مختارات من كتآب أمدرمانييآت وقصص قصيرة أخري
لأمدرمان مبزة علي باقي المدن فهي تلم شمل أقوآم وشعوب وقبائل السودان في تناغم ووئآم وسلآم وهي كما يقال عنها ( كرش الفيل ) ، وبقعة الأمام المهدي ، ولا أبغي الحديث عن احتوائها الفنون والأدب والريآضة والسياسة فهذا معلوم ومشهود ، ولكن أحكي اليوم عن جانب آخر منها وهو عن أفراد فارقوا دنيا العقلآء وانخرطوا في عالم المجانين وليس بطوعهم ولكن بغلبة أسباب الدنيا عليهم ، وهناك مقولآت عن الجنون منها قولهم ( الجنون فنون ) والجن بداو ة وكعبة الأندرآوة ) ولست أعلم الي الآن ما هي الاندراوة ، هل تعلمها أنت ؟ وأظن انها الجن الكلكي الذي لا علاج له ولا شفآء منه كما يقولون ، ونحن في السودان نخلط بين الأمرآض النفسية والعصبية والجنون فكل مصاب بها مجنون ( وكله عند العرب صابون ) ، والمجانين علي أشكال وألوان وكانوا يجولون ويصولون في امدرمان وبخاصة في شارع الموردة الرئيسي الذى يخترق المدينة من جنوبها الي شمالها وتقع أسواقها الرئيسية علي جانبيه .
أول هؤلاء المجانين هو الدخري وهذا منطقة نشاطه كانت محصورة في المنطقة المسمآة سوق الموية وتضم محلات جورج مشرقي ويوسف الفكي والسينما الوطنية ، وترآه نصف عار يلبس سروال قصير وتخصصه الجنوني في تكسير الأحجار وتفتيتها علي شارع الزلط وتراه منهمكا" في هذا العمل بهمة عالية وبغل شديد وكأن بينه ثأرا" وبين هذه الاحجار ، وهو بين الحبن والآخر يبرطم بكلام غير مفهوم وهو في عمله ذاك لا يحفل ولايلقي بالا" للسيارآت والناس ، وأذا سرنا جنوبا" بمحاذاة الشارع وجدنا رجلا" جالسا" بجانب البوابة الغربية لجامع الخليفة مرتديا" قميصا" وردآء باليين متسخين مادا" ذراعيه وماسكا" بيديه غطآء علبة معدنية يحدق فيه وعلي شفتيه ابتسآمة دائمة ، أنه كرضم ـ بضم الكاف وتسكين الرآءوضم الضاد ـ وكنت عندما أمر به أناديه كرضم فيرفع بصره لحظة مبتسما" ويعود الي تحديقه في غطاء العلبة ، وهو لا يتحدث الي أحدد ويظل مقعيا" في جلسته تلك الي المغرب فيقوم ويذهب الي منزل العم العقيد المتقاعد سليمان ابراهيم حيث ينام هناك ثم يعود في الصباح ليزاول حملقته في الغطآء المعدني الفارغ وهكذا دواليك في هذا النشاط .
ونستمر في السير جنوبا" فنجد رجلا" جالسا" في ظل الضحي أو واقفا" وهو نظيف الملابس البيضآء والعمامة ويحمل في يده كراسة وقلم وتسمعه يتكلم بكلمات وجمل انجليزية ويسجل في كراسته أرقام السيارات المارة ، واذا انقضي ظل الضحي ذهب الي السوق الكبير ودخل الدكاكبن وأخذ ينظر الي الأرفف ويسجل الأصناف في كراسته ، وكنت مرة في محل أبوستولو الأغريقي المجاور لمحل جورج مشرقي ودخل صاحبنا وبدون التحدث الي أحد أخذ في جرد الأصناف في الأرفف ويسجلها في دفتره ، وقال الخواجة وهو يضحك : المفتش وصل ، فهو معتاد علي زيارته في كل يوم ، وقيل عن هذا الرجل انه كان طالبا" بالكلية الحربية وفجأة ذهب عقله . ونتابع المسيرة جنوبا" فنجد عطا وهو نصف عار مثل الدخري ولكنه نظيف السروال ويحمل في يده عصا أو ماسورة ينظم بها مرور السيارات مثل عسكري المرور ويصيح وينهر في سائقي العربات ، وميدان نشاطه يمتد من امدرمان الي الخرطوم فقد وجدته يىنظم المرور في شارع الحرية بعد الكوبري ، وعطا هذا ابن عائلة في الموردة وله أوقات يكون فيها عاديا" ككل الناس ، وقابلته مرة في دكان أنور الفكي الخدرجي في سوق الموردة وكان نظيفا" حليق الذقن هادئأ" وكدت أن لا أعرفه ، وحرفته هي البنآء وقيل أنه كان يعرش في سقف بيت في الثورة وفجأة قفز الي الأرض وقام جاريا" ومنها وطار عقله، وغادرت السودان قبل عدة سنوات وتركته يزاول نشاطه في تنظيم المرور ... وحكاية عطا تذكرني برجل آخر كان موظفتا" بمصلحة البوستة والتلغراف قديما"عندما كان التلغراف بدائيا" وتشغيله بالمفتاح في حركة رتيبة مزعجة ( تك تك ترك ترك ) وفي انغماس ذلك الموظف في التشغيل توقف فجأة وأعتلي تربيزة المكتب ووقف عليها وصاح في زملائه : ( اسمعوا ! أنا نبي الله عيسي ) ومن يومها ( فكت منه ) ،
وموظف آخر سابق كنا نرآه بجانب حديقة الموردة بذرع الشارع من الجانبين منتفخ الجيوب وفي كل جيب يحشر أى ورقة يلقاها علي الأرض وكأنه سلة مهملات متحركة وفي بعض الأحيان تراه جالسا" يكتب في كراسة ويكلم نفسه ، وهو أيضا" من عائلة محترمة في الموردة وهو في الغالب نظيىف الملابس .
ونرجع الي السوق الكبير حيث تركنا الدخري وانهماكه في تكسبر الاحجار ، فقد كان هناك شاب يعمل عربجي ودخل في دورة تصوف ودروشة وكان صديقا" للحلاق علوب ، رحمه الله ،ودكانه في السينما الوطنية بامدرمان وقابلت العربجي هناك وهو يفتي في الدين ، ثم رأيته بعد ذلك وأظنه زاد جرعة الدروشة وهو يحمل راية بيضاء كتب عليها الشهادتين وهو يهرول تارة ويمشي تارة أخري وهو يصيح ( لا اله ألا الله ) ...
ويأبي الجنس اللطيف أن يترك ساحة الجنون لجنس الرجال وحدهم ، فكانت هناك في الستينات من القرن الماضي أمرأة اتخذت مسكنا" من الخيش والدلاقين تحت شجرة بالقرب من محطة الترام المقابلة لبلدية امدرمان ، وكانت تتبادل الأحاديث مع العابرين والمنتظرين الترام وبالطبع كانت كلها ( خارم بارم ) ، وللاسف أستغل أحد أبنآء الحرام غيبوبتها العقلية وحملت منه سفاحا" ، واختفت بعد ذلك وأظن أن أحدا" من ذوي القلوب الرحيمة ستر عليها وأواها ... هذه عينات من مجانين امدرمان ، والشيئ المشترك بينهم أنهم كانوا غير مؤذيين وكل واحد منهم يعيش في دنياه الخاصة ، ونسأل الله أن يلطف بأمثال هؤلاء الذين انفصموا من عالم الوعي والفكر وهم كثيرون في عهد حكومة الأخوان المسلمين ، فمنهم من فقد عقله نتيجة التعذيب ، ومنهم من ركبه مرض نفسي أو عصبي ، وقال لي صديق أن واحدا" من الجن صرح قائلا" ( والله شكيت في أني جن لأنه ناس الأنقاذ عايزين يجننوني أنا ذاتي . .
هلال زاهر الساداتي
5/أبريل / 2016
helalzaher@hotmail.com