حفريات لغوية: في كلمة “جلابة”

 


 

 

كلمة جلابة مشتقة من الفعل جلب يجلب جلبا فهو جالب وجلاب والاخيرة صيغة مبالغة وإليها نسب فقيل جلابي وجلابة. واصل الجلب هو سوق البهيمة الى السوق لبيعها. 

ومن ذلك ما ورد بكتاب الطبقات في قوله: "ان رجلا.، جلب سعية الى سنار فباعها"(122). وقوله أيضا في موضع آخر: "فان الشايقية الجالبين الخيل قالوا هو الفقيه، شيخ". ص 227. أي الذين يسوقون الخيل الى الأسواق لبيعها. ومعنى الجلب هذا ومشتقاته لا يزال متداولا حتى الآن. يقولون (شمال كردفان): لاقيت ناس فلان في السوق جالبين غنم.
وهو المعنى الذي ورد بالمعاجم. جاء بمعجم لسان العرب :"جلب: الجَلْبُ: سوق الشيء من موضع الى آخر. والجلَب: ما جُلب من خيل وابل ومتاع. وما جلب القوم من غنم وسبي. والأجلاب: الذين يجلبون الإبل والغنم للبيع. يقال جلبت الشيء جلبا فهو مجلوب. والجليب الذي يجلب من بلد الى غيره".
ومع دخول حياة الحضر شيئا فشيئا وتطور التجارة بدا الجلب يطلق على جلب البضاعة بواسطة التجار من مكان الى مكان وصار يطلق على التجار لفظ جلابة والذين كانوا يتنقلون ببضاعتهم من قرية الى قرية على الدواب. والتجار الكبار كانوا يجلبون البضاعة من بلاد الريف اي مصر. وقد وردت كلمة جلابة بمعنى تجار في كتاب الطبقات أكثر من مرة ومنها قوله: "قال نحن طلاب نقرا القرآن في خلوات الشيخ بدوي ختت جلابة بين المغرب والعشاء فيها ستماية جمل بلا الزمل والخيل. قلنا هذه الليلة البوابين يبيتوا القوا من كثرة الأضياف". ص 120.
وقوله في مكان آخر: "الجلابة تبيت عنده في العيلة فونج وتقيل عنده في الجديد وتبيت في ألتي"(121). وقوله كذلك في موضع آخر: "فلما دخلنا ابو حراز الجلابة شالت مدني. قلنا نزور الحاج عبد الله ونلحق الجلابة". ص 229. شالت مدني أي سارت الى مدني.
وهكذا كانت كلمة جلابة في زمن ود ضيف الله تعني جماعة التجار دون زيادة او نقصان ومن غير اي ظلال اثنية أو جهوية.
أما مع مطالع القرن العشرين فتغيرت دلالة كلمة "جلابة" من المعنى العام الى معنى خاص لتدل في ولايات الغرب (دارفور وكردفان) على التجار من قبائل الشمال النيلية مثل الشايقية والجعليين والدناقلة الذين يمتهنون التجارة ويقيمون بمدن كردفان ودارفور.
ومن اغاني البنات التي وثقت لصعود طبقة التجار الجلابة في مدن غرب السودان في الثلاثينات أغنية "سيرة" تؤديها عائشة الفلاتية وهي أغنية: الدار الما داري انا مالي بيه * بس خلاص يا بلالي انا مالي بيه. وفيها بيت يقول: "بشاور أمي كن ترضى كن تابا * ببني لي بيت في حي الجلابة". فهي تتمنى لها زوجا من اولاد التجار الجلابة حتى لو رفضته امها لتكون من سكان حي التجار الراقي بالمدينة. ولا شك عندي ان الفلاتية قد اخذت هذه الأغنية نصا ولحنا من دار الجوامعة بشمال شرق كردفان. فالجوامعة معروفين بغناء الدلوكة والسيرة وقد انتقل التم تم من ديارهم عن طريق سواقي اللواري الى كوستي المجاورة ثم الى ام درمان في الثلاثينات.
وفي الاغنية بيت يقول: "يا يمه، يا إيا، الجمال شالت وماشه البديرية". إيا حرف نداء بمعنى يمه. وهو من لهجة الجوامعة. يقولون: يمه ويقولون إيا. كما انهم يقولون: يبا، بمعنى يابا كما هي عند الخليجيين. وقد انقرضت هذه الكلمات الآن. والبديرية ديارهم غرب الابيض بينما تقع ديار الجوامعة شرق الابيض.
ولكن مع توسع التعليم والهجرة من الريف الى المدن ومع انفتاح القوميات على بعضها البعض وتحقيق قدر من الاندماج، اخذت كلمة جلابة في التراجع مع بداية النصف الثاني من القرن العشرين حتى كادت ان تتلاشي في الربع الاخير منه. غير ان بروز مظالم التهميش والصراع بين المركز وحركات الهامش المسلحة أدى إلى احياء الكلمة من جديد في الخطاب السياسي في فترة من الفترات، ليتجاوز مدلولها التجار الشماليين المقيمين بمدن الغرب، ليشمل كل العناصر النيلية بشمال السودان.

abusara21@gmail.com

 

آراء