بسم الله الرحمن الرحيم
كتب الأستاذ التوم النتيفة بالصحف الإسفيرية يوم 6 الجاري مؤرخاً للحركة الشيوعية والديمقراطية السودانية بعنوان: (شيوعيون ووطنيون عصيون على النسيان)، كأنه يعني أن هناك من يمكن أن يشملهم النسيان حسب معياره الانتقائي، وأورد أسماء مؤسسي الشيوعية وحركة النقابات والمجتمع المدني واتحادات المزارعين منذ مطلع الأربعينات؛ غير أنه نسي أو تجاهل أسماءً سطعت وتلألأت فى تلك السموات وغاصت فى وجدان أهل السودان، ولا أدري إن اهتدى فى منهجه الإنتقائي هذا بعقلية الأخ الأكبر BIG BROTHER فى الدولة التوتاليتارية التى وصفها جورج أورويل فى كتابه الموسوم "1984" – حيث كانت الدولة تمسح إسم أي مواطن معارض أو منشق من جميع الكشوفات الرسمية وغير الرسمية بما فى ذلك سجلات المواليد والوفيات، ويصبح ذلك المواطن (لا شخص NONPERSON).
على كل حال، أثارت فى خاطري تلك القوائم التى أوردها النتيفة كثيراً من الذكريات الشجية لمناضلين أشاوس عرفتهم أو قرأت عنهم أو عملت مع بعض منهم فى ساحات النضال الوطني، وعجبت كيف يغيب مثل هؤلاء الصناديد عن سجلات الشرف التى يحفظها التاريخ، اللهم إلا إذا قام على رصدها أشخاص غير موضوعيين وغير منصفين. ولقد تذكرت بعض الأسماء من الذين قضوا نحبهم ومن الذين ما انفكوا ينتظرون، (والذاكرة قد انهكتها وبرتها الخطوب التوالي، "ولقد تُذكر الخطوب وتُنسي" كما قال البحتري، فمعذرة)، وأرجو أن يسعفنا الحادبون الآخرون بالمزيد من مثل هذه النماذج، خاصة تلك المنزوية فى تلافيف الحركة الوطنية التقدمية وبأرياف السودان النائية، إحقاقاً للحق وإنصافاً للخلق.
وأول إسم قفز لذهني هو الراحل مولانا القاضي الشرعي الرفيق حسنمحمد بابكر البداني، من الهاشماب المقيمين ببري، الذى أحيل للتقاعد الإجباري التعسفي على إثر أحداث 19/22 يوليو 1971 من وظيفته كنائب قاضي القضاة الشرعيين. ولقد كان مولانا حسن من الكوادر الملتزمة بالحزب الشيوعي منذ الأربعينات، وقد تخرج فى كلية غردون عام 1941، ومن الذين لم ينقسموا (أي من جناح عبد الخالق لآخر لحظة)، ومن مؤسسي حركة السلام السودانية وعضوا بسكرتارية هيئة السلام السودانية منذ بدايتها حتى وفاته. وقد عرفت مولانا البداني منذ أن كان قاضياً شرعياً فى سنار بنهاية الخمسينات، ثم جمعتني به ظروف النضال مرة أخرى عام 1970/1971 فى أروقة هيئة السلام السودانية وكافة الأنشطة التضامنية مع الشعوب المكافحة ضد الاستعمار. وكنت أزوره مع محمد مالك من آل بدريالذى عمل بسنار كذلك بأواخر الخمسينات، وكان يدير بوفيه مركز الشرطة حيث كان يخبئ المنشورات أيام دكتاتورية إبراهيم عبود؛ ولقد عاد محمد مالك للخرطوم وكان لديه بوفيه معروف بركن ميدان الأمم المتحدة الشماليالشرقي المطل على الجامع الكبير. وكنا نذهب كل يوم جمعة "لنقيّل" ونصلي بمسجد بري مع مولانا فى منزله الواقع بين منزل أسرة أبو القاسم هاشم من الناحية الشمالية، ومنزل أسرة أبو القاسم محمد ابراهيم من الناحية الغربية، (ولكن بينه وبينهما برازخ شاسعة من حيث الفكر والتوجه). ومن أصدقاء مولانا البداني البروفيسير عبد الله الطيب الذى التقيته مرات عديدة بالمكتبة الأهلية جوار البنك التجاري التى أصبح مولانا يديرها بعد تقاعده فى يوليو 1971، كما قابلناه عدة مرات بمنزل مولانا عندما كان يأتي ليأخذه لمزرعته ببتري عصر الجمعة، وعندما توفى مولانا رثاه عبد الله الطيب بعصماء مطلعها:
( علي حسن سأبكي خلي على حسن)
ولقد ضاعت منى، فأرجو أن يسعفني بها الأبناء النجباء حفظهم الله.
وعلى ذكر سنار، فقد وردت أسماء مولانا شيخ الخير ومحمد فضل الله كمؤسسين لإتحاد مزارعي النيل الأزرق، وعلى ذلك يشكر الأخ النتيفة؛ ولكن الصورة السنارية لا تكتمل إلا بذكر عيسي أحمد آدم (حكيم) سكرتير الإتحاد منذ تأسيسه فى مطلع الخمسينات ومسؤول سياسي فرع الحزب، وبذكر النجار عبد الرحيم عبد الرحمن وجمال حسين الموظف ببنك باركليز. وبهذه المناسبة كذلك، لا بد من ذكر الشيخ العبيد عامر أحد مؤسسي ورئيس اتحاد مزارعي النيل الأبيض منذ بداية الخمسينات كذلك، ولقد كان هو والشيخ الخير عضوين باللجنة المركزية منذ المؤتمر الرابع؛ ولا بد من وقفة فى كوستى موطن شيخ العبيد لنتذكر شاعرها الفحل شابو أمد الله فى أيامه الذى كتب عن زحف الفساد وأحابيل الإفساد أيام دكتاتورية عبود بقوله:
(زمانك يافتى خرب، فكن يامهجتى خربا!)،
ماذا تراه قائلاً اليوم عما نراه من فساد يتقاصر أمامه ما شهدته أيام عبود ونميري؟ كما لا بد أن نذكر من أهل كوستي المناضل المثقف مكي أبو قرجة الذى غيبه الموت مؤخراً، عليه رحمات الله.
ولقد ذكر النتيفة إثنين من المناضلين الأقباط الذين عملت معهم فى مجال السلام والتضامن، هما الراحلين فوزي التوم والدكتور سليم عيسي، ولكنه أورد إسم "صبري جسور" فى معرض رصده لرفاق الخرطوم بحري، بينما نسي أباه عثمان جسور أحد أهم مؤسسي الحركة النقابية العمالية،كما لم يذكر الراحل سعودي دراج. أما محمد عثمان جسور (صبري) الذى اختطفه المنون وهو فى ميعة الشباب فى مطلع سبعينات القرن الماضي، فقد كان شعلة من النشاط منذ عودته من البعثة الدراسية فى رومانيا، وقد زاملته فى (جمعية التضامن مع الشعب اليوناني) أيام كان ذلك البلد يمر بكابوس الدكتاتورية العسكرية؛ ولقد جلبنا فلم "Z" الذى يروى قصة نضال اليونانيين ضد تلك الدكتاتورية، بمساعدة الراحل البروفيسير على المك ونادى السينما فى شتاء 1970، وأقمنا مهرجاناً دعونا له الموسيقار المناضل ميكي ثيودوراكيس واضع موسيقي فلم Z وكذلك فلم "زوربا الإغريقي"، واحتشد الزملاء أمام مدخل سينما كلوزيوم حاملين اللافتات المكتوبة باليونانية والعربية قبيل عرض الفلم الذى افتتحه ثيودوراكيس، بين هتافافات الرفاق: (فيفا ديموكراتيكا)، فسالت دمعتان على خد ذلك العملاق، وتكرر نفس الشيء فى الحفل الذى أقامته له جمعيتنا بالتعاون مع نادى السينما بداره بالقرب من جامعة الخرطوم، حيث غنى له عبد الكريم الكابلي.
ومن الشخصيات التي يتوجب ذكرها فى مجال العمل التضامني الأستاذة خديجة صفوت التى أسست معنا "هيئة التضامن الإفريقي"لتقديم كل المساعدات السياسية والأدبية والدعائية الممكنة لحركات التحرر الإفريقية، وكان لها قصب السبق فى بناء الجسور مع العديد من تلك الحركات، بل ولقد اصلت جهودها بعد حصول تلك الدول على استقلالها وعملت ببعض جامعاتها، وصنفت كتاباً بعنوان "رسالة إلى بولين لوممبا"، ومئات الكتب والإصدارات الأخرى، وما زال عطاؤها متواصلاً بالجامعات الأوروبية والبريطانية.
ولقد عجبت لغياب أسماء ناصعة كانت من المؤسسين للحلقات الأولى للماركسيين، على الرغم من تحولهم لاحقاً للحركة الإتحادية، مثل المجاهد محمد أمين حسين وأحمد زين العابدين وعبد الماجد أبو حسبو ومحمد الحسن عبد الله يس وحسن عبد القادر، ولغياب أول سكرتير ل"مؤتمر الشباب" عام 1948، عوض محمد عبد الرازق، من أهالي الجابرية محلية الدبة، قبل أن يتحول إسم الحزب إلى "حستو"، وعمالقة آخرين مثل حسن الطاهر زروق وأحمد محمد خير (المعلم) والطيب حسب الرسول وعبد الوهاب بوب ومحمد سيد احمد صاحب مكتبة الفجر بمدني لاحقاً، وعبد القيوم محمد سعد والبروفيسير على محمد خير والبروفيسير شريف الدشوني والدكتور فاروق محمد إبراهيم والدكتور أسامة عبد الرحمن النور عليه رحمة الله، وإبراهيم جاد الله وبرير حامد الأنصاري وآدم مهدي عليهما الرحمة،والدكتور محمد مراد أمد الله فى أيامه. ولا بد أن نذكر فى هذا الجال المناضل الأغبش الفذ يوسف عبد المجيد الذى كان من مؤسسي الحركة الشيوعية إلى أن انشق عنها عام 1963 مع شامي وعبد الرحمن منان وبعض الرفاق ليؤسسوا "الحزب الشيوعي القيادة الثورية" المتأثر بالثورة الصينية وبأفكار الرئيس ماو تسي تونق، ولقد توجه يوسف للريف مصمماً على تطبيق الشيوعية فى جميع تفاصيل حياته، وعلى محاولة بناء الهرم الثوري من أسفله وسط الكادحين أنفسهم، وكان بإمكانه أن يعمل فى مجال الأعمال أو السمسرة الكمبرادورية بما له من علاقات أسرية وزمالية منذ أيام الدراسة فى مصر، ولكنه اختار الطريق الصعب والشريف، فحاز على حواشة بمشروع "البساطة" واتخذ لنفسه إسماً حركياً (خالد) واختلط بالمزارعين فى سعيه لتنظيمهم سياسياً، وكان معارضاً شرساً لكل الأنظمة الدكتاتورية التى حكمت السودان، وكلما يدخل الشيوعيون معتقل كوبر يجدون يوسف قد سبقهم إليه. واستقر به المقام فى الثمانينات بحواشة فى مشروع السوكي على مقربة من حنتوب، وأقام بمنزل متواضع فى مدني كنا نزوره فيه أنا والباشمهندس زكريا أبو جودة، وكان يوزع خيرات حواشته من خضروات على الأصدقاء والفقراء، كأنه ولي زاهد من أولياء الله الصالحين، حتى وافته المنية إثر حادث مأساوي بطريق كوستي الأبيض.
وزكريا أبو جودة هذا من أبناء سنار الوفيين لها، فقد كان من مؤسسي فريق النيل الرياضي، وتزعم مشروع بناء المدرسة الشعبية الوسطى بجهد الأهالي عندما كان المهندس المقيم لكهرباء سنار. وعندما اندلعت انتفاضة أبريل 1985 قطع زكريا الكهرباء عن الشبكة التى تنقلها للخرطوم، وتم اعتقاله وكان على وشك مواجهة محاكمة فورية خطيرة لو لا أن الإنتفاضة تناهت إلى سنار، فسارت الجماهير الثائرة إلى المركز وأخرجت زكريا من المعتقل محمولاً على الأعناق.
كما استغربت لاختفاء أسماء باهرة من قائمة مؤسسي الحركة النقابية مثل الراحل الحاج عبد الرحمن نائب رئيس اتحاد العمال وتاج السر محمد عابدون مؤسس وأمين عام نقابة عمال مشروع الجزيرة مع رفيق دربه إبراهيم محمد أحمد الشيخ رئيس تلك النقابة.
وكيف نتحدث عن الحركة النقابية ولا نتذكر المعلمين بكافة المراحل؟فلقد عرفنا رجالاً كالشموس عملوا على تجميع المدرسين فى العديد من النقابات، الابتدائية والوسطى والثانوية والمدارس الشعبية، وتم تأسيس اتحاد المعلمين الذى يتألف من كل تلك النقابات والذى كان أمينه العام الراحل مكاوي خوجلي رئيس نقابة معلمى الوسطى، ولقد كان من أبرز مؤسسي حركة المعلمين النقابية محمد سليمان (صاحب "اليسار السوداني فى عشر سنوات" وشقيق أحمد سليمان المحامي)، والراحل الشهيد مصطفى محمد صالح مؤسس ورئيس نقابة معلمي المدارس الشعبية (مع زميله علم الدين حمد النيل وزوجه المرحومة سميرة إسحاق) ورئيس رابطة المعلمية الإشتراكيين. وكان مصطفى أحد شهداء حركة 19 يوليو 1971 حيث كان مختفياً وداهمته آلام القرحة، فتم نقله سراً إلى الجناح الجنوبي بمستشفىالخرطوم، ولكن أحد نزلاء الجناح (وهو بصاص معروف) بلغ عنه لجهاز الأمن، فخفت زبانيته للمكان وانتزعوا الأنابيب من مصطفى وأخذوه عنوة لسراديبهم حيث لقي حتفه على الفور. ومن أقطاب حركة المعلمين النقابية سيداحمد محمود وصالح خليل وصلاح اسماعيل وحسن عبد المنعموالدكتور محمد سعيد القدال، رحم الله من قضى نحبه منهم.
وإن أنسي لا أنسىي رفاقاً كالمصابيح عطاءً ونضالاً متواصلاً حتى الرمق الأخير من حياتهم، هما إبنا عبري، الشاعر جيلي عبد الرحمنوالدكتور فاروق كدودة، عليهما رحمات الله. فقد عاش جيلي معظم حياته خارج السودان، ما بين القاهرة حيث دار العلوم التى درس بها، وموسكو حيث أنجز الدكتوراة بجامعتها وطفق يحاضر بها حتى أقعده المرض، ولكنه ظل متواصلاً بشعره وقلمه وحضوره المعنوي مع بلاده ومنفعلاً بهمومها وبقضايا الكادحين فى كل مكان، وهو الذى أنشد قائلاً عن شاعر الثورة الإسبانية غارثيا لوركا الذى تم إعدامه عام 1936:-
(يالوركاي!
يا من أعجزت الناي
إني أعجز عن كلمة،
ولما ساقوك إلى الأجمة....
كان صمتك أبلغ ما خلدت من كلمة.)
والذى كان يأتينا بخبر جيلي وشعره هو صديقي الراحل المقيمفاروق كدودة الذى خلت منه قوائم النتيفة. ولقد فصل فاروق من جامعة الخرطوم لنشاطه السياسي وعمل لفترة تحت الأرض فى تحرير "الشرارة"، ثم تسلل خارجاً إلى موسكو حيث واصل دراسته بجامعتها حتى الدكتوراة فى الإقتصاد، وعاد ليناضل فى كل الجبهات الإقتصادية والأكاديمية والسياسية، وتم اعتقاله عدة مرات، وكان علماً تأتم الهداة به. جعل الله بركة بلا حدود فى ابنته المناضلة ساندرا.
ومن الرفاق الذين علقت ذكراهم بمؤخرة دماغي (رغم أني غادرت هذا التنظيم منذ اثنين وثلاثين سنة) العزيز المناضل جوزيف موديستو الذى غادر الشمال ليصبح زعيماً لحزبه الشيوعي الجديد بجنوب السودان؛ ياللحسرة وتشتيت الرجال وضياع الوطن! وكان جوزيف قد تولى الصلات بمن تبقى من المناضلين الأفارقة بالخرطوم، وهم أساساً ثوار الكنغو (زائير) من رهط باتريس لوممبا، وكان يأخذني لكل مناسباتهم بالأحياء الشعبية التى أقاموا بها، خاصة الكدرو. وقد عهدته شخصاً مثقفاً ومرحاً ومتواضعاً ووفياً لأصدقائه وخالياً من عقد البرجوازية الصغيرة ومجسداً لوحدة السودان التى ظللنا وسنظل نحلم بها. أنعم به من مناضل جسور ووطني غيور!
وكنت أود أن أتحدث عن شيوعيين ووطنيين جهابذة تخطاهم الأخ النتيفة، مثل عمر مصطفى المكي وابن عمته سيف النصر ميرغنى عقيد والدكتور الطاهر عبد الباسط...إلخ، إذ أنهم يستحقون الذكر لما قدموه حتى زمن (الإنقسام)؛ بيد أني لا أرغب فى الدخول فى جدل حول تلك المسألة.
عموماً، أرى أن كتابة تاريخ الحركة الثورية والتقدمية ليس بالأمر السهل، ويجب أن تتوفر عليه نخبة من الاختصاصيين والإحترافيين المحايدين حياداً إيجابياً، وليس كل من وجد أمامه فأراً ولوحة مفاتيح.
والسلام.
fdil.abbas@gmail.com