إلى جنات الخلد يا مصطفى عبد الماجد!

 


 

 


بسم الله الرحمن الرحيم

صلاة الله خالقنا حنوطٌ                  على الوجه المكفّن بالجلال

على المدفون قبل الترب صوناً          وقبل اللحد فى كرم الخصال

وأفجع من فقدنا من وجدنا               قبيل الفقد مفقود المثال

غيب الموت قبل بضعة أيام البروفيسير مصطفى محمد عبد الماجد مؤسس ورئيس شعبة اللغويات بكلية آداب جامعة الخرطوم بالسبعينات والثمانينات، جعل الله قبره روضة من رياض الجنة، وجعل البركة فى بنتيه وزوجه الفضلى محاسن محمد حسن عبد الله وفى أخيه بكري ونسل محمد عبد الماجد. ولقد تقاطعت حياتي في عدة منحيات مع الراحل المقيم، ووجدته أستاذاً جليلاً وعالماً نحريراً وصديقاً وفياً وخدوماً لمعارفه وطلابه، وجليساً لا تمل أنسه وعمق إلمامه بالأدب الإنجليزي والعربي، ومحباً للنكتة والقفشات، وراوياً للمشاهد الطريفة مما يقوله ويفعله زملاء العمل والسابلة أثناء تصريفهم لحياتهم اليومية، ووطنياً مخلصاً ومحبّاً لبلاده، تجده دائماً على الجانب الصحيح من التاريخ، دون انتماء لحزب سياسي معين، ولكنه بالقطع لم يكن يمينياً أو رجعياً فى أي يوم من الأيام.

​وعندما وصلت لكلية السنتين ببخت الرضا ضمن الفرقة 23 في يوليو 1963 كان مصطفى قد عاد لتوه من جامعة بيروت الأمريكية، وشرع في تقديم مادة اللغويات Linguistics لنا بالإضافة لمادة تدريس الإنجليزية ELT، وكان مبهراً من حيث غزارة علمه وطريقة عرضه وتدريسه وجزالته ونطقه للإنجليزية وهندامه وصرامته في وقت الجد، وخفة دمه وطلاوة حديثه في كل الأوقات الأخرى. وعلى الرغم من الاحترام المتبادل الذي نشأ بيننا على الفور، فقد احتفظت بمسافة بيني وبينه لكي لا يقال بأني أتقرب لأستاذي لحاجة في نفس يعقوب، إلى أن وصلنا لاختبارات الفصل الأول First Term للفرقة 23، فاستدعاني الأستاذ مصطفى لمكتبه وأشاد بأدائي في تلك الامتحانات، ودعاني لشاي العصر بمنزلهما هو والأستاذ ربيع عمر بشير أستاذ التربية وعلم النفس، واصطبحت معي ابن الدفعة وزميلي منذ التدريس بسنار الأميرية طه الأمين الشريف، ومنذ ذلك اليوم أصبح أربعتنا أصدقاءً لصيقين، بالإضافة للعلاقة المهنية (الشيخ / حوار) مع كل ما تنطوي عليه من تبجيل واحترام وفق التقاليد السودانية الراسخة. ولقد كان مصطفى يدعونا بين الفينة والأخرى لكي نستمتع بأسطوانات الشاعرالويلزي ديلان توماس الذي توفي في شرخ الشباب من فرط الخندريس، وقد كان جزءً من حركة الوجوديين الجدد بشعره المتمرد في الخمسينات، تلك الحركة التي جسدها جون أوزبورن (Look Back in Anger 1956) ، وكولن ولسون صاحب ((The Outsider – اللامنتمي - كما أسمعنا أسطوانات تي إس إليوت وهو يلقي أشعاره، وكان يشرحها لنا بيتاً بيتاً، خاصة

The Love Song of J. Alfred Prufrock  

و كذلك  The Waste Land  - الأرض اليباب.  

كما لفت نظري مصطفى لكتابات ومواقف بيرتراند رسل نصير السلام العالمي  والمناهض للقنبلة النووية، وأهداني كتابه "إقتحام السعادة" The Conquest of Happiness وهو أجمل ما قرأت مما صنف البشر، كما عرفني بالكثير من الأدباء البريطانيين الآخرين الذين كانت مكتبة بخت الرضا تزخر بأعمالهم، وكان أمين المكتبة هو الشاعر الفذ عمران العاقب عليه رحمة الله الذي ما انفك يتمتم ويتأتئ إلا عندما يتلو شعره للملأ مهما طال زمن الإلقاء، وتلك من ملاحظات مصطفى التي لا أنساها.

وفي العام التالي 1964 كانت بخت الرضا تعد للإحتفال بعيدها الثاني والثلاثين، في أكتوبر، فقرر مصطفى بعد استشارتنا أن تشترك الفرقة 23 بمسرحية إنجليزية بإخراج باذخ، ووقع الإختيار على النص  The Prince Who Was A Piper، وتم اختياري لتمثيل دور "الأمير"، بينما كان "الأميرة" طه الأمين الشريف، وكان عادياً في تلك الأيام أن يقوم الذكور بدور الإناث على المسرح، كما شارك في التمثيل أحمد المصطفى (القبجي) من أهالي نيالا؛ ولقد أخرج مصطفى المسرحية بمساعدة كل من الموهوب الحوري أستاذ المسرح عليه رحمة الله، وأستاذ الموسيقى الماحي اسماعيل المكي أمد الله في أيامه الذي أسس معهد الموسيقى لاحقاً والذي كان في زيارة لبخت الرضا مرتع سنينه الأولى بمهنة التدريس. وكان مصطفى مفتوناً بسخرية الماحي ومقدرته على صناعة الفكاهة ونجر الألقاب: (اللواري، وسيلة المواصلات الوحيدة من وإلى الدويم، أسماها "اللواري الكُّنّس" على وزن "الجواري الكنّس"، وأسمى أستاذ التربية البدنية عبد الحميد الجمل "مسيو دي كاميللو"، وأطلق على آخر "مسيو دو لا فيج"....إلخ.).

وجاءت ليلة عرض المسرحية يوم23 أكتوبر 1964، واعتلينا الخشبة وأدينا أداءً بهر الحضور، وعلى رأسهم وزير التربية اللواء محمد طلعت فريد وعميد معهد بخت الرضا مندور لمهدي، غير أني لاحظت ثمة جلبة وحراك بين الصفوف الخلفية، واكتشفنا لاحقاً أن ثورة أكتوبر كانت قد اندلعت وتناهت إلى الدويم، فجاء بعض من شبابها لبخت الرضا وحاولوا أن يتظاهروا، ولكن الحراسة كانت مشددة، وتم قمع ذلك التحرك وإسكاته حتى غادر طلعت فريد، وفي مساء اليوم التالي انفجرت ثكنات بخت الرضا وشوارعها بجموع المدرسين المشاركين في ثورة أكتوبر.

ولقد عرفت من مصطفى أنه أصلاً من محس صوارده، وابن عمة الفنان محمد وردي، وبه لحمة جعلية من ناحية جدته لأبيه؛ وقد انتقلت الأسرة إلى عطبرة منذ وقت مبكر، حيث عمل أبوه ترزياً، وكان من الشخصيات المعروفة بعطبرة وعضواً بنادي الخريجين. وأخبرني مصطفى إنه درس كل المراحل بعطبرة والثانوي بوادي سيدنا، ومن ثم التحق مباشرة بوزارة المعارف معلماً بالمدارس الوسطى ليساعد في تربية إخوانه بما أنه كبيرهم، وبعد عامين جاء لكلية السنتين وتخرج فيها بدرجة ممتاز، فتم ابتعاثه نتيجة لذلك للجامعة الأمريكية في أواخر الخمسينات. و كان الأستاذ مصطفى يحفزني ويشجعني لأن أسلك نفس الطريق، وأن أدخل جامعة الخرطوم بعد بخت الرضا طالما أن البعثات إلى  بيروت قد تم إلغاؤها؛ وبالفعل راقت لي الفكرة، ولكن الظروف لم تسمح لي بتطبيقها إلا بعد عشر سنين من ذلك، أي في عام 1974، وكان الدكتور مصطفى قد عاد لتوه من أدنبره والتحق بكلية التربية محاضراً، ثم انتقل في نفس العام لقسم الإنجليزي بكلية الآداب تمهيداً لتأسيس شعبة اللغويات. وما بين بخت الرضا التي كان آخر عهدى بها في أكتوبر 1964، وجامعة الخرطوم في يناير 1974، تدفقت مياه كثيرة تحت الجسر.

ظل مصطفى ببخت الرضا لعقد من الزمان يدرب مدرّسي الوسطيات، ويذهب في رحلات تفتيش للمدارس بكل البلاد، ويشرف على صياغةوتجريب وتطبيق مناهج اللغة الإنجليزية بالوسطى والثانوي حتى بعد أن تم نقل قسم المناهج إلى الخرطوم، كما ظل يضع ورقة الإنجليزي بامتحان الشهادة السودانية كل عام. ولقد عمل مصطفى بالسودان كل عمره ولم يفكر في الاغتراب بالدول النفطية التي كانت تستقطب المعلمين السودانيين خاصة أساتذة الانجليزية، وهو أمر كانت تتحلب له أشداق معظم المتعلمين، إذ كان مصطفى يرى بأنه ليس من الوطنية أو الخلق الكريم أن تمر بكل المراحل الدراسية المجانية وتذهب لعدة بعثات خارجية على حساب الدولةبالعملة الصعبة، ثم تولي الأدبار نحو الدول الأكثر ثراءً لكي تكنز الدراهم والدنانير قبل أن تسدد فاتورة بلادك التى تحيط بعنقك. ولم يرضخ مصطفى لهذه النزعة إلا بعد أن تقاعد في بداية التعسينات على إثر خدمة متصلة بوزارة المعارف/التربية وجامعة الخرطوم جاوزت الأربعين سنة، وبعد أناكتشف أنه ظل مقيماً بمنزل أهل زوجه جوار مسجد شروني، وأن كل خدمته بالميري لم تمكنه من تشييد أي مسكن للأسرة.

وفي أاخر الستينات ذهب مصطفى لأدنبره، وهناك وجد أحمد الزين صغيرون عليه رحمة الله الذي كان يحضّر للدكتوارة في تاريخ الفنون، بينما أعد مصطفى أطروحته عن أهداف وحاضر ومستقبل اللغة الإنجليزية بالسودان. وكان مصطفى يراسلني وأنا مدرس بسنار الثانوية بنين ثم الثانوية بنات، فقد انتدبت بعد بخت الرضا للثانويات بفضل النتيجة التي أحرزتها (مع إضافة خمس جنيهات لراتبي الشهري)؛ ولقد أرسل لي مصطفى hard cover كتاب مذكرات اللورد بيرتراند رسل بعد صدوره مباشرة بالبريد من تلك الحاضرة الاسكتلندية، ووصلني فى زمن قياسي بسنار.

ثم هبت عواصف 19/22 يوليو 1971، ووجدت نفسي لاجئاً بتشيكوسلوفاكيا، وطالباً بجامعة فى براغ إسمها (17 نوفمبر!)، قضيت بها عامين، ثم قرر فرع الحزب هناك أن يعود للسودان كل من أتى لتلك الدولةبسبب أحداث 19 يوليو، بمن فيهم الطلبة بالجامعات، وبمن فيهم شخصي على الرغم من اجتيازي لاختبار الإنترميديات "المتوسط" بامتياز (فيبورنيViborny)، ولقد رحبت بالعودة لأني حمدت الله الذى استلني من تلك الجامعة التعيسة (التى لم تكن جامعة بالمعنى المعروف، إذ ليس بها سوى الطلاب الأجانب، ويستنكف التشيك عن دخولها، وليس بها مكتبة أو كتب أو مراجع أو رياضة أو أي نشاط ثقافي أو جرائد حائط، بل دفاتر ضامرة مطبوعة بالآلة الكاتبة يوزعها الأساتذة، وكلهم part-timers ؛ ولما زرت براغ قبل عامين وذهبت أبحث عن جامعتي السابقة لم أجد لها أثراً، لا فى الأرض ولا فى الأراشيف ولا فى الذاكرة الجمعية). ولقد نويت كذلك أن أحقق وصية أستاذي مصطفى بدخول جامعة الخرطوم والتخرج فيها. وكان قد كتب لي في براغ متسائلاً: (ألم تكتشف يا صديقي حتى الآن ألا فرق بين الشيوعية والسعودية؟).

ولما وصلت إلى الخرطوم عام 1973 وجدت أن مصطفى قد عاد للتو من بريطانيا، وذهب معي للراحل الأستاذ دهب عبد الجابر بوزارة التربية فى محاولة مستميتة لإعادتي للعمل، فقد تم فصلي في أواخر يوليو 1971 بينما كنت في مهمة تابعة لوزارة الجنوب بيوغندا،  ولقد كتبت عبارة على ظهر ملفي تقول (أحد الهاربين بالخارج)؛ وكان ذلك الملف بحوزة الأستاذ دهب، وكلما نأتيه أنا ومصطفى يأخذ الملف تحت إبطه ويسعى بين مكاتب المسؤولين ثم يعود لنا بخفي حنين؛ واستمر هذا السيناريو لتسع شهور كاملة. وفي مرة من المرات سأل دهب مصطفى بالرطانة: (إنت الزول ده تعبان معاه كده ليه؟ هو أكبنجننا واللا إيه؟) فرد عليه مصطفى بالعربي: (هو ما أكبنجننا لكن سوداني ومعلم ذو كفاءة.) ومنذ ذلك اليوم أصحبت استخدم كلمة أكبنجننا وسط الأصدقاء المحس، مع بعض الكلمات الأخرى التى التقطتها منه ومن فاروق كدودة عليهما رحمة الله. وفي خلال تلك الفترة كنت أعمل بالفصول المسائية معلماً للإنجليزية، وكان مصطفى، الأستاذ الجامعي، يتولى عني حصص مساء الخميس دون أجر لأني كنت أذهب لأسرتي بسنار في عطلة نهاية الأسبوع. وبعد تسعة شهور وبعد تدخل أيضاً من صديقنا المشترك إبراهيم دقش وصديقه الراحل محمد الحسن أحمد أرجعتني الوزارة لوظيفتي بأثر رجعي، منذ تاريخ عودتي من تشيكوسلوفاكيا، ونقلتني للعمل بمدرسة في الخرطوم بحري. ولكني كنت قد قدمت أوراقي لجامعة الخرطوم بإيعاز من الدكتور مصطفى الذي أدخل أوراقي لمجلس كلية الآداب بعد موسم القبول بعدة شهور، باعتباري أصلاً مؤهل لدخول الكلية، بالإضافة لدبلوم بخت الؤضا، (وبالطبع لم نذكر شيئاً عن جامعة 17 نوفمبر)، وكان أستاذى مصطفى يدفع باتجاه تخطّي السنتين الأوائل وقبولي بالسنة الثالثة رأساً، ولكن المجلس رأى بأن البداية يجب أن تكون من السنة الثانية حتى أتمكن من اجتياز الشهادة المتوسطة، ولأنني بعد ذلك أستطيع أن أواصل بالآداب أو أتحول إلى كلية الاقتصاد إذا تخصصت في العلوم السياسية على سبيل المثال؛ وبما أن العام قد أوشك أن يتصرم (ونحن فى يناير 1974)، وامتحان المتوسطة على الأبواب (في مارس)، فلقد قبل مصطفى بقرار المجلس، وقبلت به بالطبع؛ وبدأت الدراسة، وبعد شهر واحد دخل الطلاب في أجمل إضراب مر علي فى حياتي، إذ أغلقت الجامعة حتى يوليو، فكانت تلك فرصة وقعت لي من السماء تمكنت خلالها من إعداد نفسي للإمتحانات بنفس هادئ. وفى نفس الوقت ظللت أكافح لكي أحصل على بعثة داخلية من الوزارة لأتفرغ للدراسة مع كامل راتبي، ولقد نجح ذلك المسعى لأن الوزارة كانت ملتزمة بأربع منح سنوية لمعلمي الوسطى الذين يتم قبولهم بجامعة الخرطوم، ولم تكن هناك منافسة فى هذا المجال، إذ كان كل المتقدمين أربعة فقط.

وبالطبع لن أنسى عام 1976 عندما أتيت للدكتور مصطفى بأوراق صهري شقيق زوجي محمد الحسن السيد الذي تخرج في جامعة القاهرة فرع الخرطوم وقدم لوظيفة مخرج بالتلفزيون؛ فأخذ مصطفى الأوراق وذهب لمدير الجهاز الدكتور أحمد الزين صغيرون العائد من أدنبره كذلك، ولم يطلب منه أن يعامل محمد معاملة استثنائة إنما فقط أن يتم فحص المتقدمين بشفافية ونزاهة وعدل حتى يجد أمثال محمد فرصة في منافسة شريفة وموضوعية، وقد حدث بالفعل أن أشرف المدير Mr. Big Man) كما كان يناديه مصطفى) على ذلك الموضوع، إذ كانت تلك الأجهزة - الإذاعة والتلفزيون - حكراً لأسر معينة من برجوازية العاصمة المثلثة، ولكن هذه المرة فتحت الفرص أمام أبناء الكادحين السودانيين بالقسطاس، وكان محمد السيد  أحد المحظوظين الذين تم تعيينهم في ذلك العام.

وبعد أن أكملت الجامعة في 1978 التحقت بجامعة جوبا مساعداً للتديس، ثم أوفدت في بعثة لأدنبرة عام 1979، وحيثما ذهبت هناك وجدت إشعاعات السمعة الطيبة الذي تركها مصطفى وراءه. وعدت للخرطوم عام 1985 بعد الانتفاضة، وكان مصطفى مستقراً بشعبته، مع القيام ببعض الأنشطة الأخرى في مجلس إدارة KIPS "مدرسة الخرطوم الابتدائية للتدريس بالإنجليزية"، وفي كافة لجان المناهج بوزارة التربية التي كان البروفيسير مصطفى ينتدب لها بإنتظام، ومدرسة الخرطوم الصيفية للغة الإنجليزية KSSE التى أسسها وأشرف عليها.

وأردت أن "أتخارج" من جوبا نسبة لظروفي الأسرية، وتقدمت باستقالتي من جامعة جوبا وبطلب للعمل في كلية التربية بجامعة الجزيرة، وأخبرت مصطفى باعتباره referee قام بتدريسي في كل من بخت الرضا وجامعة الخرطوم، وأرفق طلبي بتوصيته؛ وبالفعل انضممت لهيئة تدريس جامعة الجزيرة، وبقيت بها إلى أن جاء هذا النظام الذي أحالني للتقاعد. وفي نفس تلك الأيام، ترك مصطفى السودان مكرهاً أخاك وذهب لجامعة أبها بالعربية السعودية، وظل بها حتى تقاعد بصفة نهائية ليجلس مع الأسرة بمنزلهم فى حي شمبات الأراضي، إلى أن أخذ رب العالمين وديعتهذات يوم كالح السواد من هذا الشهر.

لقد نشأ مصطفى في زخم الأربعينات والخمسينات بعطبرة، وشارك في تظاهراتها وندواتها وأجوائها المضمّخة برائحة الغاز المسيل للدموع وبأصوات الخطباء من أمثال قاسم أمين ومحمد السيد سلام وهم يحدون ركب الثوار نحو معارك التحرر الوطني؛ وقد أخبرني إنه كان عضواً بهيئة السلام السودانية فرع عطبرة، أي كان يصنف نفسه ضمن القوى التقدمية. ولقد شبّ مصطفى  عن الطوق وهو محب لوطنه ومتفان في خدمته بمجال تخصصه وهو تدريس اللغة الانجليزية. وبالطبع لم يكن مصطفى من النوع النرجسي الوالغ في الملذات، أو الباحث عن الشهرة والظهور، إنما كان من الزاهدين الذين وصفهم حديث المصطفى عليه الصلاة والسلام: (أهل الجنة كل ذي طمرين لا يؤبه له، ولو وزع نوره على الناس أجمعين يوم القيامة لوسعهم.) ولقد ترك مصطفى وراءه خدمة ناهزت نصف القرن بالسودان دون أن يتم تكريمه أو حتى ذكره، إذ يبدو أن الأجواء قد ازدحمت والآفاق سدت بالصعاليك والسوقة ومتوسطي الذكاء the mediocrity وضامري الثقافة الذين يجهلون فيما يجهلون اللغة الإنجليزية وآدابها واللغة العربية نفسها، وضاربي الدف وحارقي البخور والثقلاء.                      ومن يحتاج لتكريم من مثل هؤلاء السفلة؟

تكفي تماماً المكانة التي يحتلها مصطفى في قلوب طلابه وزملائه وأصدقائه وكل من جمعته به دروب الحياة؛ فنسأل الله أن يتقبل مصطفى محمد عبد الماجد بين الصديقين والشهداء  وحسن أولئك رفيقاً.

والسلام.


fdil.abbas@gmail.com

 

آراء