آفاق الدولة الناشئة وأعباء الدولة الفاشلة … بقلم: عمر العمر

 


 

عمر العمر
7 July, 2011

 



بعد يومين تتموضع حدود السودان على نسق جديد في خارطة العالم. تمظهر يشكل قطيعة تاريخية في سياق الجغرافيا السياسية. إنفصال الجنوب حدث لا يقل أهمية عن انهيار جدار برلين ليس فقط عبر المنظور السوداني بل في الإطار الافريقي. جنوب السودان أول دولة يتم استيلادها من رحم القارة السمراء في مرحلة ما بعد الطلاق من الاستعمار. ميلاد دولة الجنوب تفتح مسارب الغابة والصحراء أمام أجنة اثنية وربما طائفية.
مع انكسار حائط برلين اكتشفت أوروبا أن خارطتها على فرط اتساعها أضيق من احتمال التجانس الإثني فعمدت إلى توزيع مساحتها وفق تنوعها القومي، اليقظة الأوروبية على أجراس الحرية وشعاراتها لم تعش بصر شعوبها عن إعادة البحث في صيغة جديدة للتجمع والاندماج. القارة العجوز اكتشفت في المساق الاقتصادي آلية لتحقيق حلمها الجديد.
خارطة السودان الجديدة تناقض تماماً حلم السودان الجديد الذي كان في خاطر الراحل جون قرنق. في الحالة السودانية الطازجة كما في الفسيفساء الأوروبية جاءت هزيمة الوحدة في ظل القمع وانحسار الديمقراطية أو غيابها تماماً.
التفتت الأوروبي حدث على إيقاع شعارات انتفاضات شعبية عارمة. الانقسام السوداني جاء على وقع فوهات البنادق. الفارق بين ايقاع الشعارات ووقع البنادق يشكل البون بين التفكيكات الأوروبية الماضية والانقسامات الافريقية الآنية.
بوقوع الانفصال بدد السودان الموحد فرصة تاريخية تتمثل في نسج أنموذج للدولة الناشئة. ذلك أنموذج يقدمه السودان على طريقته الخاصة لافريقيا خصوصاً والعالم عموماً. بإطفاء لهب الحرب الأهلية استقطب السودان احترام العالم من منطلق تقديم أنموذج لتسوية الصراعات الداخلية يمكن الغزل على منواله. بالانقسام يهدر السودانان ـ شمالاً وجنوباً ـ فرصة الدولة الناشئة. الأقرب من ذلك السقوط في فخاخ الدولة الفاشلة.
إعلان دولة الجنوب نهاية مخيبة لآمال من راهن على اتفاق نيفاشا انجازاً وطنياً يغري بالتباهي على الصعيد العالمي. الانفصال أحد الخيارين المنصوص عليهما في نيفاشا غير أن الانقسام يفرغ الاتفاق من قيمته الجوهرية .
عشية الانفصال تتكشف سوءات الاتفاق. نيفاشا في الواقع لم يعد كما تم تسويقه اتفاقاً للسلام الشامل. نيفاشا اتفاقية منقوصة فكما لم تؤمن الوحدة فإنها تهدد سلام الدولتين.
الاتفاق الوطني لم يأت فقط نتيجة لفشل دولة الشريكين في إدارة المرحلة الانتقالية. ما لا يقل خطراً في بلوغ هذه النتيجة السلبية هو الفهم القاصر لآليات تحقيق النجاح وتأمين الوحدة. تكريس الدولة لتأمين الوحدة مسألة تقليدية لكن الإبداع يتأتى من تسخير المنظمات غير الحكومية لخدمة مشروع الوحدة.
نحن أغفلنا هذه المنظمات ومثلها لأننا لم نستوعب دورها ومن ثم لم نتح لها متسعاً. كما التلكؤ والتشاكس طبع أداء الشريكين في المرحلة السابقة غلب عليهما احتكار حق العمل الوطني والتشكك في الآخرين.
منظمات المجتمع المدني تملك بما لديها من مخيلة شعبية قدرات هائلة على تخليق الخيارات الممكنة. غفلتنا لم تقتصر على عدم استثمار القدرات الشعبية فقط بل توغلنا في الإخفاق غوراً عميقاً. عوضاً عن تقديم أنموذج الدولة الناشئة ذهبنا باتجاه الدولة المعارضة. هذا ضرب من الدول لم يعد يملك بعد خفوت الحرب الباردة أو نهايتها مقومات النجاح أكثر مما حقق عراق صدام وليبيا القذافي وكوريا كيم جونغ ايل أو كوبا كاسترو.
من سوء قدر السودانيين في الشمال والجنوب وقوع الانقسام بينما العالم يكابد في سفح أزمة اقتصادية لم يهبط إليه منذ الحرب العالمية الثانية. الدولتان تواجهان بقدرات محدودة مهمة التكيف مع واقع معقد الصعوبة.
ربما يبدو وكأن الشطرين يبدآن مشواراً إنمائياً من الصفر في ظل تعقيدات يثابر خبراء العالم المتمرسون تفكيك الغازها بغية تجاوز تداعيات أزمة «اقتصاد الكازينو».
عند هذا السفح يبدو أمام الدولتين أفقاً ضبابياً إذ لديهما اقتصاد غير قابل للصرف في سوق العولمة، نفط محدود وزراعة معطلة. الحقيقة الوحيدة المتجلية في ظل الانقسام تتجسد في تعطيله عملية النهوض الاجتماعي اذ تبدو في الدولتين وهماً.
الآن يواجه الشمال مهمة إعادة بناء قطاع الزراعة بكل أعبائه المتجسدة في قصور بناه التحتية وتدهور بيئته الانتاجية. فمع إهمالنا الفادح لقطاع الزراعة فشلنا فشـلاً ذريعاً في تخليق بدائل انتاجية تفرز أرصدة مريحة أو فرص عمل جديدة.
الاحتياط النفطي يشكل ضماناً مطمئناً لكن ليس بالنفط وحده تنهض الدول. نمور شرق آسيا حققت طفرات عجزت دونها دول نفطية. عائدات صنبور النفط عندنا لم تتجاوز شريحة فوقية محدودة ومن ثم ظلت الطبقات الاجتماعية الدنيا تكابد الفقر والمرض والجهل والمعاناة.
النهوض بقطاع الزراعة وهو البديل الوحيد المتاح لن يتحقق في غياب حكم رشيد يستهدف اصلاحات مؤسسية. رشد الحكم لايهتم بالحديث عن عمليات ووعود بل يركز على الوصول إلى نتائج ايجابية لتلك العمليات والوعود. كما أن «الديمقراطية تمثل نوعاً رئيسياً من المؤسسات التي يسعى جدول أعمال الاصلاحات التي يقتضي الحكم الرشيد إقامتها» كما يقول تقرير «اونكتاد» ذلك أن الديمقراطية هي «السبيل الوحيد لضمان اخضاع سياسات وممارسات الحكم للمراقبة والتدقيق بصورة منتظمة من قبل الجماهير». كما يقول تقرير المنظمة الاممية.
السودان لا يدخل بالانقسام الجمهورية الثانية كما دار جدل في وقت سابق ما لم يعد نظام الحكم على نسق رشيد كما أضاء تقرير «أونكتاد». الثابت في الخارطة السياسية حالياً ولوج الوطن طور تخليق جديد. خارطة السودان في الأطلس السياسي باتت مغايرة للمألوف.
في السودان الثاني على الأطلس السياسي خارطة تبدو للنظرة الأولى وكأنها قد تم اجتزاؤها على نهج القصابين. هذه خارطة سودان جديد لم نألفها في مساقاتنا المدرسية. أو يألفها بصرنا أو هي عالقة في بصيرتنا.
كأنما لم تستوعب درس التاريخ والسياسة بدأ الحديث عن السودان الجديد بدستور جديد. ما يطفو على السطح في هذا السياق لا يبشر برهان على منظومة حكم رشيد. الأكثر جدوى للشعب تركيز الحديث عن تحديث مفهوم الدولة الإنمائية على نحو يذهب لجهة الحد من الفقر والجوع وبناء القدرات الانتاجية في سوداننا الجديد.
مع انتشار مساحات وبؤر الفقر والجوع يصعب وربما يستحيل توفير الأمن والاستقرار. نظرة خاطفة على خارطة العالم تؤكد أن الموت يحصد ضحاياه بكثافة حيث الفقر والجوع. نظرة متأملة كذلك نكشف تفشي عدم الاستقرار حيث يستفحل التطرف في اشكاله المتنوعة.
عشية الانقسام نكتشف أكثر ألغام نيفاشا خطورة يكمن في المسألة الحدودية. تحريك الحدود عملية لم تؤمن السلام مطلقاً في العديد من أرجاء العالم عبر التاريخ. عمر اتفاقية السلام نفد ولما تنقضي سنوات الجمر. السودان يحتاج في الشمال والجنوب إلى سلام حقيقي للنهوض من تحت ركام الدولة الفاشلة.
aloomar@gmail.com

 

آراء