مِنـكَ “كاسيوْس” وَمِـنّي “شَيــلوْك”: جدل المشهد الثقافي في السودان (2)

 


 

 

 

أقرب إلى القلب: 

Jamalim1@hotmail.com
(1)
دعني بداية أكسر جفاف السجال بطرفة طرأت لي . لقد ذكّرني طرحك لأول وهلة ، ذلك الرّجل الذي يمسك الراية ويساعد حكم مباراة كرة القدم في مراقبة واحتساب الأخطاء، فسلطته في رفع الراية، لا يملك معها ما يلزم الحكم صاحب الصافرة، أو اللاعبين في الميدان، بالالتفات إلى رايته المرفوعة. . !
مع كوننا- أنت وأنا- نقف في ميدان للعبة حبيّة- كما يقول الرياضيون - ولكن شغلني وقوفك موقف رجل الخطّ ، فيما أنت معي في الميدان المربع والكرة بيننا !ّ تلك مزحة خفيفة، فلا تقف عندها.
لكن أعجبني استدراكك أنها محض "مشايلة" بيننا ، حول مشاهد الوطن الثقافية ، والتباسات جيل ورث اللعنة من "الكولونيالي"، فورطنا معه في محاولة بناء أمةٍ، دون التأكد من الأساس الذي يقوم عليه ذلك البناء. لعلّ جنوح البعض إلى إكثار الحديث عن تجديد النظر في كتابة تاريخ البلاد ، أمر يفسره ما استبان لنا الآن أنّ "مداميك" ذلك البناء، قد شيّدتْ على رمالٍ متحركة. إن الحوار هنا ، هو سجال نتداوله بيننا، لنثري الإيجابي منه ونبعد السلبي، وإلا انقلب الحوار شجاراً، لا سجالا.
(2)
إن إشارتك لموضوع الرؤية الثنائية المتشظية - وأفهمها "مشتتة" وحيرى- بين انتماء عربي وآخر أفريقي، بدا لي وكأنك تلمّح لإدانة تلك الرؤية التي عزّزها الواقع الماثل، ورسختْ على مدى سنوات الحكم "الكولونيالي"، ذلك الذي رأي في جنوب السودان، بلداً مختلفاً عن شماله، بل "متخلفاً" عنه . وذلك تعبير علماء الأجناس الأوّل، والذي أنكره العلماءُ اللاحقون، فأبانوا خطل ذلك الزعم ، كما أشرتُ إلى ذلك في مقالي السابق. غير أن بعض الإداريين "الكولونياليين" قد اعتمدوا ذلك الفهم الأخرق للواقع "الأفرو-عربي" ، فصاغوا للبلاد قوانين التشظي والإنفصال، في تجاهل متعمّد لجدل التواصل بين الحقب التاريخية ، بل وإغفال لنسيج الثقافات التي استولدتها مجتمعات سادت ثم بادتْ، إلا أن تأثيرها الثقافي لم ينقطع بل رصد المؤرخون آثار ذلك التواصل والإتصال، في رؤيتهم لمثل تفاعل السودانيين الطقوسي، وإلى التاريخ الماثل، مع النيل وصلاته بالممارسات الفرعونية القديمة .
الثنائية التي يصعب الهروب منها ، يختزلها "المكلفتون" قصيرو النظر في قولهم أن السودان الحالي جسر بين ما هو عربي وما هو أفريقي، أو في إشارتهم للمدلول اللوني للإسم، فلا يرون "السودان" إلا نقيضاً "للبيضان". ذلك فكر المفلس الذي لا يملك شيئاً من هذا ولا من ذاك، وليس له في التاريخ من موقع ، سوى أن جسراً تعبر خيول التاريخ من فوقه. يصعب في نظري الفكاك من وهج الثنائية، أو الركون إلى إدانتها، لكنها بديناميكيتها الداخلية ، قادرة على ابتداع ذلك "التكوين الثالث"، الذي هو الهوية البعيدة المنال، والمختلفة تماماً عمّا هو عربي وما هو أفريقي.
(3)
تلك ليستْ رؤية تفكيكية نستدعيها لأغراض التحليل المحض، بل هي نظرة تستقصي تحوّلات التاريخ العميقة في وادي النيل ، الذي شكّل بعد انهيار الأندلس، دولة "السلطنة الزرقاء". من طريف الملاحظة، أنهم لم يقولوا عنها "سوداء". تلك دولة تماسكت أطرافها نسبياً، وبقيت في وجود متأرجح لثلاثمائة عام . هل كانت لتلك الدولة حدودٌ سياسية على الأرض؟ كلا. على أنّ وجودها شكّل حلقة من حلقات متواصلة لبناء كيان "سوداني"، ناقص الملامح ، وكماله دفينٌ في رحم الغيب. الأندلس الإسلامي عبر البحر المتوسط، هرباً من إسبانيا إلى أفريقيا .. وتغلغل أثره إلى عمقها الصحراوي، وإلى تخوم كردفان ودارفور ، وصولا إلى شواطيء النيل. ولا أدلك على تجمعات المغاربة من السودانيين، فهم كثر حولك في الوسط النيلي.
أضيف هنا، أنها كيمياء الهجرات، تنبيء عن كيان وعن تعددية ، لم تتخذ ملامح هويتها النهائية بعد ، ولكنها بدأت بثنائية مهرتها بانتماء عربي/ إسلامي ومنازحه ومهاجره البعيدة غير مؤكدة، وبانتماء أفريقي متجذّر في رحم الأرض التي نقف عليها. لا أملك أن أقفز فوق التاريخ لإدانة ثنائيةٍ بنت لنفسها إطاراً تمدّد لأكثر من ثلاثمائة عام ، بين حراكٍ وسكون] افتراضيين . بين صحراء متحرّكة، وغابات بكر خاملة. أهي ثلاثمائة عام ، أم آلاف من السنين قبل ميلاد المسيح، تصارع فيها فراعين بيض مع آخرين سود..؟ كيف أدين الآن تيارات خرجت من عواصف هذه الثنائية؟ كيف أدين من يكتب لنا عن قومٍ سود ذوي ثقافة بيضاء..؟ تلك ثنائية نمت وكبرت في رحم التاريخ ، حلقات متواصلة متصلة، شكلت إرثاً يصعب الفكاك منه، في تقديري..
(4)
ثمّ لمّا جاء "الكولونيالي"، لم يبتعد كثيراً عن هذه الرؤية الثنائية. ولأنه "كولونيالي" و"امبريالي" ، فقد وصل به الأمر لتقنين الفصل بين شمال السودان وجنوبه، بجدارٍ افتراضي بين شقي البلد الواحد. لا أعرف هل سمع الأصم "ترامب" بـ"قانون المناطق المقفولة"، فيقتدي به لفصل بلاد المكسيك عن بلاده !؟
ذلك الفصل في تاريخ البلاد، يمثل عندي حقبة من حقب التاريخ المتواصل من مرحلة وإلى مرحلة تأتي بعدها. إن "المصاهرة السنارية" – ثنائية الملامح- بين جماعة "دنقس" وجماعة "جمّاع"، لها ايجابياتها التي يصعب مقارنتها مع "اللعنة الكولونيالية" التي طوّرت التشظّي، وسمته باعترافها: "فرّق تسُد"، ولم تبني لبنات التماسك ، أساس نشؤ الهوية السودانوية..ذلك "التكوين الثالث" المتفرّد والمستقل عن جذوره الأساسية القديمة !
لذلك تجدني أتردّد في إدانة الرؤية التي تعترف بالثنائية "الآفرو-عربية" الماثلة .. فقط لنا أن نتعرّف عليها كظاهرة موقوتة طارئة، لها ايجابياتها عبر وعي جمعيّ، يتجاوز رغبات الأفراد وميولهم وشطحاتهم. التاريخ هو حراك مجتمعات، وليس انجاز أفراد. الحلقات المتصلة وبأجيالها المتتالية، هي التي ستقودنا لمحطة السودانوية : الهوية الواحدة الفاعلة والمستقلة عن مكوّناتها الأولى. الهوية الحلم.
(5)
لا يخفى علينا، أنّ لذلك الحراك اشتراطاته ومعيارية ديمومته ، وذلك ما يتصل بحرية الفعل الإنساني، الذي لن يقبل بالتقييد والقهر والاستبداد. كلّ ذلك في حقيقته، هو الذي يشكل حلقة بعد حلقة، مسيرة بناء أمّةٍ، أساسها متين، وتراكيبها وتنوّعاتها الطارئة، قابلة للاستدامة المنشودة .. بل الدفينة في وجدان أجيالٍ، ستأتي بعد أزمان يصعب احتسابها. وإني إلى ذلك، أرى في النأي عن العصبية العرقية والدينية، محمدة تعين البوصلة لتحديد اتجاهات المسيرة بوضوح، فلا تنشغل بالتنافس والتنازع والاقتتال .
حديثي عن "اللعنة الكولونيالية الإستعلائية"، تجلّى عندي في وقائع تاريخ البلاد ، بعد نحو ستين عاماً من استقلالها ، فدفع "السودانيون" ثمن تلك "اللعنة" بفصل جنوب السودان عن شماله . هو "شيلوك" يقتطع منك ومن مواردٍ تملكها ، ما يحقق بسكينه بعض أطماعه، ويشبع شهوته للنهب وللغطرسة. عندك لي من شيكسبير "كاسيوس" وتعاسته، وعندي لك منه "شيلوك" أطماعه..!
(6)
دعني أعيد عليك قولي: إن المقدّر أن تبدأ حقبة جديدة، ومرحلة ستعبرها أجيالٌ وأجيال ، قد يتاح بعدها، لهذا الوطن أن يجد نفسه خارج دوّامة "الكولونيالية الخفية" التي تتلاعب بمصائره، وكأنها تسعد بالإبقاء على "الجِ نيّ" حبيساً داخل قارورته..! فائدته أن يكون بلا حيلة . أن يبقى مهيضَ الجناح. إنها لمفارقة لافتة ، أن نجد إسم "السودان" الذي تخلصت منه بلدان غرب افريقيا ، قد احتفظت به دولة "جنوب السودان" ، التي لم يكن إقليمها يوماً، جزءاً من "الحزام السوداني" التاريخي القديم..! ولكنها إرادة "شيلوك". . تبقي النزيف متواصلا بين البلدين.. لذا لا أرى من فرق يذكر بين اتفاقية الحكم الثنائي و"اتفاقية نيفاشا"، إذ كلتاهما شكلتا تلك الحلقة الناشزة في المسيرة المتجهة نحو الهوية السودانوية.. لكن تلك قصة أخرى.

الخرطوم- 12 أغسطس 2017

مات الحياة والتمتع بالمواطنة تحت سقف السلام والأمان والديمقراطية. لكن، هذا الحل لن يتأتى إلا بتوفر ثلاثية الإرادة والرؤية

 

آراء