التطورات السياسية في السودان الإنجليزي – المصري .. ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي

 


 

 

 

 

Political Developments in the Anglo-Egyptian Sudan

مقدمة: هذه ترجمة لما ورد في باب "مذكرات وأخبار" من العدد الخامس عشر من المجلة الأكاديمية أفريقيا (Africa) الصادرة عام 1945م (دون ذكر اسم الكاتب) عن محاضرة ألقاها سير دوقلاس نيو بولد. وهذه المجلة (التي تصدر عن دار نشر جامعة كمبردج) هي من أعرق المجلات الأكاديمية المتخصصة في الشأن الأفريقي منذ ثلاثينيات القرن الماضي.
عمل سير دوقلاس نيو بولد (1894 – 1945م) إداريا في حكومة السودان الإنجليزي المصري لسنوات طويلة، وتقلد منصب السكرتير الإداري لحكومة السودان خلال الفترة من 1939-1945م.
يمكن النظر لمقال مشابه عن الرجل بقلم بروفيسور فيصل عبد الرحمن علي طه نشر في الأسافير عام 2013م تحت عنوان "دوغلاس نيوبولد والتنبؤ بمستقبل السودان“ يعلق فيه على مقال لسير دوقلاس نشر في صحيفة "سودان أستار. وهنالك مقال آخر عن محاضرة ألقاها في مدينة القدس السير دوقلاس عام 1944م، ونشرت المحاضرة بعنوان: "السودان العربي" ضمن كتاب صدر للمؤلف ك. دي. هيندرسون (حاكم دارفور) عام 1952م عن حياة ورسائل سير دوقلاس نيوبولد
بعنوان: The Making of Modern Sudan
********** ************ ***********
قدم سير دوقلاس نيو بولد محاضرة عامة في جامعة ماكريري بأوغندا (نشرت لاحقا في ديسمبر من عام 1944م في "مجلة / نشرة جمعية أوغندا The Bulletin of the Uganda Society "، استعرض فيها الخطوات التي أنجزتها الحكومة من أجل إقامة حكم ذاتي (مباشر) في السودان، خاصة في مديرياته الشمالية الست، والتي يبلغ عدد سكانها 4.25 مليون نسمة، جلهم من المسلمين الذين يتحدثون العربية. ولم يكن بالإمكان إقامة حكم ذاتي بالبلاد في سنوات الحكم الإنجليزي – المصري الأولى عقب معركة أم درمان (من عام 1899 إلى 1919م) بالنظر إلى حالة الفوضى التي سادت البلاد حينها، رغم أنه حتى في تلك الفترة الباكرة، كانت الحكومة قد شرعت بالفعل في ذلك بتبنيها لنهج "نظام قبلي" في الحكم، ثم إعطاء بعض صلاحيات الحكم للسلطات الأهلية. وبعد ذلك اتخذت إجراءات أكثر تحديدا في إعطاء صلاحيات الحكم الذاتي بعيد انتهاء الحرب العالمية الأولى. واكتشفت الحكومة إثر ذلك أن الإدارة الأهلية لا يمكن أن تستند على أساس قبلي محض، أو على سلطة ونفوذ زعماء القبائل وحدهم، بل لا بد أن تقام على أساس إقليمي ومحلي.
وفي السنوات السبع الأخيرة حدث تطور في مجال "الحكومة المحلية" مثل تلك المقامة في البلدان المتمدنة / المتحضرة.
قال سير دوقلاس: "كنا نحن (وزمرة الصفوة من متعلمي السودان) حريصين على ألا تبقى الإدارة الأهلية بالسودان ثابتة على حالها، متحجرة وأبوية الطابع. لا بد لها أن تتطور مع الزمن، وأن تتكيف مع احتياجات المجتمع المعاصر، وأن يرضى بها المتعلمون من الأهالي (سواء أكانوا عربا أم أفارقة). ويجب ألا تبقى معتمدة على التقاليد الموروثة والامتيازات فحسب، بل على سلطات قضائية وقبول ورضا شعبي. الإدارة الأهلية في نظري هي أفضل مدرسة أو مختبر للحكم الذاتي.
وتم في عام 1937م إصدار تشريعات لتنظيم وتوسيع سلطات الإدارة الأهلية. وفي تلك السنوات كانت الحكومة قد منحت السلطات الأهلية في بعض الأقاليم ميزانيات منفصلة تراوحت بين 5000 و30000 من الجنيهات الإسترلينية كل عام، خصص نحو نصفها لمقابلة المنصرفات الداخلية. وعند بداية هذه الحرب (العالمية الثانية)، كان مقياس (نجاح) الحكومة المحلية يتركز في ميادين الإدارة والمالية والعدل، غير أنه – وإلى الآن- ليست هنالك من صلة حقيقة أو رسمية بين المتعلمين السودانيين والحكومة المركزية خلا ما سمى "سياسة التخفيف dilution policy "، وهي سياسة إحلال السودانيين محل المسئولين البريطانيين والمصريين والسوريين. وبدأ تنفيذ تلك السياسة بالفعل في عام 1931م. وبلغت نسبة الموظفين السودانيين في القسم الثاني من كادر الموظفين نحو 75%، وفي القسم الأول (والذي يشمل الأطباء وكبار المفتشين والمعلمين وقضاة المراكز والمهندسين) نسبة تفوق 50%. وكانت كل الجهود في غضون السنوات الأولى للحرب موجهة بالضرورة إلى القنوات الحربية. ووضعت سنتا 1940 و1941م الحرجة ضغوطا كبيرة على السلطات المحلية السودانية. ووصف سير دوقلاس ما قامت به تلك السلطات إزاء تلك الضغوط بأنه "عمل رائع أثبت بما لا يدع مجالا للشك كفاءة الحكومة المحلية وقدرتها على مواجهة الكوارث".
وقدم سير دوقلاس في سبتمبر من عام 1942م (حين زالت الأخطار) مذكرة لمجلس الحاكم العام التنفيذي اقترح فيها زيادة ودعم ارتباط السودانيين بالحكومة. وشملت تلك المقترحات النقاط التالية:
1/ توسيع مجالس المدن ومنحها سلطات تنفيذية وميزانيات منفصلة،
2/ إقامة نظام مجاس إقليمية لمديريات الشمال الست،
3/ إقامة مجلس استشاري مركزي لكافة مديريات شمال السودان،
4/ زيادة نسبة تمثيل السودانيين في مجالس الحكومة،
5/ مراجعة "سياسة التخفيف" والإسراع بسودنة الوظائف،
6/ تعيين موظف علاقات عامة للتنسيق مع المتعلمين السودانيين.
وتمت الموافقة على تلك المقترحات جميعها. وتوجد الآن بالفعل 10 مجالس مدن، و20 حكومة محلية بالأقاليم، لها ميزانياتها المنفصلة، التي يبلغ مجموعها نحو نصف مليون من الجنيهات الإسترلينية. وعند نهاية عام 1943م أقيمت (أو خطط لإقامة) ستة مجالس إقليمية، كان كل أعضائها من السودانيين خلا قلة قليلة جدا من التجار الأجانب. وعقدت أول جلسات "مجلس شمال السودان" في مايو من عام 1944م، وكان ذلك المجلس يتكون من ثلاثة أعضاء منتخبين من كل مجلس من مجالس الأقاليم، وعضوين يمثلان الغرفة التجارية، وثمانية رشحهم الحاكم العام، الذي كان – بحكم منصبه – رئيسا لذلك المجلس. وأتى غالب أعضاء ذلك المجلس من الأقاليم، مع قلة قليلة (ولكنها مؤثرة) من كبار المتعلمين السودانيين. وكان أهم ما أضطلع به ذلك المجلس، كما قال سير دوقلاس، هو تطوير الإدارة الأهلية لتغدو "حكومة محلية أكثر ديمقراطية وعقلانية ورشدا. من المهم جدا للإدارة الأهلية ألا تتحجرـ وألا تخشى التغيير والنقد".
كانت تلك المجالس والمحاكم والميزانيات مجرد أدوات لتنفيذ سياسة مرسومة للحكم المحلي، فأساس ذلك الحكم كما قال سير دوقلاس هو: " الرجال والنساء ... الرجال والنساء الذين لا هم لهم إلا خدمة شعبهم وخوض مجال العمل العام، وليس فقط زعماء القبائل ورجال الإدارة الأهلية القدامى، بل المواطنين (المتعلمين وغيرهم) من المنشغلين بالهم العام، المزارعين الذين يقومون على انتاج المحاصيل، ورعاة الحيوانات، ومدرسي المدارس وأصحاب المتاجر الصغيرة وبقية السكان". ليست هنالك حكومة محلية حقيقية دون مواطنين يشعرون بحاجات مجتمعهم الصغير في منطقتهم وإقليمهم. إن الكلمات المفتاحية في هذا العمل كما قال سير دوقلاس هي: "التعليم ومشاركة غالب السكان في العمل". وهذا يعني مزيدا من مجالس ممثلي الشعب، ومزيدا من الجمعيات التعاونية في مجالات الزراعة والتجارة، ومزيدا من الدعم الشعبي للمدارس والمستشفيات، ورغبة أشد في القيام بأبحاث، خاصة في مجال العلوم الاجتماعية".
إن إعادة تشكيل كلية غردون التذكارية في الخرطوم ستفضي – كما يؤمل – إلى رفعها لدرجة كلية جامعية تمنح درجات معترف بها عالميا. وهي الآن كلية جامعية تمنح دبلوماتها الخاصة بها.
وبذا تهيأ المسرح للطلاب السودانيين في كل أقسام الحياة المهنية في بلادهم، مما سيؤدي بلا ريب لمزيد من "التخفيف".
كل ما سبق ذكره سجل بأعمال وتطورات رائعة لم يبدأ تاريخها الحديث إلا منذ نحو 45 سنة فحسب. ليس لنا الآن إلا أن نعبر عن عميق حزننا وأسفنا لوفاة سير دوقلاس في مارس في حادث، ولم يعش ليشهد ثمار غرسه، وليرى التطور الذي تبناه وعمل بجد من أجله.

alibadreldin@hotmail.com

 

آراء