لقد صوّت اللاجئون السوريون بأرجلهم، وأصدروا أحكاماً دامغة ضدالأنظمة التى فرّوا منها، وتلك التى اخترقوا بلدانها كالطلقة النافذة التى تدخل من هنا وتخرج من هناك، وتلك التى يحلمون بالاستقرار في كنفها؛ ونفس الشيء بالنسبة للعراقيين والأفغان والباكستانيين والإرتريين الذين "تلبّطوا" وتلبّدوا فى تلافيف موجات السوريين وهم فى خضم هجرتهم الكبرى من ديار المسلمين (دار السلام presumably) إلى ديار النصارى المستعمرين (دار الحرب) – ويالها من مفارقات تستوجب التأمل والتساؤل حول العديد من المسلمات! وفى الغالب، نهض اللاجئون وفعلوا ما فعلوا وتجشموا أهوال البر والبحر بوعي كامل، وبعد تدبر دام لأربع سنوات أقاموا خلالها بمخيمات المهجرين بتركيا ولبنان والأردن، فانسلوا كقطط برية، وتجمعوا فى الشواطئ الغربية لتركيا قبالة اليونان، ثم أحرقوا سفنهم عن آخرها تأسياً بجدهم طارق بن زياد، وخاضوا البحر على قوارب مطاطية مهترئة، لا يلوون على شيء، فالموت وراءهم والبحر (والأمل) أمامهم!
• أولاً، أصدر السوريون رأيهم النهائي فى نظام بشار الأسد بعد أن ماحكوه وجالدوه لخمس سنوات كاملة، ثم تحملوا الظروف غير الإنسانية بمعسكرات اللاجئين المذكورة لأن أحلام الرجوع كانت تراودهم، وأبواق المعارضة ما انفكت تدغدغ مشاعرهم بأن النصر وشيك، وأن الأسد مجرد نمر من ورق عما قريب سيذهب كما ذهب الطغاة من قبله – صدام وبن علي وحسني مبارك وعلى ع صالح. وإذا بالمقاومة تتحول إلى حرب داحس والغبراء، من النوع السرمدي العنيد الذى يعرفه العرب جيداً، كما قال شاعرهم الجاهلي:
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم وما هو عنها بالحديث المرجّم
إن تبعثوها تلفونها ذميمة وتضري إذا ضرّيتمونها وتضرّم
وإذا بنظام الأسد تنّيناً له سبع أرواح، وحلقة محكمة فى سلسلة تمتد من أوكار حزب الله بسهل البقاع اللبناني، إلى الكتل الشيعية بالعراق، حتى تتناهي إلى الجمهورية الإسلامية الفارسية الشيعية المتحالفة مع نظام فلاديمير بوتين وريث الكي جي بي والنموذج المجسدلعقليتها وتربيتها وأشواقها الإمبراطورية منذ العهد القيصري؛ وإذا بالمعارضة فريسة للإختطاف فى وضح النهار من قبل المنظمات الأصولية الإرهابية مثل جبهة النصرة وداعش وكافة تجليات الإخوان المسلمين.
ماذا يفعل السوريون العاديون - بقايا التعليم الحديث والوطنية المتجذرة منذ عهود خالد العظم وشكري القوتلي وميشيل عفلق، حملة ثقافة الشام منذ الأزل: الموسيقى والشعر والشاورمة وفنون الطهي والمصنوعات اليدوية والنسيج والتجارة منذ رحلة الصيف والمصطفى عليه الصلاة والسلام قبل أن تنزل عليه الرسالة؟؟
ما كان أمام أحفاد سيف الدولة وأبي فراس الحمداني وأبي العلاء المعري إلا أن يحملوا ما خف حمله ويضربوا فى الأرض ويتفرقوا أيدي سبأ. ولقد توقفوا تماماً عن أي مجادلة أو محاورة مع الأسد ورهطه، وقلبوا ظهر المجن ليس للشام وحده، بل لكل الدول العربية والإسلامية القريبة والبعيدة، إذ لم يتجه أي منهم شرقاً أو جنوباً، باستثناء مفرزة أصابها دوار البحر ووجدت نفسها فى السودان، وتجدها الآن تندب حظها الذى أتي بها من الرمضاء للنار، ولعل ذلك قد حاق بها فيما قبل الاختراع المدهش الذى توصل إليه مهاجرو النصف الأخير من هذا العام – وهو القارب المطاطي الذى يقفز منه سائقه (النوخذة) بعد مائة متر داخل البحر، تاركاً رجالاً ونساءً وأطفالاً لا علاقة لهم بالبحر وفلكه، ولكنهم دائماً يتعلمون قيادة الزورق فى بضع دقائق ويعبرون به للجزر اليونانية، (تماماً كما يفعل "الحلب" – النوَر- المتنقلون فى السودان مع القرد، فهم يعطونه الرق (الطبل tamburin) ويأمرونه أن يعزف عليه، ولكنه يلقيه جانباً ويتسلق أقرب شجرة أو حائط وينظر إليهم من علٍ، فيأتون بجدي ماعز (سخل) ويذبحونه بشراسة، ويومئون بالسكين صوب القرد، والسخل شديد العياط وحاد الصراخ؛ وما هي إلا لحظات حتى ينزل القرد من عليائه ويمسك بالرق كخبير ماهر ويلعب به كما يفعل الشاب حسن محجوب فتى الحلفاية).
إذن، هذا هو رأي ملايين اللاجئين السوريين والعراقيين الذين يمموا وجوههم شطر ألمانيا....هذا هو رأيهم فى الأنظمة التى تركوها خلفهم وهي تتقلب فى جحيم حرب لئيمة بلا نهاية، أو تتمرغ فى نعيم الدنيا دون رحمة أو صدقة فى حق ابن العم الجار الجنب الملتاع، (ناسين حكمة لبيد الشاعر الجاهلي الذى أدرك الإسلام ودخله وقال: ألا كل ما خلا الله باطل وكل نعيم لا محالة زائل!)، أو تستسلم مثل الكبش المكبل للقصاب، وتسلم قيادها للقوى الطامعة والشريرة التى تحرك الأحداث فى المنطقة خدمة لاستراتيجياتها: المحور الإيراني الروسي، أو الأمريكي الإسرائيلي.
ولم يطب المقام للمهجرين السوريين فى لبنان والأردن حيث كانت تطاردهم ذكريات وأشباح مجزرة أيلول الأسود 1970 عندما فتك الملك حسين بآلاف الفلسطينيين فى عمان وإربد، إلى أن خرج أبو عمار فى صحبة الرئيس السوداني جعفر نميري متدثراً بعباءة سيدة، ومجزرة تل الزعتر فى بيروت 1974 عندما قضي حافظ الأسد على أربعة آلاف لاجئ فلسطيني، ومجزرة صبرا وشتيلا 1982 التى أباد فيها الموارنة اللبنانيون مئات الفلسطينيين، تلك التى قال عنها محمود درويش:
أسلمنا الغزاةإلى أهالينا...
فما كدنا نعض الأرض
حتى انقضّ حامينا
على الأعراس والذكرى.
• كما أصدر اللاجئون حكماً قاطعاً فى حق دول الترانزيت التى عبروها فى طريقهم لمحطات الوصول المأمولة؛ ومحطات العبور كانت رومانيا والمجر بشكل رئيسي حتى أغلقت أبوابها بالأسلاك الشائكة، ثم تحولت الموجات العابرة صوب كرواتيا التى تقاسمت ما لديها من أود مع اللاجئين، ربما لأنها مرت بظروف مشابهة قبل عقدين، إبان حروب البلقان فى أعقاب انهيار جمهورية يوغسلافيا الاشتراكية. أما المجر بالذات فقد قابلت المهاجرين بكل لؤم وبخل وعنصرية، كأنهم نسوا ما تعرضوا له عام 1956 من تقتيل بواسطة قوات حلف وارسو، ومن هجرة إلى كافة أرجاء أوروبا (وتلك كانت الموجة التى شملت لاعبى كرة القدم الذين استقر بهم المقام في إسبانيا – مثل بوشكاش وبوداي وبوجيك). وبالمناسبة، سجل الإعلام العربي غياباً تاماً عن هذه التراجيديا الإنسانية التى ما زالت فصولها تتوالى بالمسرح الأوروبي: لا حضوراً فى المكان والزمان مثلما يفعلون إزاء منافسات كرة القدم الأوروبية، ولا تعليقاً أو تحليلاً ضمنالبرامج الخبرية والتفاعلية، متجاهلة مأساة الشعب السوري الذى تتقاذفه النوى فى بلاد الأعاجم.
• وأخيراً، نصل إلى الخيار النهائي الذى رامه اللاجئون وظلت أرواحهم معلقة به منذ أن كانوا فى معسكرات لبنان وتركيا والأردن – وهو النمسا وألمانيا ومن ثم الدول الإسكندنافية بعد أن تتشبع ألمانيا. ولعلهم ظلوا يرددون فى مؤخرة الرؤوس ما أنشده المتنبي العائد فى هجرة قسرية معاكسة بخفي حنين من مصر الإخشيديين إلى الكوفة مسقط رأسه، حيث جاءه إبن سيف الدولة مبعوثاً من أبيه حاملاً الهدايا والدعوة بالأوبة إلى حلب، فقال:
كلما رحبت بنا الروض قلنا حلب قصدنا وأنت السبيل
فيك مرعى جيادنا والمطايا وإليها وجيفنا والذميل
والمسمون بالأمير كثير والأمير الذى بها المأمول
(اما الأمير الجديد فهو المستشارة ميركل، وأما حلب فهي برلين.)
ولقد سمعت حواراً فجر الثلاثاء بإذاعة مونتى كارلو حول غياب فرنسا من خيارات اللاجئين الذين تحاشوها تماما. لماذا لم يقل أي واحد من اللاجئين المتدفقين عبر الحدود المجرية والكرواتية وغيرها أنه يرغب فى السفر إلى فرنسا؟ أليست فرنسا دولة غربية غنية ديمقراطية متحضرة مثل ألمانيا والنمسا؟ بلى، ولكنها حالياً تعاني من حساسية ضد العرب والمسلمين، إذ لديها تجارب غير حميدة مع أعراب شمال إفريقيا الذين عشعش وسطهم الإرهاب الأصولي. ومن الواضح أن هؤلاء اللاجئين متابعون للأخبار وراصدون للاتجاهات والتشققات التى عصفت بالساحة السياسية الفرنسية، والتى شلت من جرائها يد اليسار الاشتراكي والتقدمي، وعلا كعب اليمين الفاشستي المعادي للأجانب، خاصة المسلمين، والمستمسك برايات الشوفينية و(ضيق العين) والعنصرية الفاشية والنازيّة.
وهكذا، فإن اللاجئين العرب يدركون أن أصابع اليد الواحدة متباينة بعض الشيء؛ ولا بد لك و أنت تتحسس خطاك على دربالصراط أن تتأكد من الطبغرافيا السياسية للعوالم التي ستهبط وسطها مستجيراً من جحيم الشرق الأوسط؛ ولقد أصبحت المعرفة واليقظة السياسية فرض عين، مثل السباحة لمن أراد أن يعبر البحر المتوسط على قارب كتلك التي رأيناها تنطلق من الشواطئ الليبية والمالطية والتركية باتجاه أوروبا.
ماذا ترك أولئك المهاجرون وراءهم؟ أي شكل ستخرج به سوريا بعد أن أفرغت من سكانها الأصليين الذين ظلوا مرابطين بها منذ آلاف السنين؟ بل، أي شكل سيتخذه الشرق الأوسط الجديد بعدما تنطفئ نيران الحروب المشتعلة في سوريا والعراق واليمن وليبيا والسودان، بالإضافة للبحرين ولبنان ودول الصحراء الكبرى الإفريقية والصومال ومنطقة القرن؟ وهل ستنطفئ نيران الحروب أصلاً؟
خرج السوريون من بلاد الشام و تركوها للأسد وحزب بعثه، كما خرج المثقفون السودانيون من قبل وتركوا بلد المليون ميل مربع للبشير والإخوان المسلمين؛ والهجرة ما برحت متدفقة منذ ثلاثة عقود من شرق وأواسط وغرب إفريقيا صوب اوروبا وأمريكا، ومن مصر والشام واليمن باتجاه الدول العربية النفطية ومؤخراً نحو الغرب، شأنهم شأن السوريين، و جميعهم "كمن رمتني بدائها و انسلت"، فما زالت المشكلة باقية ومزمنة، وعدم الاستقرار هو العنوان الذي يندرج تحته الشرق الأوسط برمته. تلك هي الفوضى الخلاقة بشحمها ولحمها par excellence التي تراهن عليها الولايات المتحدة، حسب نظرية كونزاليزا رايس، والتي سوف يتخلّق منها شرق أوسط جديد يتحقق فيه الآتي:-
1. إعادة تقسيم مناطق النفوذ الجيوسياسية والنفطية بحيث تجد فيه القوى الحديثة (القديمة) نصيباً و موطئ قدم، وهي بالتحديد روسيا والصين، أي سايس/ بيكو جديدة.
2. تضمن الولايات المتحدة والغرب عامة سلامة وأمن إسرائيل بشكل نهائي، وتذهب فلسطين و شعبها أدراج الرياح، كما ذهبت قبلها الأندلس والإسكندرونة وأخيراً جنوب السودان.
3. تنساب المصالح الأمريكية والغربية من وإلى الدول العربية الصديقة المدجنة وفق المعادلات الأمنية والسياسية والإقتصادية الراهنة، مع إبعاد أي شبح للثورات الشعبية أو الانتفاضات، على أساس التسوية التي من المؤمل أن تتم مع القوى الشيعية والفارسية بالمنطقة، وذلك إذا لم تتدخل اسرائيل بمفردها وتبعد إيران من المعادلة بتوجيه ضربة استباقية تشل قدراتها النووية وتربك حساباتها إيما إرباك، كما نستشف من خطاب الرئيس الإسرائيلي أمام الأمم المتحدة صباح الخميس.
4. إذا فاز رئيس أمريكي محافظ مثل دونالد ترمب، فإن إسرائيل ستصبح طليقة اليد بالشرق الأوسط، وسوف توجه ضربتها الموعودة ليس فقط لمواقع تخصيب اليورانيوم تحت الأرض، إنما لكل البنى العسكرية الإيرانية، بالإضافة للرموز السياسية الكبرى، مثل مدينة قم ومعسكرات الحرس الثوري... إلخ. وفي هذه الحالة سوف ينهض الشعب الإيراني من وهدته، ويندلق نحو الشوارع كما فعل في سنة 1979 عندما أطاح بحكم الشاه، ولكنه معافى هذه المرة من نفوذ الملالي والإخوان المسلمين وغيرهم من القوى المتخصصة في سرقة الانتفاضات؛ وإذا استقر الأمر في إيران و لم تنزلق لنوع الفوضى السورية واليمنية، فإن ثمة معادلة جديدة ستفرض نفسها على نطاق المنطقة كلها: وهنا نتساءل، ما هو البديل لحكم الملالي الثيوقراطي القمعي؟ إنه بلا شك نظام مدني ديمقراطي يستند على دستور علماني يحفظ حقوق الانسان ويحمي الأقليات والمرأة ويبسط الحريات كاملة غير منقوصة ويجعل الحكم قابلاً للتداول على أساس انتخابات شفافة ومتحضرة يشهد بنزاهتها العالم كله؛ وإذا برزت دولة كهذه في إيران فإن أثرها سيمتد بقوة المغنطيس إلى العراق والبحرين وسوريا واليمن، كما سيشمل كافة أركان المشرق العربية عاجلاً أم آجلاً.
لقد تدفق اللاجئون العرب تجاه دول تحترم الانسان و تمنحه فرصة العمل و العيش الكريم في أمان و سلام، بلا من أو أذى، ولا تفرق بين (المواطن) و (الوافد)، فالناس جميعهم سواسية أمام القانون، وهي دول مؤسسات وقوانين راسخة ودساتير ديمقراطية لا فضل لأعجمي فيها على عربي الا باحترام القانون. تلك هي دول غرب أوروبا، وعلى رأسها خيار اللاجئين الأول، ألمانيا. والهجرة راسخة في الجينات العربية منذ هجرة المسلمين الأوائل إلى أرض النجاشي وهجرة النبي عليه الصلاة والسلام إلى يثرب. و لكن، من الواضح هذه المرة أنها هجرة إلى غير رجعة، مثل حالة المهجريين الأوائل- جيل ميخائيل نعيمة وإيليا أبو ماضي وجبران خليل جبران- في منتصف القرن التاسع عشر و بداية العشرين، إلى الأمريكتين، حيث بقوا إلى يومنا هذا وامتزجوا بتلك الشعوب الآرية واللاتينية،باستثناء ميخائيل نعيمة الذي عاد للشام في آخر عمره وتوفى وقبر بلبنان.
وفي هذه الحالة، يكون العالم العربي قد خسر ملايين المهنيين والفنيين والحرفيين والأيدي العاملة المسلمة والناطقة بالعربية، بينما تستورد معظم دوله العمالة بالملايين من شرق و جنوب شرق آسيا، و من بعض الدول الإفريقية، بما يشكل معضلة ديموغرافية عويصة تواجه هذه الدول - إذ تجد الوافدين أكثر من السكان المحليين في العديد من الدول العربية النفطية.
ومن الناحية الأخرى، فإن هجرة العناصر المناوئة لنظام الأسد الفاشستي سوف تزيده قوة وغطرسة وإنفراداً بالأمر، وسوف يخلو الجو للعلويين الشيعة سند النظام الرئيسي. ويبدو أن الأمور بشكلها الحالي تسير لمصلحة المحور الشيعي الإيراني الذي يغطي كل إيران والجزء الغالب من العراق و سوريا، وشريحة من لبنان وجنوب اليمن والبحرين، بالإضافة للنظام الإخواني الحليف بالسودان. والملاحظ أن موجات الهجرة الحالية والسابقة لم تشمل الشيعة والأصوليين والإخوان المسلمين، مما يشير إلى أنهم يطمعون في استيراث العالم العربي والإسلامي المتمركز بالشرق الأوسط، ليقيموا فيه الخلافة الشيعية الكبرى الجديدة، وهذا هو الشرق الأوسط البديل المحدق بنا، ما لم تتيقظ شعوب المنطقة وترفع مستويات وعيها وحذرها، وإذا لم تشدد نضالها من أجل الحرية والديمقراطية والعدالة والتقدم الاقتصادي والتحول الاجتماعي.