أتُحرَمُ (ماما أسما) من بستانها؟
حول مصادرة رواية (بستان الخوف) لأسماء عثمان الشيخ
(1)
تجاوزت الكاتبة، الروائية والشاعرة، أسماء عثمان الشيخ الستينمن عمرها دون أن تنشرَ كتاباً واحداً من أعمالها القيّمة الكشّافة،الكثيرة والكثيفة، والمتراوحة ما بين السيرة الذاتيّة، والأعمالالروائيّة، ودواوين الشعر! الكتاب الوحيد الذي أصدرته كان توثيقاًلتجربة والدها الشيخ (عثمان الشيخ عبد الرحمن) تحت عنوان(مسجد البرش) والذي أصدرته على نفقتها الخاصّة؛ مؤثرةً ذلكعلى ما أنتجته من أعمالٍ مُلهمة. ثمّ، بعد ذلك، قامت بدعمِ مجلّةإكسير، ماديّاً، جنباً إلى جنب ميسرة محمد صالح وأحمد عباسزروق (كما جاء في شكر العدد الأول للمجلة التي يحررها كلٌّ منرندا محجوب ومحمد الصادق الحاج)، فكان ذلك أساساً لصدورثلاثةِ أعدادٍ من المجلة التي ستُقرأ الآن، وفي الماضي الأزلي،وكذلك في المستقبل اللانهائي كما عرفت المجلة بنفسها: تصدر كلّلحظةٍ، شأنها الصيرورة والأنفاس!.
وبعد عناءٍ امتدّ لأكثر من سبع سنواتٍ تحديداً في 2009 استطاعت، وبدعمٍ ومؤازرةٍ من أجيالٍ جديدة ومعاصرة لها، أنتطبع، أخيراً، أول عملٍ روائيٍّ عن دار أوراق للنشر صدر هذاالشهر بعنوان (بستان الخوف). فرحة الأوساط الأدبية والكتاببصدور الكتاب كانت بادية على وسائط التواصل الاجتماعيبانتشار غلاف كتابها بصورةٍ واسعة، وقد وعدت دار النشربتوفيره في معرض الخرطوم الذي افتُتِح قبل أيام (17 أكتوبر2015م)، وقد وصفت الكاتبة فرحتها بالكتاب بأنها مولودتهاالوحيدة الحقيقيّة، والتي كانت تنتظرها لعقود.
ولكن المولودة تمّ وأدها في المهد، بعد يومين من صَرختها في هذاالعالم؛ إذ تمتّعت الكاتبة بيومٍ واحدٍ فقط وهي توقّع النسخ للقراءالمتلهفين للرواية في اليوم الأول من المعرض، لتُفاجأ الكاتبة، ودارالنشر، بحضور مناديب “مجلس المصنفات الأدبيّة والفنية” (هيئةالرقابة الرسمية في السودان) ومصادرة جميع نسخ الرواية،لتصدر الدار بياناً على المواقع الالكترونية بالخبر الحزين، والذيتلقيته شخصياً عبر الهاتف بصوت الكاتبة المنكسر المرير بفقدانابنةٍ اعتبرتها الدولة، ربما، عاراً وَجَب دفنه. ذهب ذلك بأن يعلّقالصحفي المهاجر مصعب الشريف على صفحته ساخراً: ما يميّزمعرض الخرطوم الدولي للكتاب، بين جميع المعارض الأخرى، أنهيبدأ فعالياته بمصادرة الكتب!.
(2)
لاحظتُ، كما لاحظ أغلبكم، أن الاسم لا يرد في الخاطر ضمنالكتاب والكاتبات السودانيين. إذ هي، في الحقيقة، كانت راعيةًلنا جميعاً، في الخفاء، دون إعلان، ولكن الكثير الكثير جداً منالكتاب والكاتبات، كما لاحظ العديد منكم، قد تألمّوا لهذا الخبر. حسنٌ، هنا عليَّ أن أذكر ما قالته لي مساء اليوم خلال حوارنا: أنحزنها تضاعفَ، بعد مصادرة الكتاب، لأن الناس ستتجه للكتابلأنه كتابٌ مصدر، لا أكثرَ! ويا لحسرتها وهي تقول ذلك، إذ ذكرت،بالتحديد، أنها لم تتوقّع أن تحدث شهرتها هكذا، كانت تريد القرّاءالأُصلاء، الذين سيطالعون عملها لأجل العملِ ذاتِهِ. هذه هي(ماما أسما)، البسيطة، الخافتة، والبُركانيَّة ككاتبة تُمارس الصِدقَفي كتابتها كما تُمارسه عمليَّاً في حياتها.
يَعرفها أبناؤها وبناتها: رندا محجوب وأحمد النشادر اللذان تفانيافي تحرير أعمالها وجمعها، تعرفها بناتها: إشراقة ومودّة كشّان،الكاتبة والشاعرة كلتوم فضل الله التي كذلك نحن في انتظاركُتبها، يعرفها الشاعر الصادق الرضي الذي عاش في بيتها،والروائي عبد العزيز بركة ساكن الذي كَتَب عدداً مقدراً من أعمالهفي غرفةِ بيتها الطوليّة الصغيرة، المعروشة بالخشب والمُكيَّفةبجهاز تكييفِ قشٍّ محترمٍ، والمضائة بلمبةٍ وحيدةٍ مُوحية. ذاتالغرفة التي عِشتُ فيها لشهور طويلةٍ وقتَ لم أجد مكاناً يأوينيبعد أن غادرتني أمي رشيدة، صديقتها العزيزة، وسافرت بعدهاإلى كينيا وعدتُ راكضاً بالبر من نايروبي إلى يوغندا – كمبالا، ثمجوبا في جنوب السودان، وطيراناً، بمساعدة سليمان (العب) وأبكر آدم إسماعيل وياسر جعفر، إلى الخرطوم؛ مفلّساً وبلا بيتٍولا مالٍ ولا حتّى لابتوب، كان بيتها الملاذ الآمن، حيث كنت أتغذىعلى طبيخها الرائع، وأتمتّع بصحبتها وبسماع الموسيقىبسمّاعاتٍ كبيرةٍ برَّتني بها في ذلك الزمان، وكانت هي ذاتالسماعات التي افتتحنا بها معرض مفروش للكتاب وأذعنا بهاالموسيقى.
في الليل، في أي وقتٍ، تجدها على المصلاية؛ تقرأ القرآن، تسبّح،وتصلي. تُقيم الليل كلّه بعد أن تنامَ باكراً. حياتها بين مصلايتهاوليلها وكتبها ومن تحبّه من الكُتُب، مثقفة رفيعة، مكتبتها مُبهرة، ولاتتنازل عن المعرفة، تماماً كما لا تتنازل عن تعبّدها العظيم لله.
(3)
لن أنسى ليلةً قضيناها مع الأساتذة جابر حسين وميرغنيديشاب بعد تدشين كُتب الأخير إذ تمّ تحرير كُتبِه النهائي ما بينمكاتب (مجموعة دال في الكوكاكولا ـ بصحبة القدال، صديقُهاأيضاً وابن جيلها، وعماد عبد الله) وما بين بيت (ماما أسما) فيالأملاك، بحري، وتحديداً بيت أبناء رئيس السودان السابق: عبود. بيت كلاسيكي حاني، إذ شُدِهَ ميرغني ديشاب بما دار من حوارٍمع هذه الأم، وأحبها جابر حسين حتى تساقطت نظاراته منالضحك. انضمَّ إلينا بركة ساكن في اليوم التالي، وجاءَت لمياءمتوكّل وأعدت حلقات حوارها الإذاعي مع ميرغني ديشاب، والتيتمددت لأكثر من ثلاث حلقات، في إذاعة إف إم 100، أسستمحاورها في بيت (ماما أسما).
بَنَى فيه، في أواخر أيام البيت، بركة ساكن غرفةً كان ينوي أنيحوّلها لمصنعٍ يدويّ لخياطةِ البدلات الكنغوليّة (شوفوا الراجلالفاسق ده؟) وقد التقينا في ذلك الوقت هناك لأنني كنت أعيشفعلياً في غرفته السابقة، والتي عاشَ فيها كل من تشرّد ونالت منهمصائب الدهر وقهر الفقر. اسمها كذلك الـ(مام)؛ كما ينطقهالمخرج الطيب صديق، والإعلامي سعد الدين حسن (سعدون،كما تناديه)، وهي تدلّع الجميع. اسمي (مَمّو وَلَدِي حَبيبي)، وقدكتبت لها، إهداءً، بجانب أمي رشيدة حبيب الله، في مقالٍبمناسبة يوم الأم العالمي والذي يصادف، يا للهول، يوم الشعرالعالمي. في مقالةٍ بعنوان (نسيان العالم) كُتبت عام 2009م. وسميتها: أمي الثانية. وقد كانت، ولا تزال، كذلك؛ بالنسبة لي،ولعددٍ مهولٍ من الأولاد والبنات والمبدعين والمبدعات.
كان بيتها، وهي المستقلّة بذاتها، بالعمل الدؤوب منذ أن عملت فيسودانير “الحقيقيّة”، مضيفةً رائعة الجمال، بديعة المحيا، لدرجةِتُرسَم من أبدع الفنانين؛ امرأة نادرة الجمال، حقيقة، ونادرةالضحكة، نادرة الحيويّة والبراءة التي بها تُصيب القلبَ بالأملفقط، تملأ القلب بالأمل في العالم البشع هذا. لقد زارت كل بقاعالعالم، ورأت عواصم الكرة الأرضيّة واحدةً واحدة بعملهاكمضيفة، ثم، عندما كانت ترعانا في كِبرها، كانت تعمل بالأممالمتحدة، بمرتبٍ محترم، تصرفه على كل من تحب من أهلهاوأبنائها وبناتها الكثر. تزوّجت من قبل، ثمّ هَجرت الزواج، وعاشتمحاطةً بمحبةِ أبناءٍ وبناتٍ لا يحصون. محاطةً برعاية الله، الذي لمتبتعد عنه وظلّت لهُ مُخلصةً بإيمانٍ يُوجب الانحناء التّام.
إنني أدعوكم لكتابة شهاداتكم، من ذُكِرَ ومن لم يُذكر، من أبنائها،ليَعرف مجلس المصنفات الأدبيّة أيّ روحٍ يحرمونها الابنة الخارجةمن جسمها، ولأول مرةٍ؛ ابنةٌ وُلِدَت في الورق منذ ثمانينات القرنالماضي، وكانت تنتظر، لأكثر من ثلاثة عقودٍ، لتُولدَ كتاباً. بالتأكيدإن أصرَّت المصنفات الأدبية على هذا المنع الذي لا يعني شيئاً،مع هذه التكنولوجيا التي تستطيع نشر الكتابَ، في ثوانٍ، بآلافالنسخ إن قررت الكاتبة نشره (بي دي إف)؛ إن أصرّت على هذهالحماقة فذلك لن يعني سوى حرمان أُمٍّ من ابنتها مُجسَّدةً فيكتابٍ ورقي؛
ما أحلى الورق وما أغلاه.
أفرجوا عن الكتاب يرحمكم الله!
ففضل الـ(مام) على الكتابة والفنون في السودان كبيرٌ لو تَعلمون!
eltlib@gmail.com