سواكن مدينة أثرية تاريخية
برزت مدينة سواكن التاريخية ونالت حظها في الإعلام المحلي والإقليمي والدولي بعد زيارة الرئيس التركي أردوغان للسودان ومعه وفد تجاري كبير ، وكان من نتائج هذه الزيارة قرار الحكومة السودانية بتولي تركيا إعادة تأهيل جزيرة سواكن المطلة علي البحر الأحمر وإدارتها لفترة معينة ، مما أثار ردود فعل وانتقادات واسعة.
كما عرضت الحكومة للقطاع الخاص التركي مليون فدان لزراعة قطن وحبوب زيتية ، كما تقرر رفع التبادل التجاري من 500 مليون دولار إلي 10 مليار دولار بين البلدين !!!.
نسلط الضوء في هذا المقال علي سواكن عبر العصور باعتبارها من أقدم المدن السودانية التاريخية والأثرية الحية التي ما أن يخبو نارها حتى تشتعل من جديد، وضرورة الحفاظ عليها با عتبارها من الكنوز الأثرية والسياحية والثقافية العالمية ، وبعيدا عن المحاوروالأحلاف العسكرية ، والتوترات العسكرية الضارة بالمنطقة وشعب السودان.
عرف السودان منذ العصور القديمة منافذ أو موانئ كان يطل منها علي العالم الخارجي سواء في نشاطه التجاري أو غيره ، من أهم تلك الموانئ عيذاب التي كانت منفذ ممالك النوبة إلي بلاد الحجاز واليمن ومكة. وصفها الرحالة والمؤرخون العرب مثل : ابن بطوطة في مؤلفه " تحفة الأنظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار، 779 ه- 1377م" ، والمقريزي في مؤلفه " المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، 1445 م" ، وناصر خسرو في كتاب " سفرنامة ، 481 ه – 1088م" ، وأحمد بن اسحاق " اليعقوبي" في مؤلفه تاريخ اليعقوبي، علي سبيل المثال: وصف اليعقوبي ميناء عيذاب بقوله : "عيذاب ساحل البحر المالح (البحر الأحمر)، يركب الناس منه إلي مكة والحجاز واليمن ويأتيه التجار فيحملون التبر والعاج وغير ذلك في المراكب". كما أشار ابن بطوطة إلي صيد اللؤلؤ فيها.
كانت عيذاب تربط موانئ اليمن مع الهند والبحر المتوسط وأهم موانئ الحجاج إلي مكة لمدة أربعة قرون من القرن العاشر وحتى القرن الرابع عشر الميلادي بعد أن أغلق الصليبيون الحج عن طريق الشام.
تقع عيذاب علي بعد 23 كلم شمال حلايب السودانية التي احتلتها مصر، وهي من المناطق التاريخية والأثرية والثقافية العالمية.
تدهورت عيذاب بعد استعادة ميناء جدة لنشاطه ، وفتح طريق سيناء ، وانعدام الأمن فيها بسبب النزاع الذي نشب بين قبائل المنطقة وكثرة الاعتداءات علي القوافل.
"راجع مصطفي محمد مسعد : المكتبة السودانية العربية، وللمزيد من التفاصيل عن عيذاب راجع: بشير ابراهيم: عيذاب وحياته الدينية والأدبية في مجلة الدراسات السودانية مجلد (5) يوليو 1979م ".
ثم جاءت بعد عيذاب سواكن التي تضم منطقة أثرية تاريخية، وهى في الأصل جزيرة مرجانية قامت فيها المدينة القديمة ثم توسعت إلي الساحل وما جاوره ، وكانت معروفة لقدماء المصريين واليونانيين والرومان، وفي دولة الخلافة الإسلامية الأموية والعباسية ، وفر بعض الأمويين اليها بعد سقوط دولة بني أمية عي يد العباسيين، وأشار الي أهميتها وموقعها وتاريخها الرحالة والمؤرخون العرب في العصور الوسطي مثل : ابن بطوطة ، واليعقوبي وابن حوقل الخ.
كانت سواكن مشهورة وتمر بها الرحلات بعد عبور الموانئ المجاورة : القنفذة ، جدة ، الليث ، ينبع “ في السعودية” ، وميناء القصير وسفاجا "في مصر"، ومرت سواكن بفترات انتعاش وضمور في تاريخها.
في عام 1517 غزا السلطان العثماني سليم الأول مدينة سواكن بعد أن احتل الفونج ميناء القصير، وأصبحت مقرا لحاكم مديرية الحبشة العثمانية التي شملت مدن حرقيقة ومصوع في أريتريا. وتعرضت للهجوم البرتغالي في فترة من تاريخها.
في عام 1629 أصبحت سواكن قاعدة عسكرية للحملة العثمانية علي اليمن.
سواكن في فترة مملكة الفونج “ 1504- 1821 “
كانت الميناء ومنفذ مملكة الفونج إلى بلاد الهند واليمن والحجاز ، وبالتالي كانت مركزاً تجارياً مهما في تلك الفترة ، وكانت سواكن تضم اخلاطاً من السكان : هنود ، يمنيون ، عرب ، وأفارقه من شرق وغرب أفريقيا ، وبالتالي كانت منطقة تداخل ثقافي وسكاني هام ، شأن كل المواني والمنافذ الخارجية .
ذكر الرحالة بركهارد : أن المقيمين في مدينة سواكن عام 1841م كانوا نحو ثمانية ألف نسمة .
وكانت الصادرات عن طريق سواكن : التنباك ، العاج ، الصمغ ، الذهب ، الريش والرقيق .
أما الواردات فكانت : الدبلان ، الشاش (على أنواعه) والبنوة وهي نوع من القماش يستورد من مدراس وسورات (الهند)، وهذه الثياب لا تلبسها إلا الطبقة الثرية في شندي وسنار ، وكردفان ، العطور الهندية والحرائر ، ويبيعونها في دارفور ودار صالح والبرقو ، لأن تجار هذه الجهات يفضلون هذه الأصناف على غيرها ، وقيمة الألف حبة من الكرهمان ، تباع في كردفان بست جوار (العملة) ، مع أن ثمنها في شندي نحو مائة وعشرين ريالاً أسبانياً وهو أروج تجارة لخفة حمله وعلو ثمنه .
وكانت الصناعة الحرفية مزدهرة في سواكن ، فقد أعتمد سكان سواكن على صناعتهم المحلية ، فكان منهم الحدادون ، النجارون ، الصاغون، البناؤن ، والنحاتون ، وهذا بخلاف صناعة الحصير (البروش) والشمل ، والبطاطين من أصواف البهائم ، ومن جلودها السروج والنعال والجرابات .
وكانت الارتيقة يشكلون أركان التجارة في سواكن وعن الأوزان المستعملة في سواكن كان : الدرهم يساوي 16 قيراطاً ، المثقال يساوي درهم ونصف ، الأوقية وتساوي 12 درهماً . "راجع محمد صالح ضرار ، تاريخ سواكن والبحر الأحمر " الدار السودانية للكتب ، 1981م ، ص ، 79 ".
كما أتخذ حكام الفونج مدينة سواكن منفي لمن لا يريدون بقاءهم معهم في سنار من ملوك دولتهم ووزرائهم ( تم نفي الملك بادي أبو شلوخ ، الملك إسماعيل).
” محمد صالح ضرار ، مرجع سابق ، ص 46” .
وكانت تجارة الرقيق تحتل مركز الثقل في الصادرات ، وأشار بركهارد أن سفن التجار كانت من هناك ما بين ألفين وثلاثة الأف عبد وجارية كل سنة .
كما يذكر محمد صالح ضرار أن عدد الرقيق الذي كان يصدر سنوياً من ميناء سواكن نحو 2500 شخص ، ضرار ص ، 76.
مما يشير إلى الحجم الكبير لتجارة الرقيق اللعينة والأعداد الضخمة التي كانت تصدر إلى بلاد الهند وفارس والحجاز ومنها إلى تجـارة الرقيق في أوربا ومنها إلى الأراضي الجديـدة (في أمريكا الشمالية والجنوبيـة).
كانت سواكن نقطة جمارك مهمة تصل منها عوائد كبيرة بانتظام لملوك الفونج .
سواكن في فترة الحكم التركي “ 1821- 1885”.
*في فترة الحكم التركي كانت سواكن من المدن التجارية المهمة ، يصف كاتب وثيقة " تخوم علي العالم الإسلامي “ سواكن علي النحو التالي:
بني جزء من سواكن علي جزيرة صغيرة والجزء الآخر داخل البلد ، بنيت معظم منازل الجزيرة من الحجارة المرجانية التي تحفر من حوض البحر ومعظم المساكن داخل البلد من قطاطي ذوات سقف مخروطي ويوجد السوق في هذا الجزء من المدينة ، تأتي مياه الشرب من بئر عذبة تقع علي مسيرة ساعة داخل الجزيرة.
ثلاثة أو أربعة من الأشجار هي كل نصيب الجزيرة أو الساحل من الخضرة ، التربة جافة وغير مزروعة ، الطعام رخيص والمواد الغذائية هي لحم البقر والضأن والجمال والماعز وبعض الأرانب والطيور والسمك واللبن ، أما الذرة فيستورد من الحجاز لصناعة الكسرة.
يواصل الكاتب ويقول:
المدينة عبارة عن نقطة انتقال بين الجزيرة العربية وداخل أفريقيا ، وهناك مسجدان ومقاهى وهي المكان الوحيد الذي يلتقي فيها أهل المدينة ، والعملة الوحيدة المتداولة هي ابونقطة والدولار والبارة ، ولا تستخدم النقود الذهبية في المقايضة " تخوم ص 65 ".
كما أن النشاط الغالب للسكان في المدينة كان النشاط التجاري ، من معالم سواكن البارزة قصر الشناوى ذلك السراى الذي بناه محمد بك الشناوى.
" للمزيد من التفاصيل عن سواكن راجع محمد صالح ضرار : تاريخ سواكن والبحر الأحمر ، الدار السودانية للكتب 1981 ".
باحتلال محمد على باشا للسودان عام 1821 ، دخلت سواكن مرحلة جديدة في تاريخها ، لم تعترف الإمبراطورية العثمانية بحق محمد على في ضم سواكن لملكه ، وقامت بتأجيرها له مقابل مبلغ مالي يدفع سنويا ، بعد وفاة محمد على باشا 1849 ، عادت سواكن للدولة العثمانية ، وكان مواطن سواكن يعتبر “سواكني عثماني”.
في عهد الخديوى إسماعيل باشا ضمت سواكن للسودان الإنجليزي - المصري، بعد أن تعهد الخديوي بدفع مبلغ 7,500 جنية مصري لوالي جدة. في عام 1865 تنازلت السلطة العثمانية رسميا عن سواكن مقابل جزية سنوية قدرها 5 ألف جنية مصري.
لم يستطع المصريون الأتراك تطوير سواكن لتقوم بدورها كمنفذ بحري للسودان بسبب توجيه محمد علي باشا تجارة السودان نحو مصر. بعد إنشاء قناة السويس 1869 ، انتعشت موانئ المنطقة ومنها سواكن.
سعي الخديوي إسماعيل لتعمير مدينة سواكن فبني فيها منازل جديدة ومصانع ومساجد ومستشفيات وكنيسة للأقباط ، وعادت السفن الأوربية ، وجرت عملية التبادل التجاري : التمور ، الجلود ، القطن ، الصمغ العربي ، سن الفيل ، ريش النعام ، شمع العسل والسمن ، مقابل منتجات الشرق والغرب منها: التوابل ، الزجاج ، الورق والمنسوجات. ازداد السكان من : العرب والبجا ومن اليمن واليونان ومصر وارمينيا والهند.
عملت فيها شركات بحرية مثل : شركة الهند الشرقية ، والشركة الخديوية ، وشركة ملاحة ربانينو الإيطالية. حاول الأتراك ربطها بالسكك الحديدية ، الا أن الحرب الأثيوبية المصرية واندلاع الثورة المهدية أدت لوقف حركة العمران، وحاصرت قوات المهدية سواكن حتي تم سقوطها علي يد قوات عثمان دقنة ، وتم تحرير سواكن من قبضة الاحتلال التركي.
وبعد سقوط دولة المهدية علي يد الاحتلال الإنجليزي – المصري عام 1898 ، في بداية فترة الاستعمار تم تحويل ميناء سواكن الي بورتسودان، وكان السبب أنها غير ملائمة لاستقبال السفن الكبيرة.
وظلت ميناء سواكن مهجورة بعد الاستقلال ، ولكن في أوائل ثمانينيات القرن الماضي قرر نظام النميري إعادة تعميرها باسم ميناء عثمان دقنة لتفويج الحجاج إلي جدة.
وتظل سواكن من الكنوز الأثرية والثقافية العالمية ومن المناطق السياحية المهمة ، فضلا عن أنها موطن عثمان دقنة أحد قادة الثورة المهدية الاشاوس ، ورمزا للمقاومة ضد الاحتلال التركي للسودان، وهناك تخوف من إدارة تركيا لسواكن بحجة تأهيلها لفترة معينة وإعادة الاحتلال التركي لها ، وإقامة قاعدة عسكرية ، مما يهدد أمن واستقرار المنطقة بأسرها، مما يتطلب أوسع مقاومة من أجل الحفاظ علي سواكن كرمز للسلام والتعايش السلمي والكنوز الأثرية والثقافية المهمة في السودان والعالم.
alsirbabo@yahoo.co.uk