أحفاد جهينة ودينكا نقوق وأبيي … بقلم: عبد الجبار محمود دوسه

 


 

 



هل كُتِب على الغجر وعرب دارفور ومسيرية كردفان والأمبرورو أن يعيشوا حياة الترحال إلى الأبد؟. منذ عشرات السنين وهذه المجموعات خاضعة لسلطان الترحال وراء الماشية، وإن كان ترحال الغجر لغير ذات الهدف. أجيال منذ ميلادها وحتى مغادرتها لهذه الدنيا يمتهنون هذه المهنة التي مهما بحثت بعمق في حجم الفائدة التي يجنونها من ورائها، لوجدت أن نصيبهم فيها أدنى بكثير من نصيب الآخرين المفائدين بها.
العرب في غرب السودان، تعود أصولهم كما يقول المؤرّخون والنسابون إلى (جهينة)، وجهينة التي اصلها في منطقة الحجاز في الجزيرة العربية، تخلّت منذ قرون عن مهنة الترحال وراء الأغنام والماشية، واستبدلت أجيالها المعاصرة تلك المعاناة بمهن حصدوا من ورائها الرفاه في ظل الإستقرار. لعل أقرب الأمثلة الحية لذلك هي الطفرة الإنمائية التي تنتظم الخليج العربي، وإذا كان أحفاد جهينة وغيرهم من العرب في السعودية قد أنشأوا أكبر مزرعة متكاملة لتربية الأبقار في الشرق الأوسط على الطريق بين مدينة (الرياض) ومدينة (الخرج) السعوديتين، وهي مزرعة شركة (المراعي) للألبان والتي تضم 45 ألف بقرة حلوب، يجب أن يعرف القاريء بأن البقرة الواحدة منها تأكل ما يزيد على عشرين مرة ما تأكله بقرة عرب غرب السودان، بينما تدر من الألبان في اليوم ما يزيد على 20 ضعفاً أيضاً مقارنة بأبقار غرب السودان، تدر تلك الابقار 1.6 مليون لتر من الألبان يومياً لا تهاجر تلك الأبقار آلاف الكيلومترات من أجل المراعي والماء، ولا تُقلق آلاف الأسر في ترحالها ولا تُعذّب معها النساء والأطفال والشيوخ وتأخذ منهم العمر كله، ولا تكون يوماً طرفاً في أي نزاع لوجودها وإنما فقط تنتشر في مساحة لا تزيد على ثلاثين كلم مربع، يأتيها عيشها رغداً من نهج إداري قائم على العلم والمعرفة، ويستمتع مالكوها بريعها وبحياتهم.
لكن عندنا في السودان من أبناء هذه القبائل من يريد أن يهرب من واقع الحقائق فيقول لك أن الترحال عند عرب غرب السودان والغجر والأمبرورو تراث وثقافة وإرث وتقاليد وما إلى ذلك من الأحاديث التي مهما احترمناها إلا انها ترسّخ لمضمون إبقاء هذه المجموعات أسيرة لهذا الواقع الأليم. إذا كان الترحال إرثاً فهذا يعني أن العرب في الجزيرة العربية والعراق وسوريا والأردن وفلسطين ولبنان وليبيا وتونس والمغرب ومصر والجزائر وموريتانيا هم أصل هذا الإرث، لكنهم تخلّوا عنه بعد ما أدركوا أنه من الإرث المُقعِد للقدرات والمُقيّد للجهود والكابت للطاقات، واستبدلوه بأحسن منه وفجّروا طاقاتهم نحو الأفضل ولصالح مجتمعاتهم. بل أن بقية العرب في السودان ومنه الزبيدية والرشايدة والشكرية والحسانية والبطاحين والكواهلة وغيرهم من غاوونهم أيضاً نزعوا عن عباءتهم هذا الإرث لأنه يقيدهم ويستعبدهم. كثير من القبائل الرعوية غير العربية مثل الزغاوه والبيجه والدينكا والنوير والفلاته والتي تربّي الماشية أيضاً فضّلت الإستقرار رغم أنها لم تبلور بعد نهجاً أفضل في إستقرارها، وبالطبع لا يعني الإستقرار هو التخلي عن تربية الماشية.
أنا هنا لا أحمّل هذه القبائل وزر عجزها عن الفكاك من قيد الترحال، لأن ذلك من مسئولية الدولة في المقام الأول، وأن دور هذه القبائل في ذلك العجز ضئيل جداً، لكن الواقع أن الدولة السودانية على مر العهود لم تفعل ما ينبغي أن تفعله في هذا الإتجاه لتمكين هذه القبائل من تفجير طاقاتها نحو الأفضل. لم يكن هناك سوى مشروع (غزاله جاوزت) الذي سرعان ما ألقت به في غياهب النسيان حكومات ما بعد أكتوبر 64 وأضحت أثراً بعد عين. لا بد من وقفة تأمل لنخب هذه القبائل لمراجعة واقع مجتمعاتها بشيء من العقلانية والمنطق وواقع الحال، وأن يأخذوا بتجارب أحفاد جهينة في الدول العربية، وهي تجارب ناجحة بلا شك، لا يعني هذا أن هذه النخب فقط معنية بالتأمل، أنا فقط أشير إلى جزئية الخصوصية من عموم النداء .
لا تغيب الذاكرة عن هوس حكومة الإنقاذ في تصفية الآخر في مستهل إستيلائها على السلطة ومنها شنّها حملاتها على الجنوب تحت شعار الجهاد والجهاد منها براء، واتخذت من الدين مطية والدين منها حل. فقد استنفرت الآلاف من الشباب السوداني في تلك الحملات، ولا شك من بين عرب غرب السودان من كان أيضاً مستجيباً لتلك الإستنفارات ومشاركاً في تلك الحملات والتي تنصّلت منها حكومة المؤتمر الوطني فيما بعد، لكن بعد أن فقد الوطن الملايين من الأرواح. أعداد ليست بالقليلة من أبناء عرب غرب السودان أيضاً كانوا ضمن تلك الأرواح المفقودة، لكن لا أحد يستطيع أن يجيبك عن أي مزايا إيجابية لتلك الحملات، كانت عاراً عارياً. لقد أكدت تلك الحملات وغيرها بأننا أهل الهامش أعواد ثقابنا سهلة الإشعال ومشاعرنا رهيفة وحساسة للإستثارة، ورشدنا ينقاد ولا يقود، وهو أمر محزن ولكن مجرد الحزن لا يزيل الطامة.
بالأمس القريب وقّعت حكومة قيادة الإنقاذ على إتفاقية نيفاشا لضمان بقائها في السلطة وثبت صحة ذلك من ممارساتها خلال تطبيق الإتفاقية، إرتضت حكومة قيادة الإنقاذ بالتحكيم لمعالجة النزاع في أبيي وأيضاً لمصالحها وليس لأجل المسيرية. اليوم أرى أن الحكومة وبعد أن استخدمت بعض عرب غرب السودان في حرب الجنوب، تريد أن تستخدمهم مرة أخرى عند الإستفتاء وقوداً لنار تُشعلها في شتاء يناير 2011 م لتستدفيء هي في الخرطوم وتسترخي على أنغام طبول الحرب. رغم أنني على قناعة بأنها بصمت بالعشرة للمجتمع الدولي (أمريكا) على ضمان قيام الإستفتاء في موعده ودون أي عراقيل لان ذلك استيفاءاً لإستحقاقات إلتزام المجتمع الدولي بأنه سيقبل بنتائج الإنتخابات التي صممتها ونفذتها قيادة الإنقاذ وفق ما تريد وهو ما حدث.
يجب أن يدرك النخب من أبناء المسيرية بأن معركة المسيرية ليس في أن يكونوا وقوداً لنار يشعلها غيرهم، ولا في الحفاظ على إرث الترحال المُقعِد للطاقات ومقبرة الأجيال التي كان من المفترض أن تساهم في بناء مجتمعات متطورة ودولة راسخة يساهمون في قرارها ومصيرها. إن معركتهم أيضاً ليست مع دينكا نقوق، معركتهم الحقيقية هي مع الجهل الذي غيّب العلم عن الأجيال ومع المرض الذي أنهك الأجساد ومع الفقر الذي خيّم على كل أفراد المجتمع، ومع الحروب الدائمة، هذه المنظومة الدائمة التي جعلت أطفال المسيرية يقضون طفولتهم وشبيبتهم وصباهم وشبابيتهم وشيبتهم وهم يفترشون الأرض ويلتحفون السماء ويكابدون كل ويلات الترحال وفوق ذلك كله يشكّلون طابوراً جاهزاً طائعاً من المقاتلين يوجههم الحاكمون في الخرطوم أينما شاءوا ومتى أرادوا، فإذا ما انقضت الحرب حصد الحاكمون الحبوب والثمار اليانعة وأطعموهم النخالة والصيص وتركوهم يبكون موتاهم ويلعقون جراحهم، ليس من أجل هذا خُلق المسيرية، بيد أنه سيكون أكثر سخرية أن يتجاوز البعض كل هذه الحقائق ليردّوا على مقالي هذا قائلين (أترك مشاكل المسيرية لأهلها) أكون سعيداً على الأقل لأنه حينها يعترفون بأن هنالك مشكلة تحتاج إلى معالجة.
المسيرية سريعوا الإنسجام مع كل المجتمعات التي تجاورهم أو تشاركهم السُكنى، ومع ذلك يجب أن يدركوا وأحسب ذلك بأن حقوقهم كمواطنين في السودان والتي غيّبوا عنها، هي في السلطة والثروة، ولا يمكن اختزالها في نزاعات الأرض في منطقة أبيي فقط، تلك مجرّد (مُشيكلة) يستطيعون بينهم وبين دينكا نقوق أن يعالجوها على أحسن ما يكون، المسيرية وهم من جهينة فإن حقوقهم في الأرض في الجزيرة العربية حيث الأصل أيضاً لا تسقط بتقادم الغياب، لكن الدعوة إلى إشغالهم بمثل هذه الفرضية تبدوا عبثية الجدال وساخرة المآل وعديمة الفائدة. من هنا فإن من يدعوا المسيرية إلى قتال كل مَن يمنعهم التصويت في استفتاء أبيي فإنما يدعوهم إلى قتال حكومة قيادة الإنقاذ لأنها هي التي منعتهم، فهي التي صممت إتفاقية نيفاشا وهي التي نقلت الأزيمة إلى التحكيم، وهي التي ارتضت بنتائج التحكيم وهي التي فصّلت قانون الإستفتاء، وأخيراً تريد المسيرية أن يكونوا مخلب قط ليدفعوا ثمن أخطائها، من ينادي المسيرية إلى هذا المستنقع هو من يريد أن يدفنهم فيه.
يجب أن يعلم المسيرية بأن الأصل هو البحث في كيفية الإستفادة من الخيرات التي تتواجد في ارضهم، لقد تم إستخراج البترول في المجلد وما زال المسيرية في ترحالهم خلف ماشيتهم بينما تطورت مناطق أخرى بأموال البترول وشيّدت بها قصور واغتنى كثيرون فيما يبقى المسيرية جاهزون للحرب والحماية، هذا مدهش حقاً. إذا كانت الحرب سابقاً بين المسيرية ودينكا نقوق، فهي لن تكون كذلك إذا اندلعت مرة أخرى لا قدر الله لأن إستقراءات الأحداث تدل على أن أهداف القوى الكبرى (أمريكأ) قد أصبحت قريبة جداً من حيث يتواجد المسيرية ودينكا نقوق، ولا يخفى على أحد أن البترول بالنسبة لأمريكا تماماً كمياه النيل بالنسبة لمصر، أي هو حياتها، وليس بعيداً ما فعلته أمريكا في العراق، وقد كان وما زال ذلك من أجل البترول فقط وليس لأي شيء آخر كما يتوهم البعض. إذا أعتقد المسيرية بأنهم على استعداد لمحاربة أمريكا ذلك أمر كفيل بنا أن نصحهم بعدم القدوم إليه أو مجرد التفكير فيه، لأنها حرب للشجاعة فيها أي عود، وأمريكا المعاصرة قد خسرت 78 ألف قتيل في حرب فيتنام، إلا أن ذلك لم يمنعها من دخول حرب العراق وأفغانستان، وتسعى الدخول في اليمن، وليس بالطبع ما يمنعها أن تدخل في أبيي والمجلد وغيرها، وكله تحت حجة حماية مصالحها، وهم يحسبون مصالحهم بالكمبيوتر لمائة عام قادمة وليس كما نحسب نحن مصالحنا لليوم بالإنسياق خلف عواطفنا. كما لا ينبغي أن يعتقد البعض بأنها دعوة للإستسلام، هي ليست كذلك وإنما هي همسة للإحتكام إلى الرشد والحكمة.
بعد خمسين عاماً وأكثر من الإستقلال لا ينبغي أن يبقى المسيرية بنفس التفكير، لقد رحّلت الدولة السودانية عشرات الآلاف من سكان منطقة حلفا القديمة وأسكنتهم على بعد أكثر من ألف كلم من منطقتهم الأصلية، وهيأت لهم كل شيء، مساكن جديدة وخدمات ومشاريع زراعية وكل إحتياجات الإستقرار دون أن يكون هناك أي إحتكاك مع القبائل الأصلية التي تسكن تلك الارض. إذا كانت الدولة حريصة على المسيرية ممن سيكونون على الجانب الآخر من الحدود وفق الترسيم وفي حال كانت نتائج الإستفتاء الإنفصال، أن تنقلهم وتعيد توطينهم في الأراضي المروية الشاسعة بين النيلين فهم أولى ممن تريد بيعها لهم، وأن توطّنهم على ضفاف نهر النيل وتهيء لهم من المساكن والخدمات والمراعي التي لن ينقطع عنها العشب المخضر، ولن تبقى الأجيال حبيسة الجهل لأنها ستجد التعليم، ولن يفتك المرض بهم لأن المؤسسات الطبية قريبة، ولن يحتاج المسيرية الترحال بتوفر الكلأ والماء. ومن ثم يطورون نهج الإستفادة من ماشيتهم ويحسّنونها. حينها فقط يمكن للمسيرية أن ينعتقوا من أن يكونوا وقوداً لنيران يشعلها غيرهم ليبقى بعيداً في الخرطوم محتسياً نخب إشعالها ومستدفئاً بدفئها. حينها فقط يشارك المسيرية في الإستمتاع بالسلطة والثروة وبخيرات أرض المليون ميل مربع على قدم وساق مع دينكا نقوق وليس فقط أبيي.

2/10/2010
 
Abdul Jabbar Dosa [jabdosa@yahoo.com]

 

آراء