون إلي الجانب السلبي الآخر للتدخل الصيني فىإفريقيا: فهي تنفذ المشاريع التى ترسو عليها مناقصاتها بالاعتماد علىالعمل اليدوي بالدرجة الأولي Labour-Intensive   ولا تستفيد من العمالةالمحلية، بل تجلب الآلاف من العمال الصينيين، وهناك اتهام بأن الكثيرينمنهم مسرحون من السجون، وذلك ما دفع الشباب الإفريقي للهجرة نحوالغرب بطرق غير رسمية. كما تقوم شركات التجزئة الصينية بإغراق الأسواقالإفريقية بالمنتجات الصينية الرخيصة التى لا تستطيع الصناعات المحليةأن تنافس معها، مما دفعها للموت البطيء وهي ما زالت فى المهد. و لاتستفيد الصناعات المحلية من أي نقل للتكنولوجيا من الصين، وذلكلصعوبة التواصل اللغوي مع الفنيين الصينيين، ولأن الصين لا تضع ضمنأجندتها أصلاً نقل التكنولوجيا للدول الإفريقية، وليس فى النموذج الإداريوالصناعي الصيني ما يغري بالنقل، إذ أن الشركات الصينية العاملة فىالدول الإفريقية تدار بالهرم الإداري العسكري العمودي، تحت مظلة الحزبالذي يبعث بعيونه ومراقبيه المقيمين حيثما أقامت تلك الشركات،... وهيإدارة مبنية علي بيروقراطية وأوتوقراطية الأنظمة الشمولية الشيوعية التىانهارت فى أوروبا الشرقية بسبب ترهّلها وتكلّسها وعدم مقدرتها علىمنافسة النموذج الرأسمالي الغربي؛ وإذا نجح النموذج الصيني علي المدي القريب...فإن مصيره مجهول على المدي البعيد، سواء داخل الصين أوخارجها. وثالثة الأثافي، أن الصين لا تهتم كثيراً بالآثار البيئية للعديد منالمشاريع التى تقوم بتنفيذها فى إفريقيا، مثل الغابات التى تقوم بتجريفهافى العديد من الدول للحصول على الأخشاب...دون زراعة البدائل، مماسيعرض تلك البلدان لتصحر وتحول إيكولوجي ونقص مريع فى نسبةالأمطار؛ كما أن الاستثمارات الأخري، خاصة في مجال استخراج النفط، لاتخضع للمراقبة والشفافية، إذ أن معظمها فى دول الأنظمة العسكرية، مثلأنغولا والسودان ويوغندا وتشاد، التي ليست بها صحافة حرة أو منظماتنفع عام تراقب الممارسات المدمرة التى تتم فى مجال البيئة.

لذلك، فإن العديد من المراقبين يتشككون فى جدوى الدور الذى تلعبهالصين فى إفريقيا على المدى البعيد، ويرون أن تركيزها على المواد الخامالإفريقية قد يقود فى النهاية للقضاء علي تلك الموارد قبل أن تتمكن الدولالإفريقية من بناء المقدرة علي تصنيعها والاستفادة من مستخرجاتها فىالتجارة العالمية كما تفعل الصين نفسها. وبينما لا ينكر أحد الدور الذىلعبته الصين فى إنعاش إقتصاديات العديد من دول إفريقيا، مثل أنقولاوالسودان وتشاد، فإن تلك الدول ما زالت تعاني من عدم الاستقرار ومنالمشاكل الاقتصادية المزمنة والاستقطاب والاحتقان السياسي. وفى هذهالأثناء، ورغم التحفظات المذكورة حول الوجود الصيني بإفريقيا، ما برحتهذه الدولة العملاقة تتطور كقوة إقتصادية عالمية ذات شوكة، وسيستمرالتعامل والتعاون معها على نطاق القارة الإفريقية... وعلي نطاق العالم كله،فى الستقبل المنظور.

المراجع:

1.الصين فى إفريقيا: شريك أم منافس؟

الكاتب: :كريس ألدن ترجمة: عثمان المثلوثي

الناشر: كلمة ( 2009)

2.صحيفة "الإتحاد" 19 مارس 2013

3.The Rise of China and India in Africa

Edited by: Fantu Cheru and Cyril Obi

Pub: (2010) Zed Books

4.Wikipedia: Africa-China relations.

(عدل بواسطة Nasr on 03-25-2013, 05:36 PM) ProfileEditرد على الموضوع                    Subscribe on YouTube  

   fdil.abbas@gmail.com

 

آراء