“ترامْب”: الرّئيسُ المُـغَــرِّد
أقرب إلى القلب :
Jamalim1@hotmail.com
(1)
من وسائل التواصل الإجتماعي التي أتاحتها الشبكة العنكبوتية، ذلك البرنامج الذي ابتدعه "جاك دورسي" عام 2006 ، وقت أن كان طالباً في جامعة نيويورك، وسمّاه "تويتر". لقد اشتقّ الإسم من الكلمة الانجليزية "تويتر" ، وهيّ تغريد العصفور الصغير ذي اللون الأزرق، والذي اتخذه مبتدع البرنامج شعاراً له. عنيَ البرنامج بتبادل رسائل نصيّة قصيرة، عبر مجموعة صغيرة من الأصدقاء، أو مجموعة جمعتها اهتمامات متجانسة. وسيلة التواصل الإجتماعي "تويتر" التي بدأت متواضعة، بعد سنوات قليلة من إنشائه، سرعان ما اتسعت دائرتها، وبلغ عدد أعضائها النشطين، ما يربو على 380 مليون شخص في عام 2016، وربما يكون هذا العدد قد تضاعف في ساعة كتابة مقالي هذا . تدير مجموعة من مهندسي المواقع الإلكترونية والحواسيب الذكية، هذا البرنامج المميّز من رئاسة مكاتبهم في "سان فرانسيسكو"، وقد حققوا أرباحا خيالية في خلال فترة وجيزة، شاع فيها وانتشر استعمال "تويتر " وسيلة فاعلة للتواصل.
(2)
عليك أن تلتحق بعضوية "تويتر"، لكي يتاح لك التفاعل الكامل مع جميع الأعضاء. ليس موضوعي هنا هو هذا البرنامج تحديداً ، ولكن ما يلفت الأنظار، أن الرئيس الأمريكي الحالي، السيد "دونالد ترامب"، هو أحد النشطاء المرموقين على "تويتر" ، بما أكسبه لقب "الرئيس المُغـرّد" عن جدارة..
لقد باتَ متوقعاً أن تُحدِث الشبكةُ العنكبوتية أثراً كبيراً في التواصل بين البشر وأيضاً على إدارة العلاقات الخارجية بين الدول والشعوب. إن كانت طبيعة الدبلوماسية هي إدارة تلك العلاقات بين الدول والشعوب، توطيداً لمباديء التعاون الدولي، فإن الدبلوماسية بهياكلها التقليدية ستؤول أقدارها إلى تحوّلٍ لازم ، إذ أن العلاقات الدبلوماسية القائمة الآن بين الدول وفق اتفاقيات دولية، صيغتْ بعد نحو عقدٍ ونصف العقد بعد الحرب العالمية الثانية، فإن تلك الترتيبات القانونية التي حكمتْ ونظّمتْ العلاقات بين الدول والشعوب، لن تكون لها ذات الفعالية في حقبة التواصل السريع والفعال الذي أتاحته شبكة الانترنت، بما يشبه فعل الجن مع سليمان النبي. لقد اختصر التواصل الالكتروني، تلك الأيام الطويلة التي يستغرقها إرسال "الحقيبة الدبلوماسية" التقليدية، من وزارة للخارجية إلى سفارة من سفاراتها في دولة أخرى. الآن صارت الحقيبة الدبلوماسية" حقيبة "ناعمة" تسافر عبر الانترنت ، لا بالطائرات والسفن العابرة !
(3)
هكذا تغيرت طبيعة التواصل بين الدول، فصرنا نسمع بعد انتشار الهواتف الجوّالة، عن "دبلوماسية الاتصال المباشر" بتلك الهواتف بين الوزراء والرؤساء، فاختصروا كذلك الكثير من مهام السفراء والمبعوثين الذين يحملون رسائل خطية. هكذا صارت الهواتف الجوالة والذكية عوناً حاسماً في إنجاز أكثر المهام الدبلوماسية التي كان يقوم بها السفراء والمبعوثون، في حقبة ما قبل "الإنترنت".
لقد تابعنا الحملة الانتخابية التي خاضها خلال عام 2016 مرشحو الرئاسة الأمريكية: "دونالد ترامب" عن الحزب الجمهوري و"هيلري كلينتون" عن الحزب الديمقراطي. لعلّ أكثر ما أضرّ بالمرشحة الرئاسية "كلينتون"وأفضى إلى خسرانها، هو ما رشح عن بريدها الالكتروني من رسائل ، جعلتها عرضة لضربات "تحت الحزام" كما يقال من خصمها اللدود "دونالد ترامب". لا نستطيع الجزم بأنّ أزمة رسائلها الإلكترونية كانت سبباً مباشراً في فشلها في المنافسة على الرئاسة الأمريكية، ولكنها خصمت نسبة مقدرة من مصداقيتها أمام الناخب الأمريكي. .
بعد فوز "ترامب"، برزت معركة أخرى حول شائعة تدخلات روسية في ترجيح كفة المرشح الجمهوري، وتفاعلت التحقيقات الاستخباراتية في الأمر ، وشكلت فضيحة للرئيس "ترامب" وأضعفت أيضا من مصداقيته. .
(4)
هكذا صارت ساحة الشبكة العنكبوتية، أرضاً لعراكٍ افتراضي، له من التداعيات ما رفع سقف طموح المناوئين للرئيس الأمريكي "ترامب" إلى العمل على إضعاف شرعيته، بل والتشكيك في مقدراته العقلية في إدارة الولايات المتحدة الأمريكية، إضافة لضعف معرفته بالعلاقات الدولية .
لكن تلك قصصٌ دارت حولها ظاهرة أشبه بما نسمّيه هنا ، بـ "الشمارات": كلام يتناقله الناس بما يكاد أن يتحوّل إلى حقيقة ماثلة. للرئيس الأمريكي- كما يرى الناس- غرامٌ غير خافٍ بالتواصل السريع، يرسل عبر "تويتر"، "تغريداته" الفورية ، فيتابعها العالم بكل جدية واهتمام. ولقد تجلّى تعامل الرئيس الأمريكي عبر "تغريداته" حول عددٍ من القضايا السياسية التي أثارت جدلاً واسعاً ، داخل وخارج الولايات المتحدة.
(5)
وأعطيك في الفقرة التالية من مقالي بعض هذه التجليات والتداعيات..
+ وضح جلياً احتفاء الرئيس "ترامب بالأضواء واهتمامه بأن يكون تحت عدسات
المصورين ليل نهار . أنظر كيف أحاطت به آلات التصوير ساعة حين قام بالتوقيع على الأمر الرئاسي الأول بحظر دخول مواطني عدد من الدول إلى الولايات المتحدة..
+ يرصد المتابعون كيف تسابق أو تلاحق وزارة الخارجية الأمريكية، وعبر ناطقها الرسمي، لتوضيح بعض ما تتضمنه "تغريدات " الرئيس الأمريكي، حول مختلف القضايا الداخلية والخارجية ، وهو ما يشكل عبئا إضافياً ومرهقاً للدبلوماسية الأمريكية..
+ شنّ "ترامب" حرباً شبه معلنة على القنوات الفضائية والأجهزة الإعلامية الأمريكية، خاصة "السي إن إن" ، يشكك في مصداقيتها لإكثارها من انتقاد إدارته و"تغريداته" وأيضاً تصريحاته، التي يطلقها بلغة غير معهودة عن البيت الأبيض، الذي لا تخرج بياناته إلا بعد مدارسة وتدقيق واستشارات عميقة. ..
+ لم يستطع الرئيس "ترامب" من اخفاء ميوله المعادية للمسلمين ، خاصة في بداية حملته الانتخابية خلال عام 2016، وأيضا تردده في التعاطف مع "الأمريكيين الأفارقة". يلاحظ الإعلام الأمريكي اثارة "ترامب" للرياضيين الذين شاءوا أن لا يقفوا للنشيد الوطني تعبيراً عن احتجاجهم عليه، واستعماله ألفاظاً يمكن أن توصف بأنها "شوارعية" بلغتنا ، ولا تليق برئيس محترم..
+أما الملاسنة التي حملتها "تغريدات" الرئاسية الأمريكية مع رئيس كوريا الشمالية ، حول أزمة الصواريخ، فقد تجاوزت المؤسسات الأمريكية التي كادت أن تفقد توازنها في متابعة "تصريحات الرئيس الأمريكي، فاتخذ الصراع طابعاً شخصياً بين "ترامب" و"كيم جونغ أوون"، فيما ترتجف اليابان ويكاد العالم أن يفقد توازنه. ...
(6)
لعلّ الأخطر من كلّ ذلك، وبعد قراءة فاحصة لهذا الأداء "المتردّي" للرئيس الأمريكي، هو تجاوزه- ليس فقط لمؤسّسات الإدارة الأمريكية الراسخة- بل لتجاهله مؤسّسية الحزب الجمهوري الذي ينتمي إليه نفسه. لقد تجلّى ذلك في جنوحه للإستغناء بين أسبوعٍ وآخر، عمّن كان يساعده من مستشارين وناصحين من حزبه، بصورة مزاجية غير مسبوقة. بدا الرئيس الأمريكي في كلّ ذلك، وكأنه الآمر الناهي، الذي لا يحفل ولا يصغي ولا ينتبه لتصرفاته و"تغريداته"، التي قد تعزّز في نهاية الأمر من احتمالات استمراره رئيساً في البيت الأبيض..
قال بيان أصدرته مجموعة من المثقفين الأمريكيين في 24 مايو من عام 2016، عند بدء حملة "ترامب "الانتخابية : ( إنّ التاريخ الأمريكي الرّاسخ في دعم التعايش بين مختلف الأقليات والثقافات، لا يناسبه مرشح يؤجّج الاختلاف بين مكوّنات المجتمع الأمريكي، ويعتمد لغة تعادي الأقليات ، ويعكس جهلاً فادحاً بمقوّمات المجتمع الأمريكي، وتوجّهاته الخارجية. .).
بعد كلّ "تغريدة" يكتبها الرئيس "ترامب" في حسابه في "تويتر"، وبعد كلّ تصريح "أشتر" يطلقه الرئيس الأمريكي ، يتأكد تماماً صدق ما جاء في بيان المثقفين الأمريكيين. .