الترابي .. فصام الخلاوي والسوربون
aloomar@gmail.com
الدكتور حسن عبدالله الترابي أول إثنين شغلا الرأي العام السوداني نصف القرن ويزيد. كلاهما أربكا المشهد السياسي بين النهرين طوال هذه الحقبة. إذا صدق تشخيص الدكتور منصور خالد أن الإمام الصدق المهدي يعاني من فصام الجزيرة أبا وأكسفورد ففي شخصية الترابي إشتجار بين الخلاوي والسوربون. حوار يحفظ القرآن الكريم بأربع قراءات وخريج يتحدث في طلاقة أربع لغات.
الرجل لم يعد إلينا من باريس كما حال الدكتور طه حسين إلى القاهرة متسلحا برؤية تثويرية في حقل دراسته. كذلك لم يرجع متأبطاً مشروعا نهضوياً كما فعل رفاعه الطهطاوي. القاسم المشترك أن ثلاثتهم من دعاة التنوير والتجديد. ربما الصدفة السياسية دفعت الترابي بعيداً عن حقله الأكاديمي المعرفي.عودة الدكتور الحقوقي تزامنت مع نضوج الأزمة إبان النظام العسكري الأول. غواية الخطابة والتفاعل الجماهيري جرفتا الرجل العائد من الغربة الى حضن العمل السياسي. فصام الخلاوي والسوربون ساقه إلى"الأخوان المسلمون". شخصية الدكتور تنطوي كذلك على عنصرغلاب آخر وضعه في مواجهة معارك لا نهاية لها خاضها بقدر كبير من الجرأة والجلد .
أبرز أعراض فصام الخلاوي والسورون يتجسد في استبدال لقب الشيخ بشهادة الدكتوراة. الرجل أصبح أنموذجاً به يقتدي أصحاب الشهادات العليا والدنيا من أكادميين وأطباء ومهندسين ومحاسبين أصبحت هامات طموحتهم الظفر بذلك اللقب الصادر أصلاً من الخلاوي. للترابي يتأصل الفضل قي الخروج بالأخوان المسلمين من جماعة دعوية للتطهر إلى فضاء العمل السياسي المفتوح على الجماهير.
على هذا الدرب لابد للشيخ وجماعته من الإصطدام بطائفتي الأنصار والختمية. المشروع الحداثي يستهدف ترويج الإصلاح الديني وتجديد العقد الإجتماعي وفق منظور إسلامي لا مكان فيه للطواغيت والقداسة. هذا المشروع يذهب حد الإستيلاء على السلطة من أجل تطبيقه. أخطر عرض في فصام الخلاوي والسوربون أن الترابي راكم على هذا الطريق طائفة ثالثة أكثر تثبيتاً وأوفر شراسة. هذه الطائفة لم تمنح ولاءها للشيخ من منطلق إنتماء مسبق أو حب مطلق. هؤلاء انجذبوا للشيخ قناعة بطروحاته أو إنبهاراً بشخصيته أو سحراً بخطابته أو انجرافاً وراء إسلاميته. بما أن هذا الإنتماء ليس كما في الطائفتين السابقتين فلم يكن الشيخ محصنا ضد التمرد والعصيان من الداخل . فصام الخلاوي والسوربون جعل على بصيرة الشيخ شيئاً من غشاوة فلم يتحسب لمثل هذا الخطر الكامن في الداخل.
في رصيد المفكر نحو من خمسة عشر مؤلفاً فكرتها المركزية الغالبة التجديد والتوحيد. هذه الساهمات الفكرية عززت قدر الترابي في الداخل كما منحته مكانة مرموقة في الخارج. عدد من الفصائل الإسلامية وبعض من قياداتها رأت فيه مرجعية يحتكم إليها. الصيت الخارجي زاد من علو كعبه على منافسيه وخصومه في الداخل. مؤلفات الشيخ تفصح عن عقلية موسوعية إلى جانب ذهنية متوقدة بالإضافة إلى قاموس لغوي ثر خصيب .
الصورة الزاهية أصابتها تشوهات كثير منها أليم. مصدر تلك التشوهات يكمن في صعوبة المواءمة بين التنظير والتطبيق على المسرح السياسي. وقتئذ تتبدى عقدة الفصام أكثر إستحكاماً. من غير المنطقي قبول خريج السوربون تنصيب عسكري مغامر أميراً للمؤمنين كل مؤهلاته تتمثل في اعلان تطبيق قوانين الشريعة. هذا شعار يستدرج دراويش الخلاوي. الترابي يفعل ذلك رغم إدراكه العميق أن الحركة الإسلامية مكلفة بالهداية الصبورة بدلاً عن الزجر والترهيب. أخطر من ذلك أن تلك العقوبات تطال فقط المغلوبين في الأرض دونما مقابلة الشريحة الفوقية بالمجازاة. حفل إعدام محمود محمد طه مشهد لا يليق بعقلية مفكر أو ذهنية سوربوني .هو مشهد تجفل عنه قلوب شيوخ الخلاوي وعيونهم .
الترابي لم ينج مثل غيره من أزمة القيادة السياسية السودانية إذ ظل الصراع على السلطة يستبد بها على نحو يغلب الذاتي والحزبي على العام والوطني. هو نفسه ظل أسيراً لهذه العلة منذ تقلده أمانة جبهة الميثاق أو الجبهة الإسلامية، المؤتمر الوطني، الحركة الإسلامية أو المؤتمرالشعبي العربي. لم تكن المهارات التنظيمية أو القدرات الفكرية وحدها ترفع الرجل إلى المكث في هذه المواقع المتعددة. في ذلك عقدة تطفئها روح الخلاوي ولا تؤججهاعقلية السوربون. ربما الروح أو العقلية تكفي لتحريض الشيخ على ضرورة الإهتمام بأمر تنشئة جيل جديد. نعم هناك حواريون وتلامذة غير أن هؤلاء أعدوا أنفسهم بأنفسهم لكنما غابت عن الحركة المؤسسات مؤدية مثل هذه المهام.
مشروع الترابي السياسي ظل مهجوساً بشهوة السلطة منذ إصطدامه بجيل الدعاة البناة داخل جماعة الأخوان مروراً بالخروج إلى ساحات المنازلة والمقارعة ثم الإنقضاض على السلطة فمرحلة التمكين حتى بلوغ الفتنة والإنقسام. تغليب الكاريزما على المؤسسية وغلبة الشهوة على نشر ثقافة تكريس الحق ودرء الباطل أفضيا إلى وبالات على الحركة والشيخ. بعد الإستيلاء على السلطة إستشرت أعراض الجبر والإكراه مقابل إنحسار مظلة الحريات. عوضاً عن العفة والتبرؤ من المال العام إتسعت رقعة إنتهاك حرمتي السلطة وممتلكات الدولة وعائداتها.
فتنة السلطة وطغيان الطائفة الثالثة حجبتا الشيخ عن الإصغاء لأصوات ناصحة في وقت مبكر من مغبة إنفراط الإنضباط والخوض في الثروة والسطوة والجبروت والثارات بلا وازع أو محاسبة. هي أصوات نـأت بنفسها عن بريق السلطة وزيفها إذ أعلت مصالح الحركة والوطن على الكسب الذاتي. في منعطف حرج لم يرد في حسابات الشيخ إتخذ التناصح بين الأخوان مظاهر التناطح.
كذلك جرف اإنغماس أهل السلطة الجدد في الثروة والإستئثار بامتيازات الوظائف بعيداً عن تقديم أنموذج إسلامي يقنع العالم والغرب خاصة بقدرته على إستيعاب الملل والإثنيات والطوائف في بوتقة واحدة متحدة. على النقيض إنزلق الوطن إلى التجزئة والشعب إلى الإنشطار. ما كان ذلك في خاطر خريج السوربون المنافح بالتوحيد والوحدة الحالم بوطن منفتح على الخارج سلاماً وانسجاماً . ما كلف الله حماة الدين بإستئصال إخوانهم في الوطن .
مع أن المفكر أعلى من قدر المرأة حداً منحها حق القيادة والإمامة وزواج الكتابي غير أن المرأة تعرضت لإذلال مهين كما لم يحدث في أكثر فصول السودان إظلاما. ماكان ذلك ليرضي خريجي السوربون أوشيوخ الخلاوي .
على الرغم من تحذيره كتابة وخطابة من مغبة التضييق على الآخرين ومصادرة حقوقهم في المشاركة بالرأي في الأمور العامة إلا أن المتجبرين في المناصب إحتكروا فيما إحتكروا حقوق التداول في الشأن العام وصادروا حقوق الآخرين في الكلام المباح .
في هذه الغابة تعرض عديد من المواطنين إلى إجحاف مبين وصنوف من التعذيب كأنما لم يدع الشيخ إلى تدافع الحق والباطل سلماً مع أن في القرآن قصص عن أعمال أنبياء فيها من الأخطاء مثل ما فيها من الصواب. فيها استشرت كذلك مظاهر العصبية الضيقة وممارسات الكبت والقمع والقهر والنفاق. تحت بصرالمفكر تفشت مظاهر الدجل وبيوت الدجالين ِ حفل إعدام محمود محمد طه مشهدع يقشعر له وجدان كل سوربوني ذي بصيرة أوشيخ خلوة صاحب لوح محفوظ. فيها كذلك انتكست مسيرة مضادة للجهل والتخلف . ربما تشكل أعراس الشهيد أكثر تجليات تلك الإنتكاسة تخلفاً
برؤى خريج السوربون وروح المتصوفة نهض الشيخ محاولاً إعادة المشروع الهابط من عليائه إلى مداره. الحوار الوطني المنصوب ليس سوى رؤية ذاتية للشيخ استهدف تصحيح أخطاء إرتكبها أو شاهدها تقع تحت بصره. من الصعب أن ينهض أحد بعده بالمشروع الوليد. من المستحيل أن يكون للمؤتمر الشعبي فعالية بعد رحيل الترابي. تلك مظلة نصبها الشيخ و استعصم بها إلى حين.كما ليسهناك من يملك إكمال حبكة الحوار وسيناريوه لايوجد من يتمتع بكاريزما تفعيل
المؤتمر الشعبي. في الحالتين أستعيد رحيل جون قرنق المباغت إذ تبدد حلم السودان الجديد وانفرطت الحركة الشعبية.