نحن نقف ونجلس اليوم هنا لنترحَّم على أرواح شهداء الحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السودان، وهم أولئك القادة الذين رأوا أهليهم في السُّودان في حال اضطهاد في أشدَّ ما يكون الاضطهاد، ومعرَّضين للاستغلال بشيء من الاستغلال شديد، ثمَّ لم يعرهم أحد أي اعتبار. ومنذئذ فكَّروا في الثورة، الثورة التي سوف تجلب لهم القوَّة حتى لا يتعرَّضوا للاضطهاد والاستغلال والتهميش والإهانة. إذ لا يمكن تعريف المواطنة بحفنة دماء لأناس لهم جذور من خارج الوطن مع التجاهل التام لسكان البلاد الأصلاء؛ ولا يمكن اعتماد ثقافة أحاديَّة مستوردة وديانة مستجلبة من وراء الحدود دون أي اعتبار لثقافة ومعتقدات سكان البلاد الأصلاء؛ ثمَّ ليست من العقلانيَّة أو العدالة أو المساواة في شيء إن تمَّت كتابة قوانين الوطن لتجسِّد التفرقة بين المواطنين حسب معتقداتهم. وإذا كانت جذوة المقاومة ما تزال مستمرَّة اليوم من أجل الحريَّة والكرامة والمساواة والعدالة فهذا يعني أنَّ الصرح النِّضالي الذي شيَّده هؤلاء القادة العظام ما يزال شامخاً، ويستوجب علينا أن نعض عليه بالنواجز، ولا نتهاون فيه قيد أنملة، وأن نورِّثها للأجيال والأحفاد. وهؤلاء القادة فيما كانوا يناضلون بشدَّة، ويقاومون بضراوة، كان لسان حالهم يقول كما قال الراحل الشريف حسين الهندي (1924-1982م) "(نحن) لسنا من أنصار الحزب الواحد، ولا ديكتاتوريَّة الطبقة الواحدة، ولا القبيلة الواحدة، ولا العشيرة الواحدة، ولا المصلحة الواحدة، نحن نمثِّل السواد الأعظم من السُّودانيين غير المنتمين لكلِّ هذه المسمَّيات، ومبادؤنا في هذا وطنيَّة ليست مستوردة، بل هي مبادئ أصيلة مستقاة من أصالة الشَّعب السُّوداني، ومن مواطنيه، ومن تأريخ كفاحه عبر الأجيال من معركة الاستقلال وإلى الآن،" وإنَّنا لنضيف منذ عهد التركيَّة-المصريَّة العام 1821م إلى الآن. أجل، كانوا أصحاب رأي ورؤية. إذ كيف يمكن بناء مجد البلاد لئن لم يكن فينا رأي صائب ورؤية ثابتة! فقط الذين يملكون شعوراً غائراً من الشجاعة، وحبَّاً عميقاً للخير، وإحساساً قويَّاً بالواجب القومي، هم الذين يقومون بمثل هذه الأدوار الوطنيَّة الخالدة من قوى الحياة اليوم، ولعلَّ هؤلاء القادة كانوا منهم. فالسعي لإقرار العدالة والمساواة والحريَّة ليس فقط يعني الانفكاك من الأغلال، بل أن يعيش الإنسان بطريقة تحترم وتحسن حريَّة الآخرين، وينتصر لسائر المهمَّشين بلا استثناء. وعند الحديث عن المساواة تتبادر إلى الأذهان ثلاثة مظاهر لتحقيق أكبر قدر من المساواة في الوطن الواحد، وهي تحسين الدخول الفرديَّة والأحوال المعيشيَّة أولاً؛ والمساواة في درجات الحصول على الخدمات العامة ثانياً؛ ثمَّ إلى أي مدى تخدم النشاطات المعفيَّة من الضرائب مصالح الشَّعب ككل لا هؤلاء القلة القليلة ثالثاً. ولكن ماذا نعني بالحريَّة هنا وفي أي مكان آخر؟ هناك الحريَّة الوطنيَّة، والتي تعني مقدرة المواطنين في أيَّة دولة في أن يقرِّروا مستقبلهم، ويحكموا أنفسهم بأنفسهم دون أي تدخل من أيَّة جهة ما؛ وهناك الحريَّة من الجوع والمرض والفقر؛ ثمَّ هناك الحريَّة الفرديَّة وهي حق الشخص في العيش في كرامة ومساواة مع الآخرين، وحقه في حريَّة التعبير، والمشاركة في صنع جميع القرارات التي تؤثِّر على حياته، والحريَّة من الاعتقال التعسُّفي لأنَّه حدث أن أغضب أحداً في السلطة وهلمجراً. كل هذه الأشياء عبارة عن مظاهر الحريَّة، ومواطنو السُّودان لا يمكن أن يقال لهم أحراراً حقاً حتى تتوفر لهم هذه الحريَّات، ومنها جاءت الحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان لتحرير الناس من القيود السلطويَّة التي تحرمهم من كل هذه الحريات. بيد أنَّ كل هذه الحريَّات تعتمد الاعتماد كله على التنمية الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة. إذاً، ماذا نعني بالتنمية هنا؟ في الحق إنَّ التنمية المعنية هنا لهي تنمية الشَّعب. إذ أنَّ رصف الطرق وتشييد المباني، وزيادة إنتاج المحاصيل والأشياء الماديَّة الأخرى على هذا السبيل وفي هذا المنوال ليست بالتنمية في شيء، بل إنَّها لأدوات التنمية. فالطريق الجديدة توسع حريَّة الفرد فقط إذا سافر فيها؛ وتُعد زيادة عدد المدارس تنمية فقط إذا استخدمت هذه المدارس – أو يمكن استخدامها – في تنمية العقول البشريَّة وتطوير وعي الناس؛ وتعتبر مضاعفة إنتاج القمح أو الذرة أو البقوليات تنمية فقط إذا قاد هذا الإنتاج المضاعف إلى تحسين تغذية الناس؛ وكذلك يُعد امتداد زراعة القطن أو أي محصول نقدي آخر تنمية فقط إذا تمَّ بيع هذا المحصول واستخدمت عائداته في الأشياء التي تحسِّن صحة وراحة وفهم الناس. إنَّ التنمية التي لا تنمِّي مقدرات ومفاهيم ووعي الناس قد تكون من اهتمامات المؤرِّخين للعام 3000م، لكن قطعاً لا تكون مناسبة لنمط المستقبل الذي من أجله اُبتكِرت. فعلى سبيل المثال إنَّ إهرامات مصر والطرق الرومانيَّة في أوربا كانت كلها تنمية ماديَّة، والتي ما تزال تثير دهشتنا، ولكن لأنَّها بنيان فقط، والشَّعب في ذلكم الزمان لم تتم تنميتهم، انهارت هذه الإمبراطوريَّات والثقافات لأنَّها لم ترتبط بالشَّعب في شيء. فالثقافة المصريَّة يومئذٍ – بما احتوتها من معرفة وحكمة – سرعان ما سقطت واندثرت في أيدي الغزاة الأجانب، لأنَّها كانت ثقافة القلة القليلة، والغالبيَّة العظمى من السكان كانوا عبيداً، وكان يشقون في سبيل توفير المتطلَّبات التي كانت تحتاج إليها هذه التنمية الماديَّة، ولم يستفيدوا منها بالتساوي. وعلى هذا النحو حينما هُوجمت الإمبراطوريَّة الرومانيَّة بواسطة السكان المحليين الذين انتفضوا، ودبَّت فيهم الرُّوح الوطنيَّة، وتقهقرت فيالقها إلى موطنها الأصلي، هجرت هذه الطرق الواسعة، والصروح الأنيقة لتنمو فيها الشجر، ويصدأ العمران، ويمسي مخابئاً للفئران، لأنَّها لم تكن مناسبة لشعوب المناطق المحتلة. على أيَّة حال، فإنَّه من الشك فيما إذا كانت الإهرامات المصريَّة أو الطرق الرومانيَّة قد أحدثت تغييراً طفيفاً للمؤرِّخين آنذاك، أو الدول المعنيَّة في تلك الأحايين، أو حياة الشُّعوب في ذلكم الزمان. مهما يكن من شيء، فنحن اليوم نسدِّد الوفاء والعرفان بالجميل لقادة الحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان الذين رفعوا لواء التنمية المتوازية، التي فيها تستفيد جميع شعوب السُّودان. فمن هم هؤلاء القادة الذين نحن بصدد الاحتفاء بهم، وتقديم واجب الوفاء لهم؟ لعلَّ واحداً من هؤلاء القادة هو الشهيد الرَّاحل داؤود يحيى بولاد. كان داؤود أحد القادة – بما فيهم القائد عبد العزيز آدم الحلو والرَّاحل نيرون فيليب أجو – الذين اشتركوا في حملة دارفور. بيد أنَّ حكومة "الإنقاذ" حينذاك كانت قد استأسدت عليهم جيوشها وميليشياتها العربيَّة (فرسان العرب) حتى لا يكون النَّصر حليفهم، وانتهت الحملة بالهزيمة والقبض على داؤود وإعدامه دون مراعاة للقيم الأخلاقيَّة والأعراف الدوليَّة في التعامل مع أسرى الحرب. إذ أنَّ داؤوداً كان قد أنفق جل شبابه في صفوف الحركة الإسلاميَّة نصيراً لأفكارها، مؤازراً لها، ولكن حين رأى أهله يُقتلون بعد أن تحالفت 27 قبيلة عربيَّة ضدهم في الثمانينيَّات من القرن المنقضي، وتواطؤ النِّظام القائم آنذاك مع العناصر العربيَّة في هذه العدائيَّات، حتى حزبه الإسلامي، لم يكد يحتمل هذا، لأنَّ الدَّم أثقل من الماء، وبخاصة بعد ما أدرك أخيراً بأنَّ هؤلاء الإسلاميين ليسوا بأهل صدق ولا أخلاق، بل منافقين أفَّاكين يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يقولون. فإنَّ الصِّدق لرمز الرُّجولة والثبات، والذي لا تسعفه الحقيقة هو الذي يلجأ دوماً إلى الكذب. أفلم يكتب الكاتب الروائي البريطاني جورج أورويل صاحب رواية "مزرعة الحيوان" قائلاً: "في لحظة الخداع العالمي فإنَّ قول الحق لهو في حد ذاته عمل ثوري!" مهما يكن من أمر، فقد اختار داؤود سبيل النِّضال المسلَّح، وانضم إلى الحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان، ليطل مقاتلاً شهيداً وسط أهله في دارفور في تشرين الأول (أكتوبر) 1991م. وفي 31 أذار (مارس) 2001م انتقل إلى جوار ربِّه المعلِّم القائد يوسف كوَّة مكِّي، وذلك بعد صراع مرير مع داء عضَّال لم يمهله طويلاً في مستشفي نوريتش التعليمي بالمملكة المتَّحدة. كان يوسف – رحمه الله رحمة واسعة – مهموماً بقضايا النُّوبة على وجه الخصوص، والسُّودان على وجه العموم، وكان ذلكم الهم هو ديدنه في الحياة التي اعتاشها بقصرها، ومن ثمَّ عمل على تثوير هذا الفهم وغرسه في الشباب في الخرطوم حين كان طالباً في كليَّة الاقتصاد بجامعة الخرطوم، وفي طلاب المدارس حين كان استاذاً في دارفور وجبال النُّوبة، ثم أجهر به إجهاراً في مجلس الشعب الإقليمي في كردفان، وأسرَّ به إسراراً لرفاقه من ذوي الثقة وأهل عهد في تنظيم "كومولو". وحينما جاءت الحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان بمفهوم السُّودان الجديد العام 1983م، تدارك أهل النُّوبة هذه الرؤية، وتدارسوا في أمرها، وأجمعوا أمرهم في تنظيمهم السياسي "كومولو"، وانخرطوا في الحركة العام 1984م بقيادة المعلِّم يوسف كوَّة مكِّي؛ ألا تغمَّده الله بواسع رحمته، ودثَّره ببركته، ورفعه مكاناً عليَّاً. كان يوسف – تغمَّده الله برحمته – هو ذلكم القائد الذي أرسى دعائم المشورة الشعبيَّة في إقليم جبال النُّوبة حينما أنشأ المجلس الاستشاري لجبال النُّوبة ليكون برلماناً لمناقشة والبت في قضايا الإقليم السياسيَّة أولاً، والاجتماعيَّة-الثقافيَّة ثانياً، وكان صوت المرأة النُّوبويَّة هو الأعلى في الحوارات والنقاشات التي كانت تدور في هذا المجلس الاستشاري لإقليم جبال النُّوبة، حتى قرار مواصلة النِّضال المسلَّح بعد أن فرضت عليهم الحكومة حصاراً طويلاً مطبَّقاً، وأخذ بعض الرِّجال يطأطأون رؤوسهم، ويفكِّرون في الاستسلام، كان صوت المرأة النُّوبويَّة هو الذي رجَّح كفة الميزان من أجل الحرب والاستمرار في الكفاح المسلَّح، والحديث هنا على عهدة القائد يوسف ذاته. ومنذئذٍ بات هذا المجلس أنموذجاً يُحتذى به في جنوب السُّودان بعد أن أقرَّه أول مؤتمر قومي اللحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان العام 1994م، وكان القائد يوسف كوَّة مكِّي رئيس هذا المؤتمر. ثمَّ نعبر إلى شهيد آخر هو الرائد محمد توتو كوَّة. ففي 11 حزيران (يونيو) 2002م توفي الرائد محمد توتو كوَّة وخمسة رفاق آخرون حينما تفجَّر التراكتور الذي كان الرائد محمد توتو يقوده إثر اصطدامه بلغم أرضي في منطقة برام. وكان الشهداء الآخرون هم: ملازم ثاني عبد الرَّحمن عثمان كسرة، والرقيب مهدي محمد مكِّي، والعريف فيليمون حمدان، ووكيل عريف فيليب كافي تية، والرقيب دودو تية. ولد الرائد محمد توتو كوَّة في قرية مرتا بكادقلي العام 1948م، وتعلَّم في مدرسة كمبوني بالخرطوم، ثمَّ ترك الدراسة لظروف خارجة عن إرادته والتحق بقوات الشعب المسلَّحة في الفترة ما بين 1978-1988م. وفي الانتخابات شبه العامة العام 1985م ترشَّح محمد توتو كوَّة في دائرة القضارف، وهُزِم بفارق 25 صوتاً فقط. إذ نجده كان قد عمل في خلايا الحركة الشعبيَّة في الخرطوم، وكان من مجنَّديه القائد عبد العزيز آدم الحلو وملازم أول سيِّد كندة، وقد عمل معه في خلايا الحركة بالخرطوم القائد إدوارد لينو أبيي قبل أن يلتحق الأخير بالحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان في 25 أيار (مايو) 1987م. وفي العام 1988م التحق محمد توتو كوَّة هو الآخر بالحركة الشعبيَّة، وكان من أهم إنجازاته في الحركة هو انتصاره على قوات الحكومة في معركة بيلنجا العام 1997م، ثمَّ نجده كان قد أسَّس وأشرف على عدَّة مطارات في مناطق إدارة الحركة الشعبيَّة في جبال النُّوبة. كان محمد توتو كوَّة جنديَّاً ذا سيرة نظيفة في الشجاعة والمروءة، وكان مستودعاً للقوَّة البشريَّة التي يمكن الاعتماد عليها لتغيير الأوضاع الصعبة، ومن أجل النِّضال لحياة أفضل، ولإقرار الميزات الهامة للقيم الإنسانيَّة. وفي يوم الأحد الموافق 12 كانون الأول (ديسمبر) 2004م، وقبل إطواء صفحة الحرب الأهليَّة، فقدت الحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان أحد أعظم قادته البواسل؛ ذلكم هو الفارس المغوار محمد جمعة نايل، والذي وافته المنيَّة في نيروبي – حاضرة كينيا – وذلك بعد علة لم يبرأ سقمها. فمن منَّا لا يذكر أو يتذكَّر الفارس الجحجاح محمد جمعة نايل، بطل معركة تُليشي في الفترة التي امتدَّت بين شباط (فبراير) – أيار (مايو) 1992م؟ قاد محمد جمعة كتيبة من الجيش الشعبي في هذه المعركة الفاصلة؛ بينما بلغ تعداد قوات الحكومة وميليشياتها بما فيها عناصر إيرانيَّة ما بين 25.000 – 30.000 جندي وميليشي. وفي هذه المعركة كانت النِّساء النُّوبويَّات رائدات النِّضال، حيث كنَّ يشقن صفوف قوات النظام "الإنقاذي" لإحضار الماء للمقاتلين في الجيش الشعبي، فكانوا كلَّما استرجوهن وألحُّوا عليهن بأن يكفن عن هذا الذي هن عليه مقبلات، لم تزدهن هذه الاسترجاءات أو الإلحاح إلا إصراراً. وبعد أن قامت قوات النِّظام بتسميم مياه الشرب في الآبار تطوَّعت إحداهن وأصرَّت على أن تشرب الماء اختباراً، ووسط إلحاح الجيش الشعبيَّ لإثنائها عن عزمها رفضت أن تنصاع لهم، وأردفت قائلة: "لم تبق لي من العمر كثيراً، فعسى أن أموت ويحيى الجيش الشعبي لتحرير السُّودان لمواصلة الكفاح المسلَّح في سبيل نيل الحريَّة والمساواة والعدالة والكرامة الإنسانيَّة؛" ثم شربت، ولم تمت! ومن ثمَّ كان النصَّر حليفهم، وعادت قوات الحكومة المهزومة إلى الخرطوم تجرجر أذيالها! تلك النِّساء النُّوبويَّات اللاتي شاركن في معركة تُليشي ببسالة هن حفيدات مندي ابنة السلطان عجبنا، وهن حفيدات النِّساء النُّوبويَّات اللائي شاركن رجالهن وإخوانهن في جلب الحجارة لحصب الغزاة الأتراك-المصرين، الذين كانوا يغيرون على جبال النُّوبة لاصطياد الرقيق في القرن التاسع عشر الماضي. لذلك نحتفي اليوم بالبطل الباسل محمد جمعة نايل، ونقدِّر ونثمن الأدوار البطوليَّة التي قامت بها أمهاتنا وإخواتنا في تُليشي خصوصاً، وجبال النُّوبة عموماً. وفي 30 تموز (يوليو) 2005م فقد أهل السُّودان قاطبة، وإفريقيا عامة، أحد أبرز أبنائها الدكتور جون قرنق دي مابيور إثر تحطُّم طائرة عموديَّة رئاسيَّة أوغنديَّة كان على متنها متنقلاً من كمبالا – حاضرة أوغندا – إلى نيوسايت بجنوب السُّودان. فلقد دعا الدكتور جون قرنق منذ فجر الثورة إلى السودان الجديد الذي تسود فيه المساواة والعدالة وقيم حقوق الإنسان، حتى لا يتم التفريق بين السُّودانيين على أساس العرق أو الدين أو لون البشرة أو شكل الأنف أو مكان الميلاد أو الإقليم أو أيَّة سمة من السمات البشريَّة أو الماديةَّ التي اعتاد عليها البشر للتفريق بين الناس. لذلك حين شرع الدكتور قرنق في نزع الطوب من مبنى السُّودان القديم، أخذت أجزاء ضخمة من هذا المعبد المسمَّى السُّودان القديم تتساقط: فإذا التمرُّد ينتقل إلى جبال النُّوبة والنيل الأزرق وإقليم دارفور ومناطق البجة بشرق السُّودان؛ ثمَّ إذا الوعي السياسي يدبُّ في مخيَّلة الآخرين في العاصمة القوميَّة والجزيرة وأقاصي شمال السُّودان. كان الدكتور قرنق غازلاً للكلمات، وممتثلاً للأفكار التي أخذت تفور وتطفو في عقول المهمَّشين من أهل السُّودان منذ عهود سحيقة موغلة في القدم، وقد اتضح هذا الامتثال في الاستقبال التأريخي الحاشد الذي اُستُقبل به في الخرطوم عقب التوقيع على اتفاقيَّة السَّلام الشامل في نيروبي في 9 كانون الثاني (يناير) 2005م. وفي يوم الأحد الموافق 3 شباط (فبراير) 2008م نعى أهل السُّودان الأب فيليب عباس غبوش رائد النِّضال السياسي والانقلابي ومبتدر فكرة النِّضال المسلَّح، والتي انتهجها أهل النُّوبة بواسطة القادة يوسف كوَّة مكِّي وعبد العزيز آدم الحلو وآخرون فيما بعد. كان الأب فيليب، الذي توفي بمستشفى مدينة ميديلسبرة البريطانيَّة، يعتصر ألماً وأسى وهو يرى أهله المهمَّشين في جبال النُّوبة خاصة والسُّودان عامة وهم مغيَّبون عن أجهزة صنع القرار السياسي، والتمثيل في السلك الديبلوماسي، ووسائل التَّعبير الثقافي في الأجهزة القوميَّة. لذلك نجده كان قد جرَّب كل السبل بما فيها الطرق التقليديَّة التي يعكف عليها العسكريُّون دوماً في الدول النامية لامتلاك السلطة التي بواسطتها يستطيعون أن ينفِّذوا برامجهم السياسيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة. وكان الأب فيليب هو من دعا إلى إجراء المحادثات السياسيَّة لإنهاء الاقتتال في جنوب السُّودان بين القوات الحكوميَّة وميليشياتها المعروفة آنذاك باسم "الحرس الوطني" من جانب، وبين قوات الأنيانيا المتمرِّدة من جانب آخر؛ وكان الأب فيليب ضد إرسال القوات السُّودانيَّة للاشتراك في الحرب العربيَّة-الإسرائيليَّة في الستينيَّات من القرن الميلادي المنصرم، ولئن تمَّ ذلك فعلى الحكومة السُّودانيَّة أن تشق قناة من النيل الأبيض إلى جبال النُّوبة لإنشاء مشاريع زراعيَّة حتى لا يجوع مواطنو كردفان بشكل خاص، وأهل السُّودان بشكل عام؛ ثمَّ كان الأب فيليب هو الذي اقترب إلى الأنيانيا طالباً منهم تدريب أبناء جبال النُّوبة لخوض حرب التحرير جنباً إلى جنب مع إخوتهم في جنوب السُّودان، إلا أنَّ فهم قادة الأنيانيا كان قاصراً على مطالب أهل الجنوب يومذاك، ولم يتعاونوا معه، ثمَّ لم يستجيبوا لطلبه أبداً. ولعلَّ ذلك كله هو ما جمعنا اليوم لتسديد فروض الولاء، وإيفاء واجب الإجلال للأب فيليب عباس غبوش، شعلة التثوير المدني، فالرَّب أعطى والرَّب أخذ، فليكن اسم الرَّب مباركاً. أما إذا كان "معظم الناس يبيعون أرواحهم ويعيشون بضمائر مرتاحة على ريعها – والكلام هنا للكاتب والناقد الأميريكي لوغان برسال سميث – إلا أنَّ نيروناً كان على هذا الصعيد أبعد من أن يرضى بهذا الذل والهوان. ففي يوم الثلاثاء الموافق 28 شباط (فبراير) 2017م انتقلت روح المناضل نيرون فيليب أجو إلى بارئها. إذ جاء رحيل المحارب نيرون فيليب إلى مثواه الأخير في أرض كينيا وفي حاضرتها نيروبي، "وما تدري نفس بأي أرض تموت "(لقمان: 31/34)، ولله در من قال: ومن كانت منيَّته بأرضٍ فليس يموت في أرضٍ سواها فالموت فاجعة كارثيَّة كبيرة لأنَّه ينهي حياة شخص، ويكون الفقد أليماً ليس لأسرته وعشيرته الأقربين فحسب، بل لأصفيائه وزملائه سواء في التعليم العام، أو مسيرة النِّضال الطويل. لقد تزاملنا مع الطالب نيرون في جامعة الجزيرة، وحينها كان نيرون طالباً بكلية الاقتصاد والتنمية الرِّيفيَّة في الدفعة الخامسة، بينما كنت أنا في الدفعة الرابعة بكلية العلوم والتكنولوجيا. فقد التحق نيرون بالحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السودان العام 1989م بعد تخرُّجه من الجامعة، ورافق القائد عبد العزيز آدم الحلو والشهيد داؤود يحيى بولاد في حملة دارفور العام 1991م كما ذكرنا آنفاً، ثم تمَّ تعيينه مديراً لمنطقة طمبرة بجنوب السُّودان لفترة من الزمن، مما يعني أنَّ الرَّاحل نيرون كان قد حارب في أيَّة بقعة من بقاع السُّودان، وعمل في أيَّة أرض من أراضي السُّودان، وهذا دليل على أنَّه كان جنديَّاً شجاعاً مطيعاً للأوامر العسكريَّة، مؤمناً بالقضيَّة التي من أجلها التحق بنداء التحرير. وفي العام 1995م عيَّنته الجمعيَّة العموميَّة مديراً لمنظمة النُّوبة للإغاثة والتعمير والتنمية. وفي العام 1996م عمل نيرون قائداً للحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان في إقليم جبال النُّوبة. وفي العام 2002م كان نيرون أحد أعضاء الوفد التفاوضي بين الحركة الشعبيَّة من جانب، والحكومة السُّودانيَّة من جانب آخر. وعقب اتفاقية السلام الشامل العام 2005م تقلَّد الرَّاحل منصب وزير دولة بوزراة التنمية الرِّيفيَّة في ولاية جنوب كردفان، وكان عضواً مشاركاً في مفوضيَّة تقويم وتقييم اتفاقيَّة السَّلام الشامل لولاية جنوب كردفان (جبال النُّوبة)، وتم انتخابه عضواً برلمانيَّاً في الانتخابات الولائيَّة العام 2011م لدائرة هيبان الجغرافيَّة، ثمَّ كان مديراً لمنظمة السُّودان للإغاثة والتعمير، وعضواً في الوفد التفاوضي في الحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان-شمال. وبعد إنشاء مجلس أمناء بنك الجبال للتجارة والتنمية أمسى نيرون رئيساً لمجلس الإدارة حتى تشرين الثاني (نوفمبر) 2016م، وكذلك كان الراحل رئيساً لمجلس أمناء منظمة النُّوبة للإغاثة والتعمير والتنمية. كان نيرون أطيب الناس روحاً، ونحن ننعيه اليوم وغيره ولسان حالنا يقول: يا أطْيبَ الناس رُوحاً ضمَّه بدنٌ اسْتَوْدِعُ الله ذاك الرُّوحَ والبدنا لوْ كنتُ أُعْطَى به الدُّنيا مُعَاوَضَةً مِنْهُ لَمَا كانت الدُّنيا له ثَمَنَاً إذاً، لِمَ كل هذه التضحيات الجسام من هؤلاء القادة وغيرهم؟ السُّودان قطر مأزوم، وتكمن أزمته في الظلم وعدم المساواة والعدالة. فإذا استطاعت الدولة أن توفِّر للمواطن قليلاً من الغذاء والكساء والمسكن فهذا يعني في حد ذاته أنَّ الدولة قد حقَّقت تقدماً ملموساً نحو المساواة، وبخاصة إذا توفَّرت كذلك اللوازم الاجتماعيَّة والخدميَّة الأخرى كالتعليم والصحة والماء النقي، والإرشاد الزراعي ووسائل النقل والمواصلات حتى تكون في حيازة الناس، أو أمسى وجودها أو الحصول عليها أمراً غير شاق. أما مسألة المساواة في المشاركة في صنع القرار فتعد أمراً أساساً. فما لم يلعب كل شخص دوراً فعيلاً في حكومته – دون أن يكون مستقبلاً فقط للقرارات التي يصنعها الآخرون – سوف لا تكون هناك مساواة في الكرامة الإنسانية والمكانة الاجتماعية، ولا تقدماً كبيراً في المساواة الاقتصاديَّة. فالمناداة بتطبيق اللامركزيَّة تعني أمرين: أولاً: التسريع في صنع القرار؛ وثانياً: إعطاء المواطنين المحليين فرص السيطرة الكبيرة على الأحداث في مناطقهم وأقاليمهم، وكذلك منحهم فرص كبيرة في تطبيق القرارات التنمويَّة. ومن بعد، نستطيع أن نقول هنا بكلمات صادقات إنَّ كل من يمر بقبر المك كمبو بجبل الداير، أو المك آدم أم دبالو مك تقلي الذي دُفِن بالرَّهد، أو الفكي علي الميراوي، أو السلطان عجبنا وساعده الأيمن الكجور كلكون بحجر سلطان بجبال أما (النيمانج)، أو ابنته مندي عجبنا، أو المك كوبونقو بجبال لافوفا وآخرين فعليه أن يحني رأسه إجلالاً ووقاراً لهؤلاء القادة الميامين. فقد كانوا رموزاً شامخة، وقاوموا الاستعمار الخارجي والداخلي بجلدٍ وصبر، وبعزيمة وشكيمة، حتى خلَّدوا أسماءهم في قلوب النُّوبة، ولئن لم تذكرهم صحائف الدولة المزوَّرة التي تحجب الحقائق عن الأجيال مكراً، حتى لا يتشرَّبوا بالرُّوح الوطنيَّة، والثقافة السُّودانيَّة، والإرث التأريخي الطارف والتليد. وكذلك ينبغي علينا أن نقول – وفي الكلمات حسرة – كل من يمر على قبر القائد داؤود يحيى بولاد، أو القائد المعلم يوسف كوَّة مكِّي، أو الرائد محمد توتو كوَّة ورفاقه، أو القائد الجسور محمد جمعة نايل، أو الدكتور العقيد جون قرنق ورفاقه، أو الأب فيليب عباس غبوش، أو المناضل الصنديد محمد عبد الله بكتير، أو القائد نيرون فيليب أجو، أو غيرهم من قادة وجنود الحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان المغاوير فيستوجب عليه أن يقول أرقدوا هنا بسلام فلقد لزمتم شيئاً عُرفتم به هو النِّضال السياسي والعسكري لأهل السُّودان المسحوقين، ومن أجل ذلك كنتم لنضال أهل السُّودان المهمَّشين فخراً، وعزَّزتم كرامتهم، ورفعتم عزَّتهم، فتبارك الله فيكم ولأهليكم وإخوتكم أينما كانوا. وعلينا أن نعلم كيف أنَّ هؤلاء القادة الشجعان من أهل السُّودان المغلوبين على أمرهم قد استطاعوا أن يغيِّروا مجرى التأريخ في السُّودان الحديث، ولكن أصوات كثرٍ منهم قد أُغرِقت بواسطة حكام السُّودان الظلمة، والتواريخ الرسميَّة كما أبنا آنفاً. إذ إنَّا لنتحدَّث عنهم، وباسمهم نتكلَّم اليوم. وقد قصدنا بإخراج هذه الكلمات البسيطات أن نعبِّر عن ذكراهم، ولنذكِّر أنفسنا بأنَّنا مدانون لهؤلاء الطلائع المنسيَّة أو المذكورة بالحياة التي نحياها اليوم، وإلا كنا في خبر كان. ومع ذلك، لا نستطيع – ولو اجتهدنا الاجتهاد العظيم – أن نمنحهم كل الثناء والتقدير، ولكن ربما وجدنا السلوى والعزاء في أنَّ هناك ثمة فرصة سانحة بأنَّ شعورهم وأفكارهم قد تحيى لتجد السبيل إلى الأجيال المعاصرة والقادمة. وأخيراً أقول لكم ألا رحم الله هؤلاء الشهداء الخالدين المذكورين هنا، والذين لم يتم ذكرهم هنا، وذلك ليس انتقاصاً لهم منا، ولكن لا يسع المجال هنا لإحصائهم كلهم أجمعين أبتعين. فالتحية والإجلال للجيش الشعبي لتحرير السُّودان، والنَّصر لهم، والرحمة والبركة على الشهداء، والصبر والعزاء لأهليهم وأصدقائهم ورفاقهم.
والسَّلام عليكم ورحمة الله عليكم،،،،، ودمتم زخراً للسُّودان الجديد،،،،، بيرمنغهام، بريطانيا السبت، 1/4/2017م