زراعة الجوع والبؤس في السودان

 


 

 

 

رغم مشروعية وصواب كل أحاديث الثقافة والمثقفين عن جدلية العلاقة بين الاقتصاد والسياسة، باعتبار أن كلا منهما يعبر عن الآخر، فإن المواطن البسيط يتخطى كل تلك التجريدات والتعميمات المفاهيمية والفلسفية، لينفذ مباشرة إلى الملموس متسائلا حول ما تقدمه له هذه العلاقة من خبز وعلاج وتعليم وكل ما يقيه شر الفاقة والعوز؟! والمواطن السوداني البسيط يدرك، من واقع التجربة التي يعايشها، حيث تتحكم مجموعة بعينها في إدارة السياسة والاقتصاد، أن الفشل في إدارة أي منهما سيتبعه بالضرورة فشل في إدارة الآخر. لقد كتبت مئات الآلاف من الصفحات حول آثار ونتائج فشل السياسة والاقتصاد تحت ظل حكم الانقاذ، ولكنا نكتفي بالنقاط الأربع التالية:

بسبب الحرب الأهلية في البلاد، فقد السودان أرواح الآلاف وهم في ريعان الشباب. ولكن أيضا بسبب الفصل والتشريد من العمل الذي طال كل من تشككت الإنقاذ في ولائه وطاعته لها، تعرضت البلاد لنزيف العقول والكفاءات والمهارات وسواعد الشباب، وهو نزيف لم يشهد السودان مثله من قبل، بحثا عن الملاذ والأمان والقوت في بلدان المهجر، من ألاسكا حتى نيوزيلندا.

انعدام المقومات الأساسية للحياة الكريمة في البلاد، حيث يتزايد يوميا، وبعجلة تسارعية، تفشي الفقر والفاقة واستجداء قوت الطعام وسط قطاعات الشعب، بما في ذلك انهيارات الطبقة الوسطى لدرجة التسول. المختصون يتحدثون عن أن الأسرة المكونة من خمسة أفراد، تحتاج إلى أكثر من ستة آلاف جنيه شهريا لمواجهة الحد الأدنى لتكاليف المعيشة، وهذه لا تشمل الوقود (الغاز، الفحم)، ولا الاتصالات، ولا الصيانة ولا شراء الأثاثات ولا الاجتماعيات..الخ، بينما الحد الأدنى الفعلي للأجور لا يغطي سوى 7 إلى 10٪ تقريبا من تكلفة المعيشة في حدها الأدنى.

انعدام الأمن والأمان في المجتمع، الطفولة المشردة، تحطم الأسر وتفسخ النسيج الاجتماعي، والخوف من المستقبل…الخ.

وفي نفس الوقت، صعود شرائح الطفيلية الجديدة من أثرياء الحرب وسماسرة المجاعة وناهبي المال العام، المستفيدين من جهاز الدولة في مراكمة رؤوس أموالهم وتأسيس استثماراتهم.

واليوم، مع الارتفاع المتصاعد والفاحش في أسعار السلع الأساسية، ما عاد من الممكن للسواد الأعظم من السودانيين أن يتحصلوا على قوت يومهم، بينما الحكومة أتممت جاهزيتها لمقابلة احتجاجات وصرخات الجوعى، فأعدت لهم ما استطاعت من قوة ومن رباط الخيل..!. إن انهيار الجنيه السوداني، والارتفاع الجنوني في أسعار السلع الأساسية، هي إحدى قمم جبل جليد السياسة الاقتصادية لحكومة المؤتمر الوطني. أما قاعدة الجبل فسنجدها اصطفافا ضخما من تراكم آثار السياسات الاقتصادية التي ظلت تنفذها الإنقاذ منذ اليوم الأول لانقلابها، بدءا بطردها لرجال الأعمال والرأسمالية الوطنية، المعروفين تقليديا منذ تاريخ بعيد في قطاعات الزراعة والصناعة والتجارة، من السوق والتخطيط لإفقارهم عبر حجز أموالهم في البنوك وفي نفس الوقت فتح البنوك وتسخير أجهزة الدولة الأخرى لمجموعات الانقاذ الطفيلية حتى تراكم رساميلها وتمول نشاطها من موارد الدولة، مرورا ببيع مؤسسات القطاع العام لهذه المجموعات الطفيلية بأبخس الأثمان، ومشاركة لاستثمار الاجنبي وفق دوافع الربح السريع وبعيدا عن الاحتياجات الفعلية للبلاد، ومواصلة السياسات الخرقاء التي دمرت مؤسسات الخدمات الأساسية من تعليم وصحة. أما أهم الأسباب المباشرة لإرتفاع الأسعار وتفاقم الضائقة المعيشية في السودان، فيمكننا تلخيصها في الآتي:

مواصلة الإنفاق الهائل، حسب ميزانية العام 2018، على قطاعات الدولة السيادية، المدنية والعسكرية، والذي يمول عبر فرض المزيد من الضرائب والجبايات، وزيادة أسعار السلع الأساسية والضرورية لحياة المواطن كالدقيق والكهرباء والماء والوقود.

منذ البداية، خرجت حكومة الإنقاذ من مجال إنتاج الاحتياجات الأساسية للدولة التي كانت توفرها لها مؤسسات القطاع العام، وأصبحت الشركات الخاصة المملوكة لمنسوبي الحزب الحاكم وخلصائهم، تحتكر سوق الدولة فتبيعها السلع والخدمات بأسعار خرافية تستنزف قدرا كبيرا من الإيرادات وينتقل عبؤها مباشرة للمواطن. وهذه الشركات تتحصل على رؤوس أموالها وإحتياجات تشغيلها مباشرة من خزينة الدولة، بينما لا ترفد خزينة الدولة بأي إيرادات رغم تحقيقها أرباحا عالية.

سياسات الاستيراد الاعتباطية، وتزايد المديونية الخارجية وارتفاع المبالغ المخصصة لخدمتها، تضغط على احتياطي البلاد من العملات الأجنبية، وعلى عملتنا الوطنية، فيتوالى انخفاض قيمتها، فترتفع أسعار السلع، ويتدهور الدخل الحقيقي للمواطن، وتتدنى قدرته الشرائية.

أصبح الفساد بمثابة الايديولوجية الرسمية للمجموعة الحاكمة، وذلك في ظل سيادة الطغيان والاستبداد، وغياب الرقابة والمحاسبة والشفافية. أما تكلفة الفساد، المنظورة وغير المنظورة، ففي النهاية يسدد فاتورتها المواطن، تدنيا في المعيشة، والمجتمع، تدهورا في القيم والأخلاق.

إن إصلاح حال البلاد المائل يتطلب تنفيذ عملية ثلاثية الأضلاع، ضلعها الأول تحقيق التحول الديمقراطي، فالديمقراطية هي مفتاح حل أي عقدة في السياسة أو الإقتصاد. والضلع الثاني هو إجراء إصلاح سياسي حقيقي ينهي دولة الحزب لصالح دولة الوطن والمواطن. والضلع الثالث هو تنفيذ حزمة من الاجراءات الاقتصادية الضرورية لكبح جماح التضخم، ولجم إرتفاع الأسعار، ورفع معاناة المعيشة عن كاهل الطبقات الفقيرة في البلاد.

وأعتقد إذا أمعنا النظر في مسببات الضائقة المعيشية التي لخصناها أعلاه، يمكننا بكل سهولة رصد قائمة طويلة من الاجراءات الاقتصادية العلاجية المطلوبة. ولكن يظل السؤال الرئيسي هو: هل من الممكن أن تتنازل مجموعات الرأسمالية الطفيلية، وشرائح المنتفعين والأغنياء الجدد عير آلية الفساد والإفساد، هل يمكن أن يتنازلوا، طواعية وإختيارا، عن مال السحت والنهب، ليعود مال الشعب إليه، ولتسود الرقابة والمحاسبة والشفافية في كل النشاط الإقتصادي في البلاد؟ لا أعتقد ذلك ممكنا…..

السوق السوداني يشهد اليوم إنفلاتا في الأسعار بدرجة غير مسبوقة، والأهم غير محتملة بالنسبة لمختلف شرائح الشعب السوداني، إلا منْ وَالى الحاكم!. أما ذاكرة التاريخ، فتختزن نماذج ناجحة ومنتصرة لثورة الجياع والمحرومين، بإعتبارها حصاد زراعة الجوع والبؤس.

نقلا عن القدس العربي

 

آراء