آلية حمدوك كعَرَض لمرض!

 


 

 

abdullahaliabdullah1424@gmail.com

بسم الله الرحمن الرحيم
بعد مرور عامين علي حكومة الفترة الانتقالية، يكاد يكون هنالك انطباع عام فحواه، ان ما انجزته الثورة من شعارات، لا يكاد يتعدي ازاحة رموز الانقاذ عن سدة السلطة، والحلول محلها برموز جديدة، قد تختلف من ناحية الشكل واللسان، ولكنها تتطابق مع الانقاذ من حيث الاداء المخيب للآمال، وتعليق الفشل علي شماعات متعددة الاسماء والاغراض. وفي الغالب هنالك سببان لهذه المراوحة في المكان:
اولهما، افتقار حكومة الفترة الانتقالية وعلي راسها حمدوك، لاي تصور او خبرة او قدرة علي التعامل مع دولة محطمة، تعاني آثار ثلاثة عقود من الخراب الممنهج لمؤسساتها والنهب المنظم لمواردها. والحال ان هكذا دولة اقرب نهج يصلح لادارتها، هو ما يختص بادارة الكوارث. اي ايقاف الخراب وهدر الموارد، ومن ثمَّ التخطيط لاعادة التاسيس علي اسس راسخة. وبما ان الكارثة يجسدها في المبتدأ نظام الانقاذ، ككيان ومنظومة عمل ومخرجات، فهذا ما يتطلب رؤية (فلسفة) جديدة تعيد تعريف السلطة وحدودها، المواطن وحقوقه، الدولة ووظيفتها. مع العلم ان وجود هكذا رؤية، يسهل ايجاد الوسائل لتنفيذها، وامكانية التغلب علي صعوبات انزالها علي ارض الواقع، اي يمنح صلابة الارادة كقوة دافعة، وقبلها الجدية في ايقاف عجلة الخراب.
ثانيهما، الانقاذ بخلفية نظامها الاسلاموي، اي كتصور شمولي يخلط بين العقيدة والسياسة، السلطة والدولة، الواقع والاوهام، الماضي والحاضر، الدنيا والآخرة، وذلك لمنح الرغبات مهما كانت درجة شذوذها وانحرافها مسوغات شرعية، غض النظر عن المشروعية. والنتيجة، تحولت السلطة الي تسلط وحشي وارهاب ديني علي الشعب، والدولة باجهزتها ومؤسساتها الي وسيلة ثراء وتكسب مجاني وآلية ارتقاء اجتماعي للمناصرين، عوض ان تخدم الدولة الشعب ويبرر الثراء الانتاج. وهنا تحديدا يكمن اختلاف النظام الاسلاموي عن غيره من الانظمة الشمولية، من حيث ان موارده اصلها ريعية، وهذا ليس بالتفصيل الساهل ولكنه يعبر من جهة، عن طبيعة الاستسهال التي تتعامل بها الانظمة الاسلاموية مع قضايا مصيرية، بل ومصير امة ومستقبل اجيال وصولا لهدر الحياة نفسها! ومن جهة، افرز ذلك الثقافة الطفيلية، ليس علي مستوي الحصول علي المال واكتنازه بالتدابير السلطوية، ولكن تعدي ذلك للمنهل الفكري/التنظيمي/الشرعي (السطو علي التراث)، ليُكرس ذلك في النهاية، كنمط عمل واسلوب تعامل ومعيار قيم.
وما يهمنا في هذا المقام، ان الانقاذ ربطت بين جهاز الدولة ومصالح النافذين فيه، علي كافة مستويات هذا الجهاز، بل زادت عليه ان استحدثت مسميات وكيانات جديدة، اكثر كفاءة ونفاذية في نهب الموارد العامة بمسوغات قانونية، كشركات الجيش والامن والسدود والكهرباء والمعادن ...الخ. وبما في ذلك، بل علي راس ذلك، تقسيم الدولة لعدد مهول من الولايات وعلي راسها حكومات بكافة المخصصات.
والحال كذلك، تصبح خلاصة منظومة الانقاذ التي انتجها فكر الترابي، هي نوع من السيطرة الفردية علي السلطة، وتقاسم مؤسسات الدولة مواردها بين الانصار والمؤيدين، علي طريقة الحماية مقابل الاستباحة. وهذه الوصفة التي تنطلق من الذات الي الفضاء العام، او تشكيل الفضاء العام بما يتطابق والطموحات الشخصية، مجسدة في شهوة عراب النظام الترابي، افضت لصراع داخلي حسم باقصاء الترابي نفسه، كحلقة اضعف في صراع الذوات الفردية، اي كصراع يبيح استخدام كل الوسائل لعدم تقيُّده بمبادئ او قضايا جوهرية. واختتم بازاحة رموز الانقاذ بعد ان دخل الشعب المغبون كفاعل مؤثر في حسم الصراع.
وبعد ذهاب البشير ورموز النظام، بقيت المنظومة بذات آلية اشتغالها، مع حلول البرهان وجيشه وحميدتي ودعمه محل البشير الشاغر! اي كأن الثورة وبدل ان تغير قوانيين اللعبة، لتصب في خانة انفاذ شعاراتها، تغيرت هي (عبر ممثليها المزيفين) لتندرج في قوانين لعبة النظام!
المهم، في ظل هذه الوضعية التي افرزتها الثورة بدخول الشعب كطرف في المعادلة، وخوفا من حدوث هزة عنيفة تعيد انتاج زلزال الثورة، او اعادة انتاج النظام السوري بالدخول في حرب مفتوحة ضد الشعب، وتاليا تعريض امتيازات اللجنة الامنية والدولة العميقة للخطر. تم الوصول لتسوية الوثيقة الدستورية، كتهدئة تسمح باستقرار الاوضاع، وفي ذات الوقت ومن خلف الكواليس وعبر التوافق الاقليمي والدولي، تم الوصول لمعادلة الشراكة، واختير لها بذكاء يشبه خبث ومكر المخططات الخارجية، حمدوك كقائد للشق المدني من الشراكة، لانه من جهة، مصدر ثقة للمجتمع الدولي، ومن ثمَّ هو الاقدر علي تمرير اجندته! ومن جهة، كوجه غير معروف جماهيرا، وتاليا يسهل تلميعه واضفاء كل صفات القائد المُخًلص عليه! ومن جهة، تم الاستثمار في واقعة رفضه منصب وزير المالية علي اواخر عهد الساقط البشير، الذي اختاره كمدخل للنظام المتهالك علي الغرب، وهي واقعة من المفترض ان تسئ له اكثر مما تضيف، كما داب انصاره علي التفاخر بها، لانها تؤكد ان هنالك صلات بينه والاسلامين، وهذه لوحدها كافية لنبذه من اي قائمة خيارات! لانه معلوم ان أي صلة (ولو رحم) مع الاسلامين، هي مسبة تستدعي التوبة والاستغفار. وكدلالة علي ان هذا التلميع ممنهج لغايات في نفس رعاة الاتفاق، هو عينه السيناريو الذي انطبق علي مسرحية نزول البرهان الي ساحة الاعتصام، كعسكري غير معروف جماهيريا، ويحتاج للدعم والتاييد، للعب ادوار مقبلة، كانت مجهولة في حينها! (سؤال اعتراضي لماذا بعد مرور اكثر من عامين علي ملابسات ازاحة ابنعوف وحلول البرهان مكانه لم ترشح اي تفصيلات عن سهولة تلك الازاحة؟)
ومع انضمام جوقة الهبوط الناعم بشقيها السياسي والعسكري الي هذه المسرحية المفتعلة، اكتملت مخططات حصار الثورة، وقطع الطريق علي احلامها ووعودها، في رد الحقوق للمواطن و الاعتبار للدولة، وذلك من خلال العمل بكافة الوسائل للرجوع للمربع الاول، حيث يقيم اقصاء الشعب من التحكم في مصيره، والذي أُوكل كالعادة لنخبة صغيرة يتلاعب بها الخارج.
وما يهمنا من هذا السرد، ان حمدوك وحكومته لا يسعيان لتميكن الثورة، باعادة تشكيل المشهد بما يتسق وشعارتها، ولو في الحد الادني، والسبب انهما لا يمتان للثورة بصلة لا من قريب او بعيد، بل هم علي الارجح يمثلان توازنات ومصالح قوي داخلية وخارجية، فاعلة في المشهد السياسي، وكل يلعب لصالحه، وهو ما يتمظهر في غياب او تحديد الجهة التي تقود الدولة بوضوح! وهذا ما جعل المشهد الضبابي في غاية السُريالية، وكأن هنالك عدة دول تتصارع داخل الدولة، منها دولة البرهان/الجيش/الاستخبارات التي تراهن علي بقاء الاوضاع علي حالها، ودولة حميدتي/الحركات المسلحة التي تسعي لاعادة انتاج المشهد بتحكم عرقيات وجهات محددة، ودولة حمدوك/مستشاريه، التي تمثل القوي الغربية بتصوراتها وتوجهاتها في اعادة صياغة المشهد بما يلبي مصالحها. ولكن نسبة لافتقار حمدوك الكارزمة والقدرة علي الاقناع (وهذ سبب هروبه من مواجهة الجمهور) وقبل ذلك أي برامج يخدم خط الثورة، بل تسبب بادائه الضعيف المرتبك في ضياع جل مكتسبات الثورة، والتي للمفارقة كان في امكانها خدمة اجندته الخاصة التي يتكتم عليها! المهم، في ظل غياب رؤية واضحة وخسارته لاهم داعمين (معظم الثوار) خوفا من تعارض مطالبهم، مع اجندته الخاصة كما يعتقد! لم يتبقَ له إلا مهادنة اصحاب الشوكة (مكونات اللجنة الامنية) والخضوع لقانون بقاء الحال كما هو عليه، طالما ليس هنالك ارادة حقيقية لتغييره. وهو قانون للاسف طال كل شئ، من بقاء ذات مؤسسات الدولة واجهزتها، وبما في ذلك الاجسام والكيانات الهلامية الناهبة للدولة، مرورا بقوانين النظام السابق ونهج ادارته للدولة، وصولا للابقاء علي نظام الولايات بحكوماته المكلفة، رغم احوال البلاد الاقتصادية المتردية! وكأن الخلاف مع الانقاذ حول الاشخاص المتنفذين وليس المنظومة ككل. والحال كذلك، ربما وجود نظام عدمي كالانقاذ، بل وتمكنه من رقبة البلاد لمدة ثلاثة عقود كالحة، يشير بشكل او آخر الي علة جوهرية في المنظومة السياسية بمجملها، بحسبانه لم ياتِ ويتمدد من فراغ! وهذا ما يفسر بدوره لماذا ليس هنالك فوارق معنوية، بين رموز الانقاذ وقادة الطبقة السياسية الناشطة في الساحة الآن، خصوصا عندما تتعرض للاختبار العملي؟ بمعني آخر، السلطة هي من تُشكل السياسي وتتحكم به، وتاليا تجبره علي الاستجابة لاكراهاتها، وليس السياسي هو من يوظف السلطة في خدمة مشروعه بصورة طوعية؟! ولذلك ثقافة الاستقالة هي من المستحيل التفكير فيه او الاقدام عليه، لكل من وضع نفسه كمعادل للسلطة.
اما ما يهم حمدوك، فهو شراء الولاء لا غير، سواء من جانب موظفي الدولة، او انصار الحكومة بمختلف تشكيلاتهم، وعلي الاخص جماعة الهبوط الناعم بشقيه المسلح والمدني، مع الابقاء علي شعرة معاوية سواء مع اللجنة الامنية او قوي الثورة الحية. وكما سلف ونسبة لضعف خبرته السياسية وشخصيته البراغماتية، والاهم لعدم توافره علي رؤية او مشروع للعبور كما يردد دون كلل او ملل، وذلك بالتوازي مع صعوبة ادارة مراحل الانتقال، وحاجتها للتوافق السياسي في ظروف تنافر (بحث عن المصالح المتضاربة) بين مختلف المكونات. كل ذلك اجبر حمدوك (الطامح من غير مؤهلات سياسية او قيادية) علي متابعة الانقاذ وقع الحافر! وذلك ليس علي مستوي الاداء السياسي الارتجالي والاقتصادي الذي يضع عبء المعالجة (التجربة/الخطاء ) علي كاهل المواطن، ولكن الاسوأ من ذلك علي مستوي خواء الافكار والاطروحات (تجريب ذات المجرب المعطوب) من شاكلة المبادرات والآليات العاطفية، بمسوحها ذات النزعة القومية، مع استظهار نوايا الحرص علي مصالح البلاد، لزوم ذر الرماد في العيون، وكل ذلك بقصد شراء الوقت والهروب الي الامام، من مواجهة قضايا حقيقية واستحقاقات ملزمة.
لانه وكما اشار الكثيرون ان وظيفة حمدوك الاساسية، هي تنفيذ بنود الوثيقة الدستورية، والعبور بالفترة الانتقالية، الي منصة التاسيس للدولة الحديثة والنهج الديمقراطي. ولكن كل الشواهد تشير الي انحراف حمدوك عن الهدف الاساس، والشروع في بناء مشروعه الخاص، عبر الخضوع لارادة القوي الغربية، وتوظيف كل الظروف والادوات لمواجهة مكونات اللجنة الامنية التي تنافسه علي السلطة، وتملك من ادوات المنافسة الكثير. والسؤال الذي يفرض نفسه والحال هذه، هب ان السلطة بكامل صولجانها اتته تجرجر بهرجتها وبروتكولاتها الرئاسية، ماذا تفعل بها شخصية سلبية باهتة تفتقد لكل مقومات وكارزمة القيادة كحمدوك، سوي ممارسة دكتاتورية ناعمة، يطربها فقط سماع نغمة شكرا حمدوك، ولو من شفاه اضناها الجوع ونفوس اهلكتها الكآبة.
واخيرا
كم اسعدني ما لاقاه الكاتب الكبير فتحي الضو من استقبال يليق بجلالته. ومن قًبل ذات الشئ استحقاه دكتور حيدر ابراهيم والاستاذ فضيلي جماع وغيرهم من الذين صدقو ما عاهدو الشعب وثورته عليه. فبادلهم الشعب وثواره الوفاء بوفاء. اما مصدر الاطمئنان فهو ان النقاء الثوري الذي يسم الثوار، يمنحهم البصيرة لمعرفة، الانصار الحقيقيون للثورات من الانصار المزيفين، الذين يتاجرون بكل شئ، بدءً من السياسة وليس انتهاءً بدماء الشهداء، من اجل السلطة وامتيازاتها! شكرا للثورة كمختبر لفحص السيرة وكشف النوايا وامتحان الشعارات. ودمتم في رعاية الله.

 

آراء