في تذكار الموسيقار محمد وردي (5 من 6)

 


 

 


shurkiano@yahoo.co.uk

في الأغنية السياسيَّة

كذلك في تعريفه للأغنية السياسيَّة يقول الكاتب الصحافي معاوية يس: "هي نص غنائي ومضمون سياسي قد لا يرتبط بحدث سياسي معيَّن، أو واقعة وطنيَّة محدَّدة مثل النشيد، لكنه ينمُّ عن وجهة نظر ذات مضمون سياسي محدَّد". فلا ريب في أنَّ السُّودان قد مرَّ بحوادث كالحات سبَّبت في عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي معاً، مما حدت ببعضهم أن يتوجَّهوا إلى الله تعالى بالضراعات والابتهالات عسى أن يفرج كربتهم، ويجعل لهم من أمرهم مخرجاً، وأخذ الآخرون الأمور بأيديهم وامتشقوا السِّلاح في سبيل التغيير، واكتفت طائفة ثالثة بالتباكي، وشرعت طائفة رابعة في المقاومة السلميَّة شعراً وفناً وتظاهرة وهتافاً. ومع هؤلاء، كان وردي من أولئك الطائفة الفنيَّة التي تصادمت مع الأنظمة العسكريَّة الشموليَّة التي حكمت السُّودان.
بدأت متاعب وردي السياسيَّة في عهد الحكم العسكري الأول في السُّودان (1958-1964م)، وذلك بعد أن تفاعل إيجابيَّاً مع حكومة الفريق إبراهيم عبود العسكريَّة كردِّة فعل للمشكلات التي حلَّت بالبلاد كأزمة الكبريت المستفحلة، وأزمة مثلث حلايب التي أُثيرت إبَّان حكومة رئيس الوزراء عبد الله خليل. وعلى الفور كتب وردي، والذي كان يعمل معلِّماً بمدرسة الديوم في الخرطوم، نشيداً يقول مطلعه:
أفرح وطني هلِّل وكبِّر في يوم الحريَّة
في 17 بُعثت ثورة ثورتنا السلميَّة
جيشنا الباسل هبَّ وعلى راية الجمهوريَّة

بيد أنَّ من أكثر الأعمال التي خلَّدت نضال الشَّعب الإفريقي ضد الإمبرياليَّة وحبَّه للحريَّة، هو ذلكم النَّشيد الذي أنجزه وردي بمناسبة اغتيال الزعيم الكونغولي باتريس لومومبا (1925-1961م)، والذي لقي تعاطفاً كبيراً من الشعب السُّوداني. وقد سرت ثمة معلومات وباتت متداولة وسط الشَّعب السُّوداني بأنَّ الرئيس المصري جمال عبد النَّاصر قد وضع خطة لتهريب لومومبا إلى مصر، ولكن الحكومة السُّودانيَّة رفضت التعاون بفتح الأجواء السُّودانيَّة. وكان النَّشيد، الذي كتبه الشاعر إسماعيل حسن، قد بات يخلق متاعباً سياسيَّة لوردي مع حكومة العسكر يومئذٍ حتى تنكَّر له شاعره وتخلَّى عنه، مما دعا الأمر أن يتبنَّاه وردي. إذ يقول مطلعه:
أنا إفريقي حر والحريَّة في دمي
سوف أحطَّم الأغلال مهما كفَّفوا فمي

وبوسعنا هنا في هذا المجال أن نقول قد أصاب الشاعر الهندي طاغور الحكيم حين نطق قولاً: "ثقيلة هي قيودي والحريَّة هي مناي، ولكنني لا استطيع أن أحبو إليها، فمن استعبدني رفعوا لافتات الفضيلة وجعلوها حائطاً بيني وبين حريَّتي."
فلنعد إلى الشاعر محجوب محمد شريف. وفي حق محجوب محمد شريف (1948-2014م) يقول مهدي يوسف إبراهيم: "إنَّ محجوباً لا يكاد يتغزَّل بجسد المحبوبة على الإطلاق، ولا يكاد يذكر شيئاً منه سوى العينين وهاتان تبرزان في صورة صوفيَّة البهاء والنَّقاء، أو الحضن الذي يتَّخذ معنى الملاذ أكثر منه مكاناً جسديَّاً." علي أيٍّ، فمن القصائد الوطنيَّة، التي فيها عبَّر الشاعر محجوب محمد شريف عن تطلُّعات الشَّعب السُّوداني وأمانيه وآلامه، نذكر نشيد "وطنا" و"يا شعباً لهبت ثوريتك" و"مساجينك" و"البديل" و"سامي المقام"، التي تغنَّى بها وردي كلها؛ وكذلك تغنَّى وردي بالنشيد المايوي "يا فارسنا وحارسنا"، والذي كتبه كذلك الشاعر ود شريف، حيث جلب هذا الأخير لوردي متاعباً شتى. إذ يقول ود شريف في النشيد إيَّاه:
يا حارسنا وفارسنا
يا بيتنا ومدارسنا
.
.
.
أنت يا مايو بطاقتنا التي ضاعت سنينا
أنت يا مايو ستبقي بين أيدينا وفينا
وسنحميك جهارا ونفديك اقتدارا
لم تكن حلماً ولكن كنت للشَّعب انتظارا

فبرغم من أنَّ وردي كان قد تعرَّض في حياته السياسيَّة والفنيَّة لصنوف من الاعتقالات والمصائب إلا أنَّه لم يملك كآبة الطالب التي ليست سوى منفسة، ولا كآبة الموسيقار التي ليست سوى تخيُّلاً، ولا كآبة رجل البلاط التي لا تعدو كونها حباً للظهور أمام الجمهور. فالحياة مليئة بالكلاب النابحة التي قد لا تعضي، لكنها يمكن أن تغرس مخالبها في كل مخلوق عابر وتنشر رعباً. كما أنَّ الحيوانات المفترسة لا تتحكم في حيوات أمثالها بالقتل فحسب، بل إنَّها لتخلف مساحة للخوف. ومع ذلك، كان وردي صنديداً في مواجهة العسكر الطغاة، وكان لا يهاون ولا يهادن في سبيل الحريَّة لنفسه ولسواه. وكان يقدم على المخاطر برغم من علمه أنَّ تحدِّيه للسلطات وتصدِّيه لها قد يجلب له المتاعب. إذ كان يؤمن ولسان حاله يردِّد ما قاله الرئيس المصري الرَّاحل جمال عبد النَّاصر بأنَّ الخائفين لا يصنعون الحريَّة.. والمتردِّدين لن تقوى أيديهم المرتعشة على البناء. أفلم يقل الفيلسوف الألماني الكبير عمانوئيل كانط (1724-1804م): "إنَّ الكسل والجبن هما علة بقاء البعض من الناس عاجزين وقاصرين طوال حياتهم، بعد أن خلصتهم الطبيعة من كل وصاية غريبة عليهم، وفي الوقت ذاته، فإنَّ الكسل والجبن هما سبب تطوُّع الآخرين في أن يفرضوا وصاياهم عليهم؟" أجل! وقد أحسَّ وردي بلسع الظلم وسياطه بعدما غرقت حلفا وتمَّ تهجير أهلها عنوة وقسراً إلى حلفا الجديدة، حيث تعرَّض وردي – مع من تعرضوا – للاعتقال والاستجواب بواسطة شرطة النِّظام، وكان ذلك بعد مشاركته لأهله الحلفاويين في الذَّب عن أراضيهم والحفاظ على ممتلكاتهم. إذ امتاز وردي بعاطفة إنسانيَّة نبيلة هي التي أسعدته حيناً، وجنت عليه من الصِّراع مع السلطة بسبب مواقفه الشجاعة حيناً آخر.
ظلَّ وردي يصدح للشّعب السُّوداني بصوته الكناري ومواهبه المستعظمة حتى الرَّمق الأخير من عمره، وهو الذي كان يردِّد في أكثر ما يكون الترديد بأنَّه لسوف يطرب الإنسان السُّوداني طالما بقي له شيء من الحياة. وفي الحق كان هذا ما كان يواظب عليه ويقوم به حتى حينما أقعده المرض وأرهقته شيخوخته وتقلُّبات الأيَّام، ومع ذلك ظلَّت عاطفته ضخمة مشبوبة ومشتعلة الأوار، والتي لم تهدأ ثائرتها إلا بعد أن فاضت روحه إلى بارئها رحمه الله تعالى رحمة واسعة. فلا تحكمنَّ على الناس بالعمر، ولا تأخذنَّ عليهم السنين كنمذجة، حتى نعثر على ما يضاهيها تعبيراً وقوة في الرُّوح. فقد يركض مسرعاً من بلغ السَّبعين من عمره ما دامت الرُّوح باقية؛ فالسِّن بالرُّوح لا بعدد السِّنين، وكثيراً ما يتمثَّل الناس ببيتي الشاعر العراقي البياتي:
سنِّي بروحي لا بعد سنيني ولأسخرنَّ غداً من التِّسعين
عمر إلى السَّبعين يركض مسرعاً والرُّوح باقية على العشرين

 

آراء