“مناجم الملك سليمان” لرايدر هقارد: الأسطورة كمرجعيَّة تأريخيَّة ودينيَّة للاستعمار (2/3)

 


 

 

 

shurkiano@yahoo.co.uk


أسطورة مناجم الملك سليمان وملكة سبأ

تعود أسطورة مناجم الملك سليمان وموضع إقامة ملكة مملكة سبأ في الجنوب الإفريقي إلى الرحَّالة الألماني كارل موش، وهي الأسطورة التي أثارت فضول وخيال الأوربيين لفترة أكثر من نصف قرن. وإزاء هذه الفترة المديدة قادت الأسطورة إلى واحد من أكبر السِّجالات الاجتماعيَّة والأنثروبولوجيَّة والسِّياسيَّة في ذلك الرَّدح من الزَّمان. مهما يكن من شأن، فقد وطأت قدما موش السَّاحل الشرقي من الجنوب الإفريقي العام 1875م راغباً في أن يكتب ويرسم خارطة أو صورة تمثِّل منظراً طبيعيَّاً في داخليَّة البلاد، ويجري كذلك اختبارات على التربة والصخور. ونتيجة لذلك بات موش أول رجل يرسم خارطة مكتملة لإقليم ترانسفال، وأول شخص أوربي – لئلا نقول إفريقي – يعثر على الذهب في محميَّة أرض بوتسوانا العام 1866م. ووسط خيارين لا ثالث لهما بات موش مضطرباً في أن يختار التنقيب عن الذهب ويمسي رجل أعمال، أو يستمر في ترحاله وتسفاره في إفريقيا، وقد اختار الأخير، وبات مخلصاً لهدفه الرئيس الذي دفعه إلى السَّفر إلى إفريقيا في بادئ الأمر.
فبينما أخذ البريطانيُّون والهولنديُّون والبرتغاليُّون يستوطنون في المناطق السَّاحليَّة في جنوب إفريقيا أمست الأراضي الداخليَّة الشاسعة يكتنفها الغموض، ويتخلَّلها قصص الأرض الإنجيلي لمدينة "أوفير"، مصدر كنوز الملك سليمان الخرافيَّة غير المطروقة. و"أوفير" هي ميناء أو إقليم ورد ذكره في الكتاب المقدَّس (العهد القديم)، وهو كان شهيراً بالثروة. ويُروى أنَّ الملك سليمان كان يستقبل شحنة من الذَّهب والفضة وأعواد الصندل، والجواهر والعاج والقردة والنعام من أوفير كل ثلاثة أعوام. إذ أنَّ هذه الأرض هي التي استرعت انتباه موش، وحازت على فضوله. وتأتي قصة مناجم الملك سليمان في الكتاب المقدَّس في الأصحاح التَّاسع في سِفر الملوك الأول (الآيات من 26-28): "26وعمل الملك سليمان سفناً في عصيون جابر التي بجانب أيلة على شاطئ بحر سوف في أرض أدوم. 27فأرسل حيرام في السُّفن عبيده النَّواتيَّ العارفين بالبحر مع عبيد سليمان، 28فأتوا إلى أوفير، وأخذوا من هناك ذهباً أربع مئة وزنةٍ وعشرين وزنةً، وأتوا بها إلى الملك سليمان."
بيد أنَّ السِّفر قد صمت عن الموقع الجغرافي لأرض "أوفير"، مما أثار حفيظة الرحَّالة والمغامرين الذين تشبَّعوا بقصص العرب الذين كانوا يتاجرون على السَّواحل الشرقيَّة لإفريقيا منذ القرن التَّاسع الميلادي. ومن هنا ارتبط اسم الملك سليمان بالجنوب الإفريقي، ثمَّ من هنا قصَّد الشَّاعر الإنكليزي جون ميلتون مدينة "أوفير"(2) في ملحمته ذات الصيت الذائع، أي "الفردوس المفقود" (Paradise Lost)، في الستينيَّات من القرن السَّابع عشر الميلادي، وكان لسان حاله يقول:(3)
ظننته أوفير، صوب مملكة
الكونغو، وأنغولا في أقصى الجنوب...

بيد أنَّ أول إشارة إلى مناجم الذَّهب في الجنوب الإفريقي، ووجود خرائب لمدينة عظيمة يعود تأريخها إلى العام 1552م، التي وردت في مذكرات البرتغالي جواو دي باروس، وهو الذي كان قد ذكر بأنَّ هناك ثمة مناجم للذَّهب في منطقة تُدعى طوروسا، وتُعرَف باسم آخر هو مملكة بوتوا، ثمَّ إنَّ هذه المعادن لمعروفة في المنطقة منذ أقدم العصور.
غير أنَّ أول ذكر لمدينة زومباني (زيمبابوي) العظمى، حيث كانت مقرَّاً للملك، قد جاء في الخطاب الذي بعث به دييغو دي ألكاكوفا إلى ملك البرتغال العام 1506م. وبرغم من أنَّ موش في الأصل لم يسمع بهذا القصص وتلك الرُّوايات، غير أنَّه قد سمع بأوصاف المدينة إيَّاها، وبوجود الأطلال البالية عندها في بادئ الأمر العام 1867م؛ ومن ثمَّ عزم على زيارة هذه البقعة بعد أن استمع إلى وصف أحد الرِّجال المحليين لهذه الخرائب الأسطوريَّة. وإذ هو يقرِّر أن يسافر إلى المنطقة مصطحباً الأسقف الدكتور ألكسندر ميرينسكي، الذي كان على رأس الإرساليَّة الدينيَّة الألمانيَّة. وميرينسكي كمسيحي كان قد انبهر بالفكرة التي تؤدِّي إلى اكتشاف أرض "أوفير" المفقودة، وهو الذي كان قد شرع في الحديث عن الملك سليمان والملكة بلقيس ملكة سبأ، وكذلك آثار مصر القديمة منذ الستينيَّات من القرن التَّاسع عشر الميلادي. وفي هذه الأثناء كان موش متهيئاً بأن يصدِّق هذا القصص، كما أنَّه هو الآخر كان قد لاحظ ملامح الوجوه السياسيَّة عند بعض المحليين الأفارقة، زاعماً بأنَّها مشابهة لأبناء إسرائيل، وهذا التشابه بات بائناً وسط قبيل مكلاكا (شونا) وأهل بانياي (باتونغا). لكن ماذا يشير هذا كله؟ ربما تعني سحنات المواطنين في هذه المنطقة وألوانهم إلى الطقس الذي قد يكون بارداً؟
مهما يكن من شيء، فقد تحرك موش إلى مداخيل القارة في 3 تموز (يوليو) 1871م وحده لا شريك له، وذلك لأنَّ ميرينسكي كان قد تخلَّف عن اصطحابه حيث حدثت إغارة على الإرساليَّة، مما اضطرَّ أن لا يغادر المكان؛ وإثر ذلك سافر موش مع بعض حملة الأمتعة من الأفارقة المحليين وسط القبائل الإفريقيَّة المتحاربة مع بعضها بعضاً من جانب، وفي خضم العداء المتفشِّي ضد الرَّجل الأبيض من جانب آخر. وإذ الطبيعة كانت شاقة في أشدَّ ما يكون الشقاء؛ وإذ الحرارة تكاد لا تُحتمل؛ وإذ كانت هناك ثمة مخاطر متمثِّلة في الحيوانات المفترسة والأفاعي والناموس، التي تسبب الملاريا؛ ثمَّ إذ قد يتعرَّض المسافر إلى النُّدرة النَّادرة في الماء، والحوجة العارمة للغذاء. مستعيناً بالحملة الأفارقة وصل موش إلى إقليم سبيلونكي، وهو موطن السلطان لومندو في نهاية تموز (يوليو). ومن هنا تتجلَّى عنجهيَّة الرَّجل الأبيض وازدراؤه بسكان البلاد الأصلاء، حيث كان موش هو الذي وصف السلطان لومندو بأنَّه شخص فظ، وتبدو على وجهه ملامح حيوانيَّة. ويستطرد في ازدرائه للرَّجل قائلاً: "فبرغم من أنَّ أدواته التي يستخدمها في إطعام نفسه متطوِّرة في شيء من التطوُّر شديد، وذلك خلف شفتيه الغليظتين بشكل استثنائي، غير أنَّ جبهته المنخفضة مختبئة داخل قطعة قماش كان في السَّابق محمرَّاً. وإنَّ سلوكه ليناسب تماماً ذاك الأسلوب الذي يستطيع أي أحد أن يقرأه من ملامحه الحيوانيَّة، وإنَّه لقادرٌ أن يكون مخلوقاً سويَّاً ليلعب دور آكلي لحوم البشر، ثمَّ لتراني أشك في أعظم ما يكون الشك في حديث مترجمي الذي قال إنَّه لواحد منهم."
وبعد يوم آخر من الرِّحلة حطَّ موش ضيفاً على السلطان سيواس في قريته، الذي وصفه بعبارات متَّزنة نوعاً ما. بيد أنَّه لم يكف عن الخوض في أن يسخر منه ولو قليلاً، وذلك بعد وصف كيفيَّة جلوسه وملامحه وملبسه وهيئته، ودعابته وتفكُّهه مع رفاقه من الملأ الجالسين حوله. وقد كتب موش عنه قائلاً: "إنَّه – أي السلطان سيواس – ليجلس ليس على سجادة، ولكن على روث البقر مباشرة، صانعاً شكلا مدهشاً. أما وجهه الذي يشبه القمر في اكتماله فإنَّه لمدهون بالزَّيت، ولكن نصفه مغطَّى بالذقن، ويرتدي قبعة جندي مزيَّنة بريش الدِّيك، وتتدلَّى منه ضفائر اصطناعيَّة ذات تجاعيد، ثمَّ إنَّها ملطَّخة بالشحم. وبما أنَّه صبوح دوماً وسعيد كل السعادة حيث يرسل النِّكات مدراراً لأصحابه، فإنَّك لتجدنَّ أنَّ لسانه الذي لا يأخذ الرَّاحة، ومن خلال تجميع اللعاب بشكل غزير، وأثناء طرق لسانه بأسنانه باستمرار، تعرَّضتُ باستمرار إلى رذاذ مطر خفيف كثير الرَّذاذ. كان على الدوام يقدِّم لي بعضاً من التمباك (التبغ) من صندوق صغير كان يحتفظ به، ولكنَّني كنت أفضل أن أشعل غليوني الصغير، مهما يكن من أمر، حتى أُصِيب عطر عرقه بالشلل بواسطة سحب الدخان الكثيفة المتصاعدة من غليوني." وبما أنَّ موش قد دخَّر ألسع الألفاظ وأبشع العبارات للأفارقة، غير أنَّه لم يكن يحمل حباً لعيِّنة الرَّجل الأبيض، وبخاصة الأفريكان من الأصل الهولندي (البوير)، الذين اعتبرهم كذبة وكسالى وجهلاء.
ثمَّ توجَّه موش غرباً تارة، وفي الاتجاه الشمال-الغربي تارة أخرى، حتى بدت له جبال شاهقة في شيء من عدم الانتظام شديد، ويبلغ ارتفاعها 1.000 قدماً فوق سطح البحر. وإذ بدت هذه الجبال في شكل أجراس فارغة طوراً، ثمَّ في شكل جبال مغطاة بالشجر هنا وهناك طوراً آخر، حيث منها يخرج ماء صافي، وينساب بغزارة؛ وإذ التربة خصبة حيث تنمو الذرة الشاميَّة إلى ارتفاع ومحيط مدهشين، وتغشاه أشجار طويلة ومرويَّة ذات خضرة داكنة؛ وإذ إنَّك لتجدنَّ طرقاً مطروقة متقاطعة مع بعضها بعضاً دليلاً على وجود أثر السكَّان، برغم من أنَّ لا أحداً يستطيع أن يرى بيوتهم، التي يشيِّدونها عالياً وسط الصخور المتكسِّرة. وأخيراً وصل موش إلى قرية السلطان مبانسولي، سلطان قبيل بانياي، وقد أُصيب موش بالإحباط لأنَّه كان يتوقَّع أن يقابل شاباً قويَّاً، وقائداً حيويَّاً، إلا أنَّه وجد رجلاً صغيراً شبه مختبئ في منزل مشيَّد من لحاء شجر البتولا، علاوة على أنَّه لم يستطع تبادل الحديث معه، لأنَّ ترجمانه كان قد هجره مع مَنْ هجره من حملة أمتعته الآخرين قبيلئذٍ، واكتفى فقط بالجلوس والتحدُّق إلى بعضهما بعضاً حتى ملَّ موش من هذا الوضع الميؤوس منه.
ففيما كان يأمل موش أيما أمل أن يجد إنقاذاً من السلطان مبانسولي، إلا أنَّه وجد نفسه رهينة عنده، وهو الذي احتفظ به لكي يرفع أسهم وضعه وسط رفاقه السلاطين بأنَّه يحتفظ بأسير أبيض. ومن هنا وجد موش نفسه بين أمرين أحلاهما مر: إما أن يوافق على البقاء على هذه الحال، بحيث يقبل الحياة التعيسة، أو يرفض ويخاطر بحياته التي قد يفقدها. ومن هنا طفق موش يكتب إلى آدم ريندر مستغيثاً به. إذاً، من ذا الذي يكون آدم ريندر هذا؟
آدم ريندر هو صائد ألماني هجر زوجه وأطفاله في جنوب إفريقيا هجراً مليَّاً، وتزوَّج بامرأتين إفريقيَّتين، واستقرَّ به المقام في زيمبابوي. كان موش يعتقد أنَّ ريندر قد أساء إلى الأمة الألمانيَّة بزواجه ب"كافرتين"، ومن ثمَّ أحال نفسه إلى وضع الكفار. ولعلَّ كثراً من الألمان أو جلَّهم في ذلكم الرَّدح من الزَّمان قد ملكوا عنصريَّة خطيرة بلغت مبلغاً عظيماً، وترهات ترسَّخت فيهم، وتمكَّنت في نفوسهم. والكافر هو التعبير الذي أطلقه البيض على الزُّنوج في جنوب إفريقيا، ويعود أصل الكلمة إلى العرب أولاً، والبرتغاليين ثانياً، الذين عملوا في تجارة الرِّق في شرق إفريقيا، كما أبنا آنفاً.(4) بيد أنَّ الوضع اليؤوس دوماً – على أيَّة حال – قد يتطلَّب علاجاً يؤوساً، وقد أمسى ريندر رجلاً محبوباً، وليس كما كان موش يعتقد فيه في بادئ الأمر بأنَّه قد لوَّث سمعة الأمة الألمانيَّة بزواجه ب"كافرتين إفريقيَّتين"! إذ أنَّه في نهاية الأمر قد أنقذ موش من قبضة السلطان مبانسولي عن طريق تهدئته بهديَّة، ومن ثمَّ أسرع بموش إلى قرية مجاورة للسلطان بيكا، والذي أمسى منزل موش لتسعة أشهر.
بيد أنَّ هناك ثمة أسطورة محليَّة قد شاعت بأنَّ الرَّجل الأبيض قد عاش في هذه المنطقة، وقد انتقل أهل مكالاكا أو بانياي (مجموعة قبيل شونا) إلى هذه المنطقة قبل 50 عاماً. وبعنجهيَّة الرَّجل الأبيض المألوفة لم يكد يصدِّق موش بأنَّ هذه الخرائب هي عبارة عن مبانٍ شيَّدها الأفارقة، بل اعتقد بأنَّها من بناء الرَّجل الأبيض. على أيٍّ، فقد سمع موش بوجود الجرَّة اللغز ذات الأرجل الأربع، والتي تتبختر باختيال في قمة جبل مجاور يُسمَّى جبل الشيطان. وفي الحق، لا أحداً من المحليين كان قد رآها من قبل، لأنَّهم كانوا خائفين أن يصعدوا إلى الجبل والانشغال بالبحث عنها. وقد قيل إنَّ الجرَّة لعدوانيَّة. ففي الماضي صعد رجل عجوز إلى الجبل إيَّاه لمشاهدة هذه الجرَّة، لكنه أُصيب بالجنون، وآخر حاول الشيء نفسه غير أنَّه فقد شعره كله، وثالث أدخل يده فيها، وفي الآن نفسه فقد أصابعه عندما أطبق غطاء الجرَّة على يده حين شرع في قفلها.
وفي 3 أيلول (سبتمبر) 1871م اصطحب موش ريندر وأبناء السلطان بيكا وشرعوا في الصعود إلى جبل الشيطان إيَّاه، وإذا بهم يقتربوا إلى قمة الجبل؛ وإذا بالأفارقة يزدادون خوفاً، وتمتلئ قلوبهم رعباً؛ ثمَّ إذا بموش يقدِّم لهم بندقيَّته في سبيل الحماية، فلم يزدهم ذلك إلا امتناعاً عن الاقتراب، وذلك كله برغم من أنَّ الرَّجلين الأبيضين قد جلسا على القمة. وفي 5 أيلول (سبتمبر) ذهب موش ومن معه إلى الخرائب التي سبق أن رأوها وهم على قمة جبل الشيطان، حيث أخذ يسأل نفسه في نفسه ما إذا كان ذاك المكان هو الذي كتب عنه البرتغالي دي باروس العام 1552م، والذي وصفه بأنَّه قلعة مربعة مشيَّدة من الحجارة ذات أحجام مدهشة، وذلك من غير أن يتم تثبيتها بالمِلاط، ثمَّ ذات برج يفوق طوله 12 قامة (مقياس لعمق المياه يساوي 6 أقدام).
إذ جاء في قصة الملك سليمان في الكتاب المقدَّس: "7والبيت في بنائه بُني بحجارة صحيحة مقتلعة، ولم يُسمع في البيت عند بنائه منحتٌ ولا معولٌ ولا أداةٌ من حديد. 8وكان باب الغرفة الوسطى في جانب البيت الأيمن، وكانوا يصعدون بدرج معطَّفٍ إلى الوسطى، ومن الوسطى إلى الثالثة. 9فبنى البيت وأكمله، وسقف البيت بألواح وجوائز من الأَرْز. 10وبنى الغرفات على البيت كلِّه سمكها خمس أذرع، وتمكَّنت في البيت بخشب أرز. 11وكان كلام الرَّبِّ إلى سليمان قائلاً: 12"هذا البيت التي أنت بانيه، إن سلكت في فرائضي وعملت أحكامي وحفظت كلِّ وصايا للسُّلوك بها، فإنِّي أقيم معك كلامي الذي تكلَّمت به إلى داوُد أبيك، 13وأسكن في وسط بني إسرائيل، ولا أترك شعبي إسرائيل".
14فبنى سليمان البيت وأكمله. 15وبنى حيطان البيت من داخل بأضلاع أرز من أرض البيت إلى حيطان السقف، وغشَّاه من داخل بخشب، وفرش أرض البيت بأخشاب سرو. 16وبنى عشرين ذراعاً من مؤخِّر البيت بأضلاع أرْز من الأرض إلى الحيطان. وبنى داخله لأجل المحراب، أي قدس الأقداس. 17وأربعون ذراعاً كانت البيت، أي الهيكل الذي أمامه. 18وأرز البيت من داخل كان منقوراً على شكل قِثَّاء وبراعم زهورٍ. الجميع أرْزٌ. لم يكن يُرى حجرٌ. 19وهيَّأ محراباً في وسط البيت من داخلٍ ليضع هناك تابوت عهد الرَّبِّ. 20ولأجل المحراب عشرون ذراعاً طولاً وعشرون ذراعاً عرضاً وعشرون ذراعاً سمكاً. وغشَّاه بذهب خالص، وغشَّى المذبح بأرْز. 21وغشَّى سليمان البيت من داخل بذهب خالص. وسدَّ بسلاسل ذهب قدَّام المحراب. وغشَّاه بذهب. 22وجميع البيت غشَّاه بذهب إلى تمام كل البيت، وكلَّ المذابح الذي للمحراب غشَّاه بذهب (الملوك الأول، الأصحاح السَّادس: 7-22)."
بيد أنَّنا في هذه الرُّوايات الدِّينيَّة أو الحكاوي الرُّوحيَّة نجد أنَّ الرُّواة قد اختلفوا في أمرها اختلافاً شديداً، وذهب المفسِّرون في شأنها مذاهباً شتى. ودفعهم إلى أمر هذا الاختلاف وشأن هذا التباين تباعد الأزمنة، وتعدُّد الأمكنة، مما جعلهم في حيرة من أمرهم، حتى أتوا بما هوت أنفسهم، وحملته ثقافاتهم، واعتادت عليه مجتمعاتهم. ثمَّ هناك ثمة عامل آخر ألا وهو الجهل الذي كان يسودهم؛ إذ لم يحظوا بقدر يسير من التَّعليم لتدوين أشياءهم والاحتفاظ بها. فالرُّوايات التي طالما خلَّلتها رؤى متشعِّبة، وتجاذبتها تفاسير متعدِّدة، تتحوَّل في نهاية المطاف إلى أساطير الأولين، حيث تشي بشيء من الغرابة شديد، وفي الآن نفسه يصعب التوقُّف عندها، أو الإقرار بها، أو الأخذ بأسبابها، وذلك لتغليب عنصر الخيال على الواقع، والتجهيل على علم اليقين.
أيَّاً كان من أمر، فقد أخذ موش يتمعَّن في شأن الخرائب إيَّاها، التي لم تتوقَّف عن إثارة فضول الرحَّالة والمارة العبارين في هذه المنطقة. صحيح أنَّ كثراً من النَّاس قد اندهشوا أمام هذه الأشكال الغريبة المقطَّعة التي اتخذتها واجهات الخرائب. وما هي إلا لحظات حتى ظهر السلطان منقابي زعيم المنطقة، الذي كان موش قد أرسل له رسولاً من الأهالي مستأذناً منه التجوال في داره، ولئلا يثير شكوك رعاياه الذين يملكون هذه الأرض. وبعدئذٍ أخذ السلطان منقابي موش إلى منازله على قمة الجبل. وكزيارة تمهيديَّة لم يشاء موش أن يذكر أمر الأطلال على أن يعود في المرة القادمة. وبعد مرور أربعة أيَّام عاد موش إلى الموقع إيَّاه، غير أنَّ منقابي كان يرغب في الحديث أكثر من أي شيء آخر، ومع ذلك أخذ يشحذ ضيفه البارود والرصاص، ولم يكن يودُّ أن يسمح لموش أن يعاود زيارة الأطلال في اليوم التَّالي، ثمَّ كان يذكِّره بأنَّ زيارته القصيرة تبدو بالنسبة له كالتجسُّس أكثر من أي شيء آخر. وفي الحق، كان هذا ما كان، غير أنَّ موشاً لم يكن يرغب في الإقرار بذلك. وفي نهاية الأمر سُمِح له أن يزور الموقع في 11 أيلول (سبتمبر)، وعلى التو شرع في التدقيق في هذه الأطلال، ورسم ذاك العمران البالي، وأخذ يقيس الأحجار، ويخمِّن عمر الحطام، ثمَّ انتهى به الأمر إلى القياس إلى أصداء الإنجيل في "وعمل رواق الكرسي حيث يقضي، أي رواق القضاء، وغُشِّي بأَرْز من أرضٍ إلى سقفٍ (الملوك الأول، الأصحاح السَّابع: 7)." إذ كان هذا الجبل، الذي يحتوي على هذه الآثار، يُسمَّى زيمبابوي أو – احتمالاً – زيمباوي. والأول هو الاسم الذي أطلقه محلِّيو مكالاكا أو بانياي على هذه المنطقة، وكانت هذه الآثار هي التي تحدَّث عنها القس ميرينسكي.
أيَّاً كان من أمر الاسم، فقد حاول موش أن يستنطق الأهالي علَّهم يفيدوه ببعض المعلومات عن الأطلال، إلا أنَّهم – في بادئ الأمر – رفضوا الحديث عنها معه. على أيَّة حال، فقد علم موش أنَّ الطقوس كانت تُمارس في موقع الخرائب في الجبل حتى عهد قريب، وأنَّ الحظيرة المنهارة في السهول تُسمَّى "مومبو هورو"، أو "بيت السيدة العظيمة"، أو "الزوجة العظيمة"، وهو بيت الملكة أو قصرها. ثمَّ جاء التأكيد من مصدر كان غير متوقع، أي من رجل كان يسكن مع أسرته بعيداً عن جيرانه، ويعتبر نفسه لا يمت بصلة إلى أيَّة واحدة من القبائل المحليَّة. وإذا بالرَّجل، الذي كان يُدعى بيبيريكي، يشرع في وصف كيف كانت الحال في الماضي البعيد، وبعد الحصاد النَّاجح كان يجتمع النَّاس عند الخرائب في الجبل، وعندها يقدِّم الكجور الكبير قرباناً مكوَّناً من ثورين وبقرة إلى "ماي" (أو مامبو الأب أو الإله)؛ وإذا بالكجور يصبُّ الإراقة (سكب الخمر على الأرض أو على جسد الأضحية تكريماً لإله) في مغارة سريَّة؛ وإذا هو يعود إلى المواطنين صارخاً فيهم كيف أنَّ الإله قد سخَّر لهم كل شيء تسخيراً هنيئاً؛ ثمَّ إذا النَّاس تردُّ بالعزف على النحاس، والطرق على الطبول، ونفخ القرون. والرَّجل إيَّاه، أي الذي أعطى موش هذه المعلومات، هو أحد أبناء الكجور الكبير تينغا، وهو الذي كان يشرف على المراسيم الروحيَّة قبل 30-40 عاماً، ولكن تمَّ الهجوم عليه في إحدى الأمسيات بواسطة عدوِّه اللدود منقابي (والد الكجور الحالي)، وتمَّ قتله بأسلوب غادر، وذلك دون أن يدري أي من أبنائه أين تمَّ اختباء المقتنيات المختلفة التي يتطلَّب وجودها في حال تقديم القرابين.
على أيٍّ، فقد توصَّل موش إلى نتيجة مفادها بأنَّ الطقوس المرتبطة بهذ الخرائب لها صلة وثيقة بالإنجيل. ففي مسألة الأضاحي هناك ثمة تشابه مع تلك التي كان يمارسها الإسرائيليُّون. فالأساس ما يزال هناك، ولئن لم تُوجد كثرٌ من التفاصيل. واعتماداً على هذا، اعتقد موش أنَّه لم يقترف خطأً ما حين افترض أنَّ الحطام الموجود في الجبل هو محاكاة للمعبد السليماني على جبل موريا، والحطام في السهول هو صورة للقصر الذي فيه أقامت ملكة سبأ خلال زيارتها إلى الملك سليمان. وقد زعم موش أنَّ صحة افتراضه تكمن في الاسم الذي أطلقه بيبيريكي وآخرون على البيت الدائري – أي "بيت السيِّدة العظيمة"، لأنَّه ليست هناك أعظم سيِّدة غير ملكة مملكة سبأ، حيث منحها سليمان "كل رغباتها" وكذلك الضيافة الملكيَّة، وذلك قبل أن تعود إلى موطنها مع أخدامها: "وأعطى الملك سليمان لملكة سبأ كلِّ مشتهاها الذي طلبت، عدا ما أعطاها إيَّاه حسب كرم الملك سليمان. فانصرفت وذهبت إلى أرضها هي وعبيدها (الملوك الأول، الأصحاح العاشر: 13)."
بيد أنَّ السؤال الذي يتبادر إلى العقل هو لماذا قامت ملكة سبأ بتشييد نماذج معبد سليمان في القدس في هذه المستعمرة الإفريقيَّة؟ استنتج موش بأنَّها حين أقامت مع الملك سليمان اعتنقت العقيدة اليهوديَّة، وأقدمت على تأسيس نماذج من ذاك العمران في أراضيها. ولكن كيف استطاعت أن تبني شيئاً مختلفاً فنيَّاً؟ وجاء الرَّد – بعد أن فكَّر موش وقدَّر – أنَّ الفينيقيين الأذكياء قد ساعدوها في سبيل القيام بهذا العمل المعماري الفريد. غير أنَّ سكان البلاد الأصلاء والعرب ربما شيَّدوا بناءً مختلفاً، ثمَّ كان للبرتغاليين علم بوجود هذه الخرائب.
وحين شعر موش بمخاطر وجوده في المنطقة غادر، حتى عاد إليها بعد انقضاء ست أشهر، وذلك بعد أن أحسَّ بسلامة المكان وأمن السكَّان. إذ تحرَّك صوب المنطقة في 6 أذار (مارس) 1872م مسترشداً بواسطة ريندر كما كانت الحال في الماضي. وما هي إلا لحظات بعد عبورهما المنعرج الصخري عند توكواني حتى سمعا صرخات الحرب من الجانب الآخر من الجبل في الاتجاه المعاكس، ونُفِخ بوق الحرب، وتنادى القوم فيما بينهم لحمل السلاح، ثمَّ أُمِروا أن يهجموا عليهما. ومن هنا تبادل الطرفان نظرات عدائيَّة، وأدرك الأهالي بأنَّ موش وصحبه مسلَّحون جيِّداً، وإنَّهم قد يصبحون أعداءً خطرين. ومن ثمَّ كفوا عن محاولة القتال، وسمحوا لموش ورفاقه بالمرور. وقد أقرَّ موش لاحقاً بأنَّ الأهالي إن أصرُّوا وتمادوا في القتال، لكانت دماء غزيرة قد أُريقت، ولكان الأهالي قد عادوا إلى ديارهم برؤوسٍ داميَّة، لأنَّ البعثة التي قام بها موش كانت ذات أهميَّة قصوى، بحيث لم يكد يستطيع أن يسمح لأي معوِّق أيَّاً ما كان أن يوقفها في بداية الطريق، أو يعترض سبيلها. ومن ثمَّ وصل موش والذين معه إلى سفح الجبل.
وعلى التو شرع موش يرسم خارطة الدَّار، بينما أخذ ريندر يتلهَّى مع منقابي لانشغاله حتى لا يفتقد موش، والذي بعد أن فرغ من عمله هو الآخر أخذ عيِّنة من العود، والذي قال إنَّه من شجرة الأرْز، وهداه تفكيره المجرَّد إلى الشجرة إيَّاها ليس من منطلق منطق ما، بل رجماً بالغيب بأنَّها لا بدَّ أن تكون قد جيء بها من لبنان وليس من أي مكان آخر. واستطرد قائلاً إنَّ الفينيقيين فقط هم الذين أحضروها إلى هنا؛ ثمَّ إنَّ الملك سليمان كان قد استخدم كثراً من خشب الأرْز لبناء المعبد وقصوره، علاوة على زيارة ملكة مملكة سبأ. وفي نهاية الأمر، تمعَّن موش في "زيمبابي" أو "زيمبابوي" أو "سيمباوي" – كما كانت تُكتب في اللغة العربيَّة – وخلص إلى القول إنَّ السيِّدة العظيمة لهي التي شيَّدت البيت الدائري، ولا يمكن أن تكون هناك ثمة أيَّة سيِّدة أخرى غير ملكة مملكة سبأ.
إزاء ذلك اعتبر موش ما قام به اكتشافاً مستعظماً، ومصيره الحتمي، ثمَّ شكر الرَّبَّ في ذلك، ومن ثمَّ لخَّص نظريَّته في حوليَّة منشورة على النحو التَّالي: اليوم إنِّي لأتجرَّأ أن أقفل هذه القصَّة بالآتي: إنَّ ملكة سبأ لهي ملكة سيمباوي، و"ملوك ترشيش والجزائر يرسلون تقدمةً. ملوك شبا وسبأ يقدِّمون هديَّةً (المزامير، المزمور الثَّاني والسَّبعون: 10)." وإنَّ سبأ المذكورة هنا لهي سيمباوي، "وأتوا إلى البيت، ورأوا الصَّبيَّ مع مريم أمِّه. فخرُّوا وسجدوا له. ثمَّ فتحوا كنوزهم وقدَّموا له هدايا: ذهباً ولُباناً ومُرَّاً (إنجيل متَّى، الأصحاح الثَّاني: 11)"، ومن الثلاثة ملوك كان واحد منهم من هنا، والآخرين من الجزيرة العربيَّة والهند، وإنَّ الجرَّة المذكورة – احتمالاً – لهي تابوت العهد، ثمَّ إنَّ الخرائب لهي نماذج لمعبد الملك سليمان وقصره." ثم مضى موش مختتماً نظريَّته قائلاً: "إنَّ أوفير لهي ميناء سوفالا على ساحل دولة موزمبيق الحاليَّة، حيث كانت الشُّعوب القديمة تبحر في البحار الهوجاء وتتبادل منتوجاتها المحليَّة مع أولئك الذين كانوا يقيمون في مداخيل القارة، ويتقايضون بضاعتهم مع ذهب زيمبابوي التي كانت تبعد 250 ميلاً من السَّاحل الشرقي.
كانت هذه الزيارة هي الأخيرة من قبل موش، وبرغم من الظروف الصَّعبة التي اجتازها حتى سُمِح له بتمحيصها، وكذلك الحال البالية التي فيها وجد الأطلال إيَّاها، مغطاة بالشجيرات والحشائش، ومستخدمة بواسطة الاستخدام الحديث، كانت خططه وتصاويره دقيقة بشكل مدهش. بيد أنَّه ارتأى هذه الخرائب من خلال عيون الأوربي الذي ترعرع في التقاليد اليهوديَّة-المسيحيَّة، وفي عصر كان الغرض الأساس من علم الآثار هو إثبات موثوقيَّة أو أصالة الإنجيل، وفي سبيل المرجعيَّة السياسيَّة للتدافع الاستعماري الأوربي نحو إفريقيا، حيث كان الألمان من الذين جاءوا إلى المائدة متأخِّرين. ومع ذلك، كان موش يرغب في أعظم ما تكون الرَّغبة في أن يكتشف زيمبابوي العظمى، وكان يعتقد مسبقاً أنَّها هي "أوفير"، حيث كتب ذلك في رسالة قبل أربعة أشهر من وصوله إلى موقع البقايا أو الخرائب. إذ قال: "سوف أجعل ذلك كواجبي المستعظم بأن أضيف فخراً إلى اسم الأمة الألمانيَّة اكتشاف بقايا "أوفير"، حتى تبقى هذه الخرائب نقطة غيرة وحسد من قبل الأمم الأخرى."


زيمبابوي ما بعد كارل موش

كان أول زائر زار الخرائب في زيمبابوي بعد موش هو ويلي بوسيلت العام 1889م، وهو الذي جاء في العهد الذي فيه أخذ طابور الطليعة التابع لسيسيل رودس يطبق سيطرته على المنطقة باسم شركة جنوب إفريقيا البريطانيَّة، فإذا به يترك وصفاً هاماً لموقع الأطلال، هاماً لأنَّه وصف ملمحاً من البقايا كان موش قد نسيه، وهو تماثيل طيور منحوتة من الحجر الصابوني في جبل زيمبابوي. إذ قايض بوسيلت اثنين من هذه التماثيل ببضع بطاطين، حيث نزع أحدهما وأخذه معه، وترك الآخر عسى أن يعود ليأخذه في المستقبل. وحين لم يعد بوسيلت لأخذ طائره، وجده ثيودور بينت بعد عامين وأخذه معه.
أما طابور الطليعة إيَّاه فقد أسَّس نفسه في أرض قبيل شونا، وطلب من المجمَّع الجغرافي الملكي في لندن أن يمدَّهم بخبير هو بالكاد قادرٌ على أن يتفحَّص خرائب زيمبابوي والخرائب الأخرى التي اكتُشفت في المنطقة. إذ تمَّ ترشيح الرحَّالة بينت، الذي وصل إلى المنطقة مع زوجه، التي قامت بالتصوير، وقد رافقهما أيضاً آر أم دبليو سوان، الذي قام بالمسوح الأرضيَّة. وفي الحال جاء سوان بنظريَّة جديدة عن أصول وموقع زيمبابوي. فما الجديد الذي أتى به سوان في نظريَّته؟ قال سوان: "مثلما هي الحال بالنسبة لستونهينج، فإنَّ هذه الأطلال لهي مؤسَّسة على نظام فلكي، وفيما هو كان يقوم بتطوير نظريَّته أكثر فأكثر، خلص إلى أنَّ هذه الخرائب لديار تمَّ تشييدها حوالي العام 1100 ق. م. أما بينت – من ناحية أخرى – فقد كان حذراً. فلتجدنَّه قد ابتعد عن اقتراح موش الشاذ القائل إنَّ زيميابوي لهي موطن ملكة سبأ، ثمَّ تحاشى بينت في أبعد ما يكون التحاشي أن يربط زيمبابوي ب"أوفير". مهما يكن من أمر، وبرغم من حقيقة وجود قطع من الزجاج وحبَّات الخرز العربيَّة والفارسيَّة، وبرغم من ذلك كله فإنَّ الأطلال الصخريَّة والبقايا الحديديَّة والفخاريَّة كانت كلها إفريقيَّة، ثمَّ ذهب سوان مؤكِّداً اعتقاد موش بأنَّ زيمبابوي قديمة وغير سوداء في الأصل، أي بناها الرَّجل الأبيض. إذ كتب قائلاً: "إنَّه ليبدو جليَّاً أنَّ الأثنيَّة ما قبل التأريخ هي التي بنت الخرائب (الموجودة الآن) في هذا البلد (...) الأثنيَّة التي تبدو مثل سكان بريطانيا العظمى وفرنسا الأسطوريين الذين بنوا ستونهينج وكرناك، على التوالي، تلكم الأثنيَّة التي استمرت في امتلاك هذا العمران حتى بواكير التأريخ الأولى، وهي التي قدَّمت الذَّهب للتجار الفينيقيين والعرب، والتي تأثَّرت – في نهاية الأمر – وربما استوعبت المنظومات الساميَّة الأكثر قوَّة وثراءً."
ومع ذلك، فإنَّ الشخص الذي أعطى ثقة أكبر للنَّظريات السليمانيَّة، ومنحها أساساً علميَّاً خادعاً هو الصحافي صاحب الذوق القديم آر أم هول. وبمعاونة دبليو جي نيل، وهو الذي كان يعمل كعامل مناجم فاشل وصائداً للكنوز كان، حيث استطاع هول أن ينشر كتاب "خرائب روديسيا القديمة" (The Ancient Ruins of Rhodesia) العام 1902م، وسرعان ما تمَّ تعيينه مديراً للآثار. وهو، الذي يعتبر أول مواطن محلِّي يقوم بالتنقيب عن الآثار في زيمبابوي برغم من أنَّه كان من البيض المستوطنين. فقد اضطرَّ أن يقرُّ بأنَّ نظريَّة الاحتلالات المتكرِّرة لروديسيا (زيمابوي حاليَّاً التي كانت جزءً من روديسيا العظمى) بواسطة السبأئيين العرب والفينيقيين تملك – كما ذكرت البحوث، على حد اعتقاده بالطَّبع – مزاعماً قويَّة في أشدَّ ما تكون القوَّة للقبول. ولإثبات ما ذهب إليه شرع هول يقتبس بكثرة أفكار البروفيسور كين، الذي كان عضواً في المجمَّع الجغرافي الملكي، وهو الذي وضع "أوفير" – عاصمة مملكة سبأ – في اليمن. إزاء ذلك ذكر هول أنَّ خرائب اليمن تُظهر تشابهات مدهشة مع تلكم الموجودة في روديسيا (زيمبابوي).
أما القطع المختلفة للتعبُّد السَّامي، والتي وُجِدت في زيمبابوي، فإنَّها – بلا شك – تشي بأنَّ الأعمال الذهبيَّة وما يتعلَّق بها من الصُّروح في هذا الإقليم ذات علاقة بالسبأئيين القدماء في جنوب الجزيرة العربيَّة وخوالفهم الفينيقيين. بيد أنَّ الرَّجل الذي بزَّ هول هو عالم الأنثروبولوجيا الشاب ديفيد ريندال-مكايفر، وهو الذي ابتعثه المؤسَّسة البريطانيَّة للسَّفر إلى زيمبابوي العظمى وكأول أنثروبولوجي في العصر الحديث للقيام بحفريات في المنطقة، وكان ذلك بُعيد وصول هول إلى المنطقة إيَّاها. ثمَّ كان مكايفر تلميذاً لعالم الأنثروبولوجيا الذائع الصيت السير فليندرز بيتري. فلا ريب في أنَّ مكايفراً قد اغترف غرفة من علم فليندرز وبه استطاع أن يقلب نظريات هول وأعوانه رأساً على عقب. ومن بعد، فإذا بمكايفر يمسي أول عالم ينظر إلى الخرائب بشكلٍ موضوعي، وذلك دون أن ينزلق إلى الأحكام الانطباعيَّة، أو يحتكم إلى الأفكار المسبقة؛ وإذا هو يصبح أول باحث يستخدم طريقتين لتحديد عمر الأشياء، وهي الطريقة نفسها التي ابتكرها بيتري واستخدمها في مصر؛ ثمَّ إذا هو يصبح أول رجل يعتبر الأدوات المنزليَّة كالفؤوس الحديديَّة متساوية في الأهميَّة مثل الأدوات الأكثر فرادة مثل الخرز الزجاجي.
وبما أنَّ تفكير النَّاس يختلف باختلاف العصور والغلبة الفكرانيَّة لكل عصر، استنتج مكايفر أنَّ تأريخ البيت الدائري العظيم في زيمبابوي يعود عهده إلى القرن الرَّابع عشر أو الخَّامس عشر الميلادي، واعتقد أنَّ البقعة ما هي إلا دار الإقامة الملكيَّة الإفريقيَّة، ومنزل السلطان العظيم، وأنَّ البرج المخروطي الأسطوري هو رمز طقسي لهذه السلطة الملكيَّة. ثمَّ أردف قائلاً إنَّ الخرائب الجبليَّة أو القلعة لهي كانت قلعة لحراسة المنطقة المقدَّسة من نمط ما، والطيور التي وُجِدت هناك تمثِّل – احتمالاً – الطوطميَّة القبليَّة. ففي نهاية الأمر أشار مكايفر إلى أنَّ زيمبابوي العظمى ليست هي الأكبر في الآثار الموجودة في البلد فحسب، بل كانت مركزاً لتوزيع الذهب وليس لتعدين الذَّهب، وتمَّ بناؤها بواسطة الأيادي والعقول الإفريقيَّة دون أيَّة مساعدات خارجيَّة، وذلك في مجال تأكيده خطل كل الأطروحات التي كانت تتحدَّث عن "التخلُّف الذهني"، أو على الأقل "القصور الإبداعي" للأفارقة السود.
على أيِّة حال، فإنَّ الفرق بين مكايفر وهول هو الفرق بين علم الأنثروبولوجيا وعلم الآثار القديمة؛ وبين العلم والعاطفة؛ وبين القرن العشرين والتَّاسع عشر؛ ثمَّ أنَّه ليمثِّل الفرق بين المحترف والهاوي، وبين رجل ذي نظرة عالميَّة وآخر صاحب نظرة ريفيَّة. وفي نهاية الأمر، قاد هذا الجدال اللازب إلى الاستقطاب الحاد وسط الأفارقة والبيض على حدٍ سواء. ففي العام 1906م فكَّ مكايفر طلاسم الخرائب التي عثر عليها موش قبل 34 عاماً، لكنه استدرك بأنَّ لا أحداً قد يقبل بالجديد الذي أتى به؛ ومن ثمَّ أنهى تقريره قائلاً: "لا مريَّة في أنَّ كثراً قد يتباكون بأنَّ الرومانسيَّة قد تمَّ تدميرها، لكن بالتأكيد لعلَّه العقل الرتيب هو الذي لا يرى الرومانسيَّة في الافتتاحيَّة الجزئيَّة لفصل جديد في تأريخ الثقافات التي سادت ثمَّ بادت. لقد تمَّ كشف النِّقاب عن جزءٍ من ذاك التأريخ، الذي ظل يغشي ماضي الزُّنجي الإفريقي المنسي، لكنه قابل للاسترجاع. لو كنت روديسيَّاً فينبغي أن أشعر بأنَّ في دراسة سكَّان البلاد الأصلاء المعاصرين في سبيل رفع الستار عن قصَّة الخرائب سوف تكون عندي بمثابة عمل رومانسي مثلما يرغب أي طالب. ثمَّ ينبغي أن أحسُّ – لذلك كذلك – أنَّ في دراسة هذه الآثار سبيل من أجل اكتساب المعرفة حول الأعراق الحديثة؛ وأنَّ هناك ثمة رغبة في أعظم ما تكون الرغبة في أنَّ السِّياسي يستوجب عليه أن يساعد، والباحث ينبغي عليه أن يغيِّر."
مهما يكن من شيء، فالسَّاسة الروديسيُّون (البيض) لم يروا الأمور بهذه الكيفيَّة، ولا حتى الشَّعب الذي يمثِّلونه. ثمَّ كان عمال التعدين والمزارعين، الذين استوطنوا في المنطقة، لهم مصالح ذاتيَّة في تصديق مقولة إنَّ البيض قد عاشوا وعملوا، ثمَّ تكسَّبوا في هذا الإقليم من قبل. ولعلَّ قصَّة الملك سليمان وملكة سبأ قد أعطت الشرعيَّة إلى حكم البيض الاستعماري، مما جعل الاستعماريين لم يكادوا يقبلون بالتَّنازل عن هذه الشرعيَّة المزعومة، أو يغضون الطرف عن هذا القصص. إذ أنَّ أسطورة الملك سليمان وملكة سبأ قد انغرست بعمق عميق في الوعي الجمعي للروديسي الأبيض، ثمَّ إنَّ هذه الأسطورة قد تمَّ تدريسها كمادة تأريخيَّة للتلامذة في المدارس. ومن هنا تأتي رواية السير هنري رايدر هقارد "مناجم الملك سليمان"، والتي تتمحور بصورة رئيسة حول زيمبابوي العظمى، حتى ذاع صيتها، وتجلَّت الرَّغبة في قراءتها، ثمَّ حملت ملصَّقات السوَّاح صوراً سديميَّة لملكة سبأ، وهي ملتفَّة حول البرج المخروطي مثل الجنيَّة الخارجة من مصباح صلاح الدِّين في القصَّة الشهيرة في كتاب "ليالي العرب" (Arabian Nights).
ومن بعد انطلقت أفلام تعرض الحكام البيض وهم يؤدُّون طقوساً غريبة، وهم فيما يفعلون يشاهدهم ويعبدهم جمهور غفير من الأفارقة السود مع التعليق المواكب للمناسبة على النحو التَّالي: "غادرت قافلة (الملك) سليمان الواحة في الصحراء، وأسرعت في طريقها إلى أوفير. الفتيات الرَّاقصات ينحنين ويتمايلن في نغم أمام الضيفة المحبَّبة والملك القديم، الذي توجد مناجمه في مداخيل إفريقيا. هل وصل رسل سليمان إلى هذا الوادي لجبي الثروات من القلعة الحجريَّة العظيمة؟ هل سمع هذا الرَّاهب بمجيئهم؟ ثمَّ كشف شكل عن ذاته منبثقاً من تحت البرج المخروطي. ماذا تعني هذه الحركة؟ هل القربان بالكاد سوف يُقدَّم؟" ومن هنا طالما شوهدت أفلام على أيدي المنتجين البيض، ولطالما أنكر هؤلاء المبدعون دور الأفارقة في بناء هذه الحضارة التي أمست خراباً يباباً، غير أنَّ الإنكار وحده لا شريك له ليس من شأنه أن يبدِّل في واقع الأمر شيئاً.
ففي الأيام الأخيرة من نظام حكم البيض في السبعينيَّات كانت الإذاعة لا تزال تبثُّ رسائلاً سياسيَّة تشكِّك في الأصول الإفريقيَّة لزيمبابوي العظمى. فماذا قالت هذه الرسائل الإعلاميَّة الكاذبة؟ وماذا حملت في طيَّاتها أو بين ثناياها؟ بثَّت الإذاعة – فيما بثَّت – بأنَّ زيمبابوي لم يبنها البيض ولا السود. وإنَّ زيمبابوي قد تمَّ بناؤها حوالي العام 570م، وذلك منذ زمن موغل في القدم، وقبل أن تطأ أقدام السود أو البيض هذه الأرض. إنَّها لصورة طبق الأصل لمعبد القمر الإله في جنوب الجزيرة العربيَّة، الذي تمَّ بناؤه حوالي 750 ق. م. والشَّعب الذي بناه هو من السَّاميين، وكانت ألوانهم بنيَّة، وكانوا – بشكل جلي – شعب سبأ، الذي كان خليطاً بين العرب واليهود، ثمَّ كانت ملكة سبأ هي ملكة السبأئيين.
لم يكن البيض وحدهم لا شريك لهم هم الذين شرعوا يرتابون في تأريخهم فحسب، بل إنَّ الأفارقة قد أخذهم شيء من الرَّيبة شديد. ففي الثلاثينيَّات أخذت حركة شونا للاستقلال تستخدم زيمبابوي العظمى كبرهان رائس بأنَّ السود قد تمَّ استغلالهم بواسطة الحكام البيض. فالأفارقة الذين التقت هواجسهم النِّضاليَّة بهواجسهم في التَّعبير عن آلامهم ومعاناتهم في بيئتهم الإفريقيَّة التي كانت عنصريَّتها تجاههم تشتد بمقدار ما يتزايد وعيهم السياسي والنِّضالي بمأساتهم، ما فتأوا يلفظون هذه الادِّعات الاستعماريَّة ذات النَّزعات العنصريَّة. ومع هذا، لعلَّنا لا نبتعد عن الصَّواب لئن نحن أشرنا إلى هذا المشروع بأصله الإفريقي، ليس اعتباطيَّاً هنا، بل حقَّاً.
ومنذ العام 1906م قام علماء الحفريات والأنثروبولوجيا بتحرِّيات عديدة منقَّحة، ودعموا نظريَّة مكايفر. فعلى سبيل المثال برهن جيه أف سكوفيلد العام 1926م أنَّ العمران من المعمار الأرقى والأحدث الذي أنجزته الحضارة البانتويَّة؛ وأثبتت جيرترود كاتون-طومسون هي الأخرى العام 1929م إفريقيَّة المعمار؛ ثمَّ أفلح أنثوني وتي العام 1958م في تحديد أعمار المعمار. بيد أنَّ في عهدها الذَّهبي كان يبلغ تعداد سكان زيمبابوي العظمى – احتمالاً – حوالي 10.000 نسمة، وكانت البقعة تمثِّل مدينة تجاريَّة، وقاعدة اقتصاديَّة للإقليم، تتاجر في الذَّهب – وسط سلع أخرى – مع جيرانها الأفارقة ومع العرب، وأخيراً مع البرتغاليين.
ومع ذلك، كانت زيمبابوي العظمى تعتبر مركزاً دينيَّاً، ثمَّ كانت تمثِّل مكان إقامة ودفن السلاطين، وربما أمست تماثيل الطيور المنحوتة من الحجر الصابوني تشير إلى مقابرهم في الجبل. ولعلَّ طقوس القرابين الشعائريَّة التي وصفها المحليُّون لموش ليست لها أيَّة صلة باليهود، لكنها ترمز إلى الممارسات التقليديَّة التي كان يعكف عليها المواطنون الأفارقة تقرُّباً إلى الأسلاف زلفى ليتوسَّطوا بينهم وبين الرَّب، أو "ماي"، في أزمنة المشكلات الجمعيَّة التي كانت تنتابهم وتنال منهم. ثمَّ اضمحلَّت زيمبابوي العظمى وفقدت مركزها الهام خلال القرن الثَّامن عشر الميلادي، وهُجِرت، أو ربما دُمِّرت حوالي العام 1830م. وحين جاء موش العام 1872م كانت المنطقة في حال استخدام جزئي كمزرعة للبقر بواسطة السلطان منقابي، الذي وصل هو الآخر حديثاً. ومن ثمَّ صارت لاحقاً صرحاً قوميَّاً، ورمزاً وطنيَّاً لإنجازات السود الأفارقة، يحافظون عليها ويرعونها، وذلك برغم من أنَّ إعادة بناء المداخل بين الجدران العام 1911م بواسطة العريف ولاس من شرطة جنوب إفريقيا البريطانيَّة أعطتها المظهر العربي الخادع، وذلك للاحتفاظ بوجدان ونظريات ذلكم العهد التليد.
على أيِّ، فقد غادر موش قرية بيكا نهائيَّاً في أيار (مايو) 1872م، وبعد محاولات عديدة استطاع أن يصل إلى السَّاحل الشرقي من إفريقيا. محبطاً كان، وباغضاً البيض والسود على حدٍ سواء، ثمَّ سقيماً جسديَّاً، أبحر موش من إفريقيا لكي لا يعود إليها أبداً، لكن آماله ظلَّت باقية، حيث كتب قائلاً: "أتمنَّى أن تساهم الرِّحلات المستقبليَّة، وهي مدعومة بوسائل أفضل مما أحمله، بمصالح أعظم في هذه المناطق أكثر مما هي عليه الحال الآن. إنَّ البلاد الواقعة بين نهري ليمبوبو وزامبيزي تحوي ما هو أعظم قيمة – تليداً وطارفاً – وإنَّ أي تجاهل أكثر يُعدُّ بمثابة الظُّلم. أما أنا فمن جانبي إنَّي لاعتبر نفسي حظيظاً أن أكون قد أُطلِق عليَّ – كما هي الحال – نعت الطليعة؛ وأتمنَّى أن تكون نتائج تسفاري لمدة ثمان سنوات، والتي قمت بها بوسائل شحيحة، سبباً للإلهام المستعظم في سبيل كثرٍ من الاستكشافات لهذا البلد، واستغلال منتجاتها الثمينة." وفي داره في فورتيمبورغ بألمانيا لم يستطع موش أن يستقر. ومن جرَّاء هلوسة ربما بسبب الملاريا العائدة سقط موش من نافذة منزله وتوفي منذئذٍ بعد فترة غير طويلة، وكان يبلغ من العمر آنذاك السابعة والثلاثين عاماً، وكُتِب على قبره عبارة "مكتشف آثار زيمبابوي".(5)


وللمقال بقيَّة،،،

 

آراء