في صحبة عاشق النخيل … د. عوض العيسابي (3)

 


 

 


بسم الله الرحمن الرحيم


الكويت العاصمة ( 23 يوليو 1990)

أجتمع عدد من النسوة و الرجال لوداع صديقتهم الحاجة نفيسة و زوجها الخبير الزراعي د.عوض محمد أحمد عثمان العيسابي والشهير بعوض نخيل ، والتي تتهيأ هي و زوجها للسفر للسودان لقضاء الأجازة السنوية في شقتهما بحي الرقعي في منطقة الفروانية جنوب شرق مدينة الكويت العاصمة .
هذا المشهد أعتيادي يتكرر كل عام في مثل هذه الشهور نهاية العام الدراسي وسط مجتمع أسر الجالية السودانية التي كانت تقطن مدينة الكويت ، حيث تبدأ درجات الحرارة بالعاصمة بالأرتفاع لمستويات جنونية في شهري يونيو و يوليو فيصعب أن لم يكن يستحيل التأقلم و العيش معها .
البعض من هؤلاء الأسر يقرر أن يسافر لأرض الوطن و البعض الآخر يفضل أن يكتشف عوالم جديدة في مختلف أرجاء المعمورة شرقا و غربا ، والأكيد هو أن معظمهم يفر بجلده من قيظ حرارة صيف الكويت المرتفعة طوال فترة الأجازة المدرسية الكبيرة .
دارت كؤوس العصير ثم أكواب الشاي باللبن ، وعلت الأصوات و جلجلت الضحكات في مجلس الرجال و النساء على حد سواء .
في مجلس النساء أنحصر الحديث بين الحاجة نفيسة و صديقاتها اللاتي يتهيأن مثلها لمغادرة الكويت في الأسابيع القادمة عن أسعار السوق و الهدايا الثمينة للأهل ، و المواد التموينية التي تمتلئ بها حقائبهن كل عام وقت قضاء الأجازة في السودان .
هل أشتريت يا نفيسة كذا ؟
هل نسيت كذا ؟
بالغت والله ...
لازم تلحقوا أن شاء الله الصباح تشتروه من السوق ، لكن الحاجات الباقية دي ممكن تشتريها من السوق الحرة في المطار مافي مشكلة !
يا له من جمع هانئ بديع جمع شملهن هذا المساء ، لم يكدر صفوه لحظتها سوى تلك الأخبار المزعجة التي أخذوا يتناقلوها عن ألسنة أزواجهن عن ذلك النظام الأنقلابي الجديد مجهول الهوية في الخرطوم و الذي أستلم سدة الحكم على أنقاض الديمقراطية الثالثة .
كنساء لم تشغلهن كثيرا أمور السياسة و أخبار رئيس السودان الجديد العميد عمر البشير .
لقد أعتادوا أن يعيشوا كل عام يقضون فيه الأجازة في السودان مع الأهل هذه الظروف الصعبة القاسية لأيام معدودات ريثما تكتمل فترة الأجازة الصيفية سريعا , فيعودون كرة أخرى للكويت لمتابعة مشوار حياتهم الهانئة في هذا البلد الطيب الآمن .... فلماذا إذن يشغلهم الأمر كثيرا !
أما في مجلس الرجال فكان النقاش محتدما و ساخنا للغاية حول طبيعة هذا النظام الحربائية و المريبة التي بدي عليها ، وسلوكه الغريب في التستر حول هويته ، وأحوال السودان الأقتصادية الحالية السيئة التي بدأت تتراجع معه .
في أنسهم تبينوا جميعا ببساطة تلك الغمامة السوداء التي بدأت تغطي سماء الخرطوم بفعل تغير و تبدل الحال السياسي في السودان ، وقد أخذ الحديث عنها مساحة من الزمن , تبادلوا فيها الرأي و ردود الفعل .
لكن هموم مايجري في السودان والوضع السياسي الجديد فأن الأمر وقتها برمته لم يؤخذ بينهم على محمل الجد , ولم يترك قلقا عظيما في نفوسهم ، فتبادلوا أخباره بشيء من السخرية و الهزل, ثم أنتقلوا سريعا لموضوعات أخرى.
و الغريب أنهم لم يلحظوا أبدا تلبد الغيوم السياسية الداكنة التي كانت تعلو رؤوس الجميع وتظلل سماء الكويت في تلك الأيام .
لم يطرأ على بالهم أيضا أي قلق أو توتر من الذي بدأ يلوح في الأفق من شرار نيران ملتهبة قادمة من بغداد !
هل كانوا يقرأون الصحف ؟
هل كانوا يتتبعون الأخبار ؟
هل كانوا يشاهدون القناة العراقية و تغطيتها لحال العراق الأقتصادي البائس بعد حربه مع أيران والتي أستمرت لثمان سنوات ؟
هل مرت عليهم في القناة الكويتية الأولى صور تنقلات و زيارات وزراء صدام حسين المتكررة على العاصمة الكويتية و التي ذادت في الآونة الأخيرة لطلب العون والسند المالي ؟
أعتقد أن آخر ماكان يمكن أن يثير هؤلاء النسوة و الرجال الذين أجتمعوا في منزل د.عوض العيسابي في ذلك المساء الأشتغال بهذه الترهات السياسية في وقت التحضير للأجازة أو بربط و تحليل هذه الأمور ببعضها البعض !
ألهذا الحد أعمى الله القلوب و خدر الأجساد ؟
أم هي رحمة من الله سكنتهم ، فغفلوا عن تلك الأهوال القادمة عليهم ؟
أم هو السكون العجيب الذي يسبق كل عاصفة ؟
ترى هل كان هذا الوداع الذي تعانقت فيه الأجساد و جرت فيه الدموع من مجاري الخدود مجري السيل في الوديان ، كان وداعا مميزا عن غيره من السنوات التي مضت ؟
ومابين الضحكات و القهقهات التي عمرت مجلسهم لم يخطر لأي واحد منهم لحظتها أن تلك الأوقات الجميلة التي يقضونها سمرا في هذا المساء هي خاتمة المطاف لرحلة حياة جمعتهم سويا في حب و أنس و وئام لسنوات طوال على أرض الكويت .
جلس الجميع حتى آخر الليل ، تشعب الحديث وسرح بهم في شتى المدارات ، وبلغ الأنس و الحبور و الأرتياح مبلغه الأعظم معهم .
تدخل أسرة البيت العامر بالضيوف وتخرج أخرى ، والجميع في نشوة غامرة حتى مضت الساعات مثل الدقائق سريعا لم يشعر بها أحد .
تفرق الشمل بعدها تفرقا محمودا ولكن دون أن يشعر أو يتنبأ أي أحد من الحاضرين أنه التفرق الأخير دون عودة لهذا المكان الذي ألفوه وأحبوه عن صدق و وفاء ... أرض دولة الكويت .
***********
ومازلت جلوسا مع دكتور عوض في منزله بحي الصافية و نحن نستذكر بحنين و حزن تلك الليلة الظلماء التي سبقت الغزو العراقي للكويت في منزلهم قبل أكثر من سبع وعشرين عاما .
تلك التي فقدت بعدها كل الأسر السودانية المقيمة بالكويت قبل الحرب كل أسباب الراحة و الأمان و الطمأنينة والرفاهية التي كانت تتمتع بها ، تذكرناها وقد غابت عن دنيانا اليوم العديد من أصحابها من النخبة التي سطعت في سوح الخدمة المدنية في الكويت .
نعم كنت صغيرا وقتها ألعب و ألهو مع الأطفال في بهو العمارة ، ولكننا كنا نسترق السمع أحيانا لحديث الأباء و الأمهات في مجالسهم ، فرحين بأجتماع أسرنا في هذا المنزل العامر ، و بقدوم موسم الأجازات الذي نترقبه بشغف كل عام لزيارة الأهل و الأصحاب في أرض الوطن .
كثيرة هي الذكريات التي أصطحبناها أنا و دكتور عوض في جلستنا تلك عن سنين الثمانينات حينما كنا هناك .
حفلات الكابلي و ندوات بروفيسور عبدالله الطيب و زيارات الساسة السودانيين و نشاط جمعية المرأة السودانية بقيادة الأستاذة الأذاعية القديرة فوزية يوسف .
قدم دكتور عوض لدولة الكويت مبتعثا من الأمم المتحدة في بداية الثمانينات كخبير زراعي في علوم شجرة النخيل بعد أن أكمل درجة الماجستير و الدكتوراة في جامعة بنسلفانيا بالولايات المتحدة ، وبعد أربع سنوات من العمل مع المنظمة الدولية طاب له المقام في الكويت فقرر أن يحول وظيفته لصالح حكومة دولة الكويت .
كان يذكر لي وهو معتز بشدة لتلك الفترة أننا كنا كنخبة سودانية من أميز الكوادر المهنية التي تركت بصمة كبيرة في الذاكرة الكويتية وسط بقية الجاليات العربية ، و لولا أنحياز نظام الأنقاذ لصالح العراق لما كنا فقدنا وجودنا المميز في كل مرافق الدولة بعد تحرير الكويت .
لم يحضر دكتور عوض ليلة الثاني من أغسطس التي دخلت فيها جحافل الجيش العراقي مدينة الكويت ، لكنه عاد بعدها بشهر كامل لجمع أغراضه و شحنها للسودان .
كانت مدينة الكويت في تلك الأيام ليست دانة الخليج التي يعرفها و بدت عليها طوال السنوات الماضية ، وانما أشبه بمدينة الأشباح .
الناس يملأهم الخوف و الرعب في الأحياء ، و أدخنة الحرائق و أصوات الرصاص تسمع و ترى في أي مكان تتواجد فيه .
قال لي أنه عندما عاد للشقة التي كانت لمسرح الوداع الأخير لجمع أصدقائهم وجدها على غير الحال التي تركها عليه .
دخلها فوجد أن معظم ممتلكاته محفوظة بفضل أمانة الخادمة التي أرادت أن تترك هي الأخرى بعد مغادرتها للكويت ذكرى طيبة في نفوسهم .
كان هنالك سوداني في العمارة المجاورة ، فقرر أن يجتمع معه و يناما سويا في الشقة لمؤزارة بعضهما البعض .
في هذه الليلة الظلماء أخذ يعيد دكتور عوض شريط ذكرياته الجميلة مع هذه المدينة ، مع أهلها العامرين بالطيبة ، مع النخبة السودانية التي صاحبته والتي تلألأ صيتها الطيب في كل المجالس ، مع أصدقاءة من الجاليات العربية ، مع هواءها ، مع بردها ، مع حرها ، مع خليجها ، مع شوارعها وأسوقها .
في الصباح أتفق مع قائد شاحنة عراقي لنقل أغراضه و أغراض ذلك السوداني الذي لم يستطع تذكر أسمه و غادر نهائيا دولة الكويت الى غير رجعة .
هنا توقفنا عن الكلام و أحسست أنني أثقلت على دكتور عوض في جلستنا تلك بعد أن كادت دموعه تنهمر حزنا و حنينا لتلك الأيام ، ولكنه كان مصرا على تلاوة عريضة أخر المطاف فقلت له أنني ملم بها وسوف أكتبها و شكرته على صحبته الجميلة لي ثم غادرت البيت في منتصف الليل .
عريضة النهاية :
عاد دكتور عوض للسودان بعد الغزو الكويتي للسودان وبعد عام أنتقل لسلطنة عمان عمل فيها حتى عام 1994م ومنها أنتقل للعمل مع المنظمة العربية الزراعية في دمشق حتى عام 2003م ومنها عاد بشكل نهائي للسودان .
أعتقد أنني لم أستطع أن أوفي هذا الهرم الأكاديمي حقه كاملا من خلال هذه المقالات الثلاثة ولكنني حاولت أن أسلط أضاءة خافته على مسيرته العلمية و العملية المليئة بالتحدي و العطاء و النجاح لأننا في حوجة كأجيال للتمثل بها والأفتخار بها .
ألا رحم الله أمنا حاجة نفيسة زوجه و أمد الله في عمر و صحة و عافية أبونا دكتور عوض العيسابي .

teetman3@hotmail.com

 

آراء