وطن للرحيل: في صحبة بدوي مصطفى الشيخ ورفاقه
أم درمان فبراير 1996م
عدت من مدرستي بشير محمد سعيد الثانوية لمنزلنا بحي الواحة أم درمان في تمام الساعة الثالثة عصرا ، فوجدت أمي قد أعدت لي طعام الغداء سريعا علي غير العادة ، وطلبت مني أن أبدل ملابسي وأتناول طعامي لأننا سوف نخرج عند الرابعة عصرا للخرطوم .
سألتها فيما العجلة ؟
فردت علي بحزم و أقتضاب وعلامات التوتر على محياها قائلة لي أن أبوي (جدي) بدوي مصطفى قد تدهورت حالته الصحية وقد تم نقله لمشفى دار الشفاء الخاصة بالخرطوم .
كنت في ذلك اليوم نهارا قد مررت كعادتي و بصحبة صديقي دكتور سفيان مالك بعد أنتهاء اليوم الدراسي و في طريقنا لموقف مواصلات ( الكلية الحربية – الجرافة) على سوق الكتب القديمة جوار مبنى البوستة أم درمان .
كنا نحاول كعادتنا أن نتطقس و نكتشف جديد المعروض من الكتب و الروايات علنا نظفر بمقتنى جديد نضمه لمكتبنا المنزلية نشبع به ولهنا للمثاقفة و القراءة و الأطلاع .
وبينما أنا أجول بين المكتبات و الباعة شدني في ظهيرة ذلك اليوم كتاب بعنوان ( موت دنيا ) للكاتبين محمد أحمد المحجوب و عبدالحليم محمد .
ظهر لي من حالته الرثة أنه كتاب جميل ونادر و جاذب وقد يستحق أن يقتنى ، و ربما أيضا يستطيع أن يعبر من عنوانه الغريب و المثير عن أحزاننا و آلامنا اليومية و يخاطب الحالة المميتة التي يعيشها جيل اليوم !
كل الذي كنت أعرفه وقتها عن الكاتبين أن أحدهما مثقف ضليع تقلد منصب وزير الخارجية ورئيس الوزراء في الفترة الديمقراطية الثانية ، و ضجت و أذدحمت صفحات التاريخ الوطني بنقل ملكاته و خصاله الأستثنائية المميزة و دوره الوطني المشهود له بالخير و التجرد الخالص لحب هذه الأرض ضد الأستعمار الأنجليزي .
وأما الثاني فهو من رجال نادي الخريجين ومن الذين عاصروا كل مراحل التطور الدستوري و القانوني و النضالي للنخبة المثقفة السياسية في تلك الحقبة .
وهو أيضا أول طبيب سوداني ينال شهادة عضوية كلية الأطباء الباطنية واول إختصاصي للأمراض الباطنية، وقد كان أول سوداني يعين مديراً لمستشفى أم درمان ، ثم أول سوداني يعين مديراً لمستشفى الخرطوم ثم في مجال الرياضة أول رئيس للأتحاد الأفريقي .
أقتنيت الكتاب و ظللت طيلة مسافة الطريق للمنزل ألتهم صفحاته نهبا و أستراقا ، أدقق النظر وأقلبه مابين الكلمات و العبارات الرصينة و المسبوكة فيه بعناية العارف و الحاذق المحب للسان لغة الضاد .
شدني التحرر اللفظي و النقاء النفسي للكاتبين وهما يسردان تجاربهما بتجرد و صدق في صفحات هذا الكتاب .
قلت قطعا أنهما يشعران بأنهما في بيئة حرة خلاقة و يعيشان في زمان غير زماننا هذا ، زمان فيه السودان بلد حر يحمي كل صنوف الحريات و يرعى كل ألوان الأبداع ، يحترم حقوق الأنسان و يقيم للثقافة و الأدب وزنا و أعتبارا .
أنها فترة الأربعينيات يا هذا !
وربما قصد الكاتبان فترة الثلاثينات أو قل العشرينيات من ذلك القرن وهما يسردان قصصهما ، ولكن ما الضير في ذلك ؟
بل وما الأستغراب أن يكون السودان قبل قرن من الزمان أفضل حالا من اليوم !
ألم يقل السير جيميس روبرتسون آخر سكرتير أداري أنجليزي في السودان في مذكراته التي عنونها ( السودان من الحكم البريطاني المباشر الى فجر الأستقلال ) أن هذه البلاد التي رحل أليها و عين فيها مفتشا أول مرة كانت منذ أوائل القرن العشرين صاحبة مركز سياسي دولي فريد .
دخلت سريعا الى عالمهما وجلست في صالون مدام ( دي باري) الذي كان يختلف ويتردد عليه المحجوب وصحبه وتدور فيه أحاديث الأدب و الفن و السياسة ، وتنشد فيه أيضا الأشعار الجيدة ، أشعار الحب و الهيام و أشجان الصدور و آلام الحرمان .
يقول المحجوب في رحلته أنه في يوم ما حضر مبكرا و أختلس النظر لما يدور هناك . وجد أن السيدة مدام دي باري تجلس لوحدها قبل أن يأتي رواد صالونها ، فأختلت به ثم سألته عن ظاهرة عجيبة لحظتها في أبناء جيله ، حيث قالت أن جلهم يتحدثون عن الأدب و الحب و الجمال وما في ذلك من عبث و مجون و لهو ؟
تململت قليلا ( والحديث مازال للمحجوب ) قبل أن أعزم في مصارحتها القول ، وأبين لها أننا جيل منكوب في حظه وربما في سودانه ، و يمكن لك أن تنعتيه بجيل السنين العجاف .
الجدب في حياتنا في جميع النواحي ، المادية و الأجتماعية و السياسية و الأدبية ، هي فترة من الزمن الصعب نعيشها اليوم ، فيها الأمل مضمحل و اليأس مخيم على النفوس ، فكان لابد أن يظهر نوع من الفكر الجديد .
توقفت هنا عن القراءة مبتسما و مذهولا من شكوى المحجوب لمدام دي باري ، وأنا أردد بين خلجات نفسي أيعقل أن تكون دنياهم بنفس السوء الذي يعتري دنيانا ؟
دنيانا الجدباء من الأدب و الفن و الخير ، والغنية بالكيد و الظلم و القهر والجهل و المرض !
لقد سرني جدا عندما رأى الكاتبان أن قيمة الثقافة في دنيلهم تكون من صلب المعاش ، فالأدب الخالد لا يجد مادته ألا في حياة الناس ،والقصة لاتكون مؤثرة جديرة بالقراءة ألا أذا كانت وقائعها من صميم الحياة التي يحياها الناس .
وأما الشعر فهو لا يعدو أن يكون نظما لا يحرك المشاعر ألا أذا عاش الشاعر قصيدته جيدا قبل أن ينظمها ، ويتأثر بعدها بكل كلمة فيها قبل أن يخط سطرا جديدا عليها .
وقد أذكر أن المحجوب قد شطح بعيدا في تمجيده للشعر و الشعراء ، فهو يرى الشاعر المخلوق الأسمى ، وربما أقرب مخلوقات الله أليه ، فهو الرقيق المبدع المتحدث بالحكمة ، المكلف بحمل الهموم و الأوزار يرى في الوجود و الكائنات مالايراه الأخرون وفي ذلك أنشد شعرا فقال :
شاعر فجر الرياض غناء ******* والروابي أثارهن و ثارا
سار في مهمة الحياة مجدا ******* في ظلام الوجود يهدي الحياري
أخرجت قلمي الرصاص ثم كتبت بجانب هذه العبارة في نفس الصفحة هذا التعليق ...... ( هكذا فعلا يجب أن تكون الثقافة فعلا و قولا ، روحا للحياة و صوت يشدو ليعبر بالحرية عن كل مافيها ، الحرية و الكرامة التي سلبت اليوم منا بعد أن تمكن اليأس و الأحباط و القنوط منا ) .
دخلت المنزل فوجدت خبر أعتلال صحة جدي ، فأرتبكت كارتباك أمي من الخبر و تناولت سريعا طعام الغداء مع ألحاح والدتي المتكرر بالأسراع ، وماهي ألا ساعة واحدة حتى كنت في مركبة المواصلات معها في طريقنا لمشفى دار الشفاء بالخرطوم ومازال معي كتاب ( موت دنيا ) أكمل القراءة فيه و أعيش في كل تفاصيل عالمه .
نظرت ألي أمي و أنا مندمج في القراءة ثم سألتني ماذا تقرأ ؟
قلت لها كتاب (موت دنيا) ، وحكيت لها سيرة الكتاب و كاتبيه ، فأبتسمت و حركت رأسها بفخر و أعتزاز قائلة لي :
هما من أقرب الصحاب لجدك بدوي مصطفى و كانا دوما يزورانا في البيت الكبير ، وكانت لهما معه جلسات و جلسات مازالت محفورة في ذاكرتي ، رحم الله المحجوب و أدام الله الصحة على د.عبدالحليم محمد .
أعجبتني كثيرا هذه المعلومة فأضفتها كتعليق في آخر الكتاب ، و كانت مبعثا لي لمواصلة الأنكباب لقراءة أكبر قدر من الصفحات طوال فترة الطريق للمستشفى أملا في الهروب من دنيتي الى دنيا جدي بدوي و أصدقاءه .
أي دنيا عجيبة تلك التي عاشوها و جعلتهم يمزجون بنجاح مابين راحة النفس في ممارسة كل صنوف اللهو و اللغو ، وبين هموم العقل نحو مسؤولية الغد .
دنيا جعلتهم ينفضون و ينتقلون بسلاسة عن ذلك العبث المغري و ينسون شؤونهم الخاصة و ينغمسون في دنيا أخرى ، دنيا المجاهدة من أجل الوطن ينشغلون فيها بمطالبه و حقوقه و آماله .
لماذا يندبون حظهم على هذه الدنيا ، و من قال أنها ماتت ؟
هكذا يتسأل الكاتبان !
و من قال أن دنيانا قد بعثت من جديد ؟
هكذا أنا أتسأل بسخرية !
يدعي الكاتبان أن الدنيا التي عاشوها بكل جوارحهم دنيا متجددة لن تموت ولن يدركها الفناء ،و لتتأكد من أدعائنا أيها القارئ الحصيف در معنا ببصرك في أرجاء العاصمة وطف ( بالبقعة ) عند منازل الأحباب و مجالس الأنس و ملاعب الشباب تجد كل ذلك متجددا حيا ، أن دنيانا التي عشناها كانت بالفعل مغرية حقا بالحب و الجمال و الفن و الأدب .
توقفت عن القراءة و شعرت بخافق في الصدر ثارا و دمع في مجاري الخد مارا وأنا أرى اليوم مدينتي الحزينة أم درمان( أرض البقعة) و وطني السودان التي تقسم أشلاءا و تمزق حروبا ، قد باتا في حال مزري بعد سنين عجاف سيطر فيها التتار المغول بأسم الدين و بقوة البندقية على حكمه .
أذن من يسمع هؤلاء الأنقياء صوتنا و أنيننا و نحيبنا على دنيانا اليوم !
هذه الدنيا الفقيرة من الأدب و الجمال و الفن و الغنية بالتطرف و النفاق والحرب و التجارة بأسم الدين و ظلم الأنسان لأخيه الآخر الأنسان .
و من ينقل لهم الصورة القاتمة التي أضحى عليها الأدب اليوم بعد أن عاد ترفا يتداوله القلة على أستحياء في مجالسهم الضيقة بعد أن ضاق شظف العيش على الناس و شغلهم عن مباهج الحياة ؟
من يكتب لهم عن سيرة جيلنا الذي تناهشته الحروب و المجاعات و مزقته و شردته سياسات حكام اليوم ثم أنتهى مصيره في الأخير لفصل أجزائه وتقسيمها شمالا و جنوبا ؟
من الذي ماتت دنياه ؟
نحن الجيل الذي نهض وعييه على حكم نظام متجبر و متسلط أذل العباد وأستعمر البلاد فأكثر فيها الظلم و الفساد ، نظام قهري لا يرى في هذا الوطن من صلحاء ألا أهل بطانته ومن شعبه ألا مؤيديه !
أم هم الذين أستعمرهم الأنجليز فقرروا عندما حكموا هذه البلاد أن يميزونها عن غيرها من بقية المستعمرات الأخرى لمعرفتهم اللصيقة بتميز و علو شـأن أهلها فأتبعوا أدارتها لوزارة الخارجية البريطانية بدلا عن وزارة المستعمرات البريطانية .
كان يرى السير جيميس روبرسون السكرتير الأداري لحكومة السودان بعد أنتهاء فترة عمله في البلاد أن للأستعمار الأنجليزي في السودان سوءاته لكن التاريخ و الشعب السوداني سوف يحفظ ويذكر لهم أربع لن ينكرها مكابر ولن يغفل عنها اليوم المعاصر لحالنا .
قال أن التاريخ والشعب السوداني سيذكر لهم أنهم منحوا السودان حق تقرير المصير الذي أفضى للأستقلال المبكر .
وأنهم أسسوا خدمة مدنية مدربة على مستويات عالية من المسؤولية و الأمانة ، و رسخوا معها حكم القانون الذي ينطبق على أي فرد ولا تتدخل فيه السياسة أبدا ، و ربما حفظوا لهم الجميل بأنهم منعوا الأطماع الأجنبية التي كانت تحيق بالسودان من كل جانب ، و سلموا في الأخير البلاد بحدودها ( المليون ميل مربع ) كاملة للسودانيين يفعلون فيها ما يشاؤون !
أغلقت الكتاب مع طقطقة الكمساري لي يطلب دفع الأجرة ، ناولته حسابه وعدت لفتح الكتاب وكتابة هذا التعليق عند مكان توقفي في القراءة ... ترى هل كان الأنجليز أفضل حكما و أرأف حالا على هذا الشعب عندما حكموا جيل جدي بدوي مصطفى و المحجوب و د.عبدالحليم محمد من بني جلدتنا الذين تعاقبوا بعدهم على حكم البلاد من بعد الأستقلال ؟
أنا على يقين أن سخرية الأقدار قد تحمل يوما لهذا الشعب الكريم المكلوم أجابة صريحة على هذا السؤال !
لكن تبقى الحقيقة المؤلمة قطعا أنني لن أنجح في توصيل هذه الأجابة للسير جيميس روبرسون ، و لجيل رحلة كتاب (موت دنيا) الذي عاصره السير و ناضل ضده لنيل الأستقلال لهذه البلاد ، لأن التاريخ كما يعلم الجميع لا يتوقف ولا يرجع أبدا نحو الوراء .
وللحديث بقية
teetman3@hotmail.com