كلمة في حق دكتور حمور

 


 

 


بسم الله الرحمن الرحيم

غيب الموت البارحة بلندن الدكتور السايكياتريست محمد عبد العال حمور، الصديق العزيز جدا. ولقد سمعت بمرضه قبل بضعة أيام من إبني عباس المقيم بلندن، واتصلت به وتحدثت مع رفيقة دربه سميرة حمور التى وجدتها صابرة متماسكة ورابطة الجأش مثل كنداكات بلادي اللائي يظهر معدنهن الأصلي في الملمات والنوازل بكافة مطبات ومنحنيات الحياة. ثم وافاني عباس بنبأ الوفاة قبل بضع ساعات، فطار النوم من عيوني وتكورت عبرة في حلقي وأنا أستعيد شريط ذكريات تعود لعام 1971، وما انفكت العلاقة الودودة مستمرة بيننا في ديمومة نادرة المثال وسط (الأفندية).

عندما تقلبت بي النوى على إثر أحداث 19 يوليو 1971 وجدت نفسي ببريطانيا لاجئاً مؤقتاً ريثما رتب لي (الحزب) بعثة بجامعة في تشيكوسلوفاكيا، وقضيت شهرين بلندن منها أسبوعين بداخلية لندن هاوس حيث كان حمور يقيم أثناء دراسته للتخصص بجامعة لندن، وطوال تلكم الشهرين أغدق علي حمور فيضاً لم ينضب من كرمه وحسن معشره وطلاوة أنسه وإنسانيته المتدفقة. وكان ذلك هو ديدنه مع كل من يحل بلبندن من (الرفاق) أو الأهل التنقساوية والحموراب وكل من له صلة به قريبة أو بعيدة.
ولقد زارنا حمور في براغ صيف 1972 قاصداً بالتحديد أحد أصدقائه النقابيين من أهل بري المحس (لا أذكر إسمه بالتحديد)، جاء لاجئاً كذلك بعد أحداث يوليو؛ جاء حمور ليطمئن عليه ويدبجه (يرقعه) بكل ما يحتاج من ملبس ومصاريف، وسهرنا عدة مرات فى صحبة أستاذنا الراحل محجوب عثمان، حينما كان العود أخضراً والنفوس طيبة والسرائر بلون الحليب.
عدت للندن عام 1979 مبعوثاً من جامعة جوبا ووجدت حمور وعلي نور الجليل ما زالا بإنجلترا كطبيبين اختصاصيين ولاجئين سياسيين، فقد كانا في قيادة إتحاد الطلاب ببريطانيا عام 1971 وكانا مرافقين للشهيدين بابكر النور وفاروق حمد الله أثناء زيارتهما المشهورة للندن فى تلك الأيام، وكانا المنظمين البارزين للمؤتمر الصحفي الذي عقداه قبيل مغادرتهما ضمن تلك الرحلة المشؤومة التى انتهت بإنزال الطائرة في طرابلس وإنزال بابكر
2
وحمد الله منها وتسليمهما لنظام النميري الباطش المجرم. ومنذئذ أصبح علي نور الجليل وحمور مطلوبين لدي أمن النميري، ومن بعده أمن النظام الراهن. ولقد زاملت كلا الرفيقين الجميلين علي وحمور حتى تقدمت باستقالتي من الحزب عام 1984 التى قبلها فرع الحزب بأريحية ودون مرارات، وظل حبل الود مع هذين الزميلين بالتحديد متصلا لم ينقطع، بل استمر كأن شيئاً لم يكن إلى يومنا هذا. وكان آخر نشاط قمت به مع حمور قبل الإستقالة هو ذهابنا سويا لباريس عام 1983 لتمثيل الحزب في احتفال صحيفة اللومانتي بعيدها المئوي (وهي الجريدة الناطقة باسم الحزب الشيوعي الفرنسي)، وأعطونا كشكاً بالمعرض وضعنا عليه أرففاً من الميدان السرية وبعض المطبوعات الأخري. وفي أثناء الرحلة بالباص من وإلي لندن كان حمور يغني لي أغاني الحماسة التراثية التى ظل يحفظها بإتقان مدهش، وغير ذلك من الأشعار والقصص السودانية العتيقة.
عدت مرة أخري للندن عام 1998 لإيجاد مدرسة ثانوية لإبني عباس عله يستفيد من جوازه البريطاني فى مسألة الدراسة الجامعية الوشيكة. فذهبت لحمور في كانتربري الذى أحسن وفادتي واصطحبني ذات يوم ماطر شديد الصقيع والزمهرير، وطفنا بجميع مدارس كانتربري، إلى أن استقرينا بواحدة منها، وتحدث حمور من ناظرها وتم قبول عباس بها. ثم قام حمور بعرض وظيفة في مستشفاه على زوج شقيقتي الطبيب النفساني حسن طه المقيم بروزرهام في شمال انجلترا وذلك حتى تأتي الأسرة وتستقر فى كانتربري حيث التعليم الجيد والسكن الرخيص نسبيا، وحتى يوفروا غطاءً ودفئاً أسريا لعباس. ثم رتب لعباس أن يقيم مع أسرة إحدي الممرضات (من هنود مدغشقر) التى وفرت له غرفة معقولة الإيجار. وبالفعل جاءت شقيقتي وزوجها لكانتربري ولا زالا مقيمين بها فى أتم استقرار بحمد الله.
وفي نفس العام طلبت خطابا رسمياً من فرع الحزب بانتمائي حتي عام 1984 عله يفيدني في التقديم للهجرة من الإمارات ربما إلي كندا أو أستراليا. فأرسل لى حمور رسالة بتوقيعه بإ سمه الحركي (قرنق)– لا زلت أحتفظ بها، أغدق علي فيه من الصفات النضالية ما لم تكن في حسباني، بعكس بعض الشيوعيين الذين عندما تغادرهم يقلبون لك ظهر المجن ويرمونك بأفظع النعوت، أقلها (المرتد كاوتسكي).
ما سمعت عن حمور في أي يوم من الأيام غير أنه مثابر في قضية النضال الوطني وفي الوقوف مع أهله وأصدقائه بنوع من الوفاء والتفاني ونكران الذات غير مألوف هذه الأيام. إنه نوع من متصوفة الشيوعيين الذين ذهبوا لملاقاة ربهم بضمير ككتاب الله طاهر وبصفحة ناصعة مشرفة ليس فيها إلا ما يرفع رأسنا كلنا كوطنيين وكقبيلة وكوطن. ألا رحم الله أبا عبد العال وجعل البركة في ذريته التى رباها وأحسن تأديبها، ونسأل الله بحق أسمائه وأنبيائه وأوليائه الصالحين أن يوسع مرقده في الجنة بين الصديقين والشهداء.
صديقك المكلوم / الفاضل عباس محمد علي

fdil.abbas@gmail.com

 

آراء