أحمد إبراهيم دريج: هل كان اختيار عبد الخالق محجوب ليمثل الصادق المهدي في وزارة انقلاب مايو؟

 


 

 

 



أردت من تجديد النظر في موقف الحزب الشيوعي من ضربة الجزيرة أبا في مارس 1970 ردها للتاريخ. وأعني بذلك أن نجيل النظر في أسبابها وقواها وأدوارها فيها ومساراتها. فقد أفرغها الإسلاميون من هذه الديناميكية لتكون حجة كائدة على الشيوعيين الذين قتلوا الأنصار في أبا بدون وازع. ولم يُقصر الشيوعيون من جهتهم في نزع التاريخ عن ضربة أبا بإنكار دورهم فيها جزافاً غير عابئين بالدليل القائم على ذلك الدور. ولما راحت الواقعة بين أرجل الإسلاميين والشيوعيين صار الأنصار مجرد عظمة نزاع لا جماعة تغلغلت جراح تلك الأيام من مارس 1970 في روحها وعلى جسدها.
أعود في مطلبي من رد واقعة أبا إلى التاريخ إلى ذاكرة أخرى عنا معشر الشيوعيين والأنصار. وهي ذاكرة من صراعنا في الحزب الشيوعي بين من وصفوا ما جرى في 25 مايو 1969 ب"الانقلاب" وبين من وصفوه ب"الثورة". وكان أستاذنا عبد الخالق محجوب دمغ ما جرى في ذلك اليوم بالانقلاب في حين هش له جماعة فيهم أحمد سليمان ومعاوية إبراهيم وسموه "ثورة". وهذا خلاف عظيم بين شيوعيين لسنا في موضع تفصيله هنا. ولا نزيد هنا عن قولنا إن من آيات خطره أن وقع من جرائه انقسام في الحزب في أغسطس 1970 هو الأوسع منذ قيامة في 1946.
والذاكرة التي هي موضوع هذا المقال هو اتهام تداوله الشيوعيون من جناح أحمد سليمان لعبد الخالق مفاده أنه تعاقد مع السيد الصادق المهدي في حلف سبق انقلاب مايو 1969 وأعقبه. وكانت عقيدتهم بالطبع إن تلك مضاجعة غير شرعية من سكرتيرهم العام مع اليمين الرجعي. وذكروا وقائع بعينها عن هذا الحلف كما سترد سبقت الانقلاب وتلته. وأذكر أنني كتبت مرة بعد أخرى للسيد الصادق المهدي استجليه صدق هذا الزعم من خصوم عبد الخالق وتفاصيله. ويؤسفني أنني لم أتلق منه بعد ما يروي ظمأ التاريخ فيّ. ولكنني شاهد على الأقل كما سيرد على حدوث مثل تلك العلاقة (إن لم تكن حلفاً) بعد الانقلاب سعى فيها عبد الخالق محجوب ليجد للصادق تمثيلاً في دولة الانقلاب. وكان الصادق وقتها قد عاد من جزيرة أبا بغير رضا الإمام الهادي ليدخل في مفاوضات مع النظام الجديد انتهت باعتقاله. وما وقعت واقعة أبا حتى جرى استبعاد رفيقي الحلف المزعوم، الصادق وعبد الخالق، بطائرة واحدة إلى مصر.
ولما لم اتلق رواية الصادق عن المساعي التي جرى اتهام عبد الخالق بها من خصومه سأعرض للاتهام كما ورد في وثيقة جناح أحمد سليمان ومعاوية إبراهيم التي حملت موقفهم من الانقلاب، وعُرضت على عضوية الحزب في مقابل وثيقة مناوئة لعبد الخالق محجوب. وعرضوا الوثيقتين على المؤتمر التداولي لكادر الحزب في أغسطس 1970 لحسم الخلاف حول تكتيكات الحزب حيال نظام 25 مايو. ونشر الوثيقة، ضمن وثائق الحزب الأخرى، الصحفي اللبناني فؤاد مطر في كتابه "الحزب الشيوعي نحروه أم انتحر" (1971 صفحات 197-265).
وصفت وثيقة أحمد سليمان (منعت نفسي من قولي "الانقساميين" كما كان يحلو لنا) مصاب بالاتجاهات اليمينية. فأقام في الأعوام التي سبقت انقلاب 25 مايو (يسمونها ثورة بالطبع) تحالفاً سرياً من وراء ظهر الحزب مع الصادق المهدي. وجرؤ عبد الخالق على ذلك على ضوء تحليله بأن الصادق قوة جديدة تقدمية في حزب الأمة. ومُصاب عبد الخالق باليمينية في قولهم قديم منذ صدور كتابه "آفاق جديدة" (1956). ولم يكتف عبد الخالق في قولهم بتحالفه مع الصادق بل امتد به إلى محمد يوسف محمد ومحمد صالح عمر وجعفر شيخ إدريس وصادق عبد الله عبد الماجد من الإخوان المسلمين. وكان يجتمع به للتنسيق (ووضعوها بين أهلة) كما شمل حتى وليم دينق السياسي الجنوبي زعيم حزب سانو. وكان سانو طرفاً في حلف جمعه بالصادق المهدي والإخوان المسلمين اسمه "القوى الجديدة".
وعرض تقرير جماعة معاوية بيناتهم على عبد الخالق اليميني كما يلي.
أولاً: حار عبد الحالق جوابا ووزير الداخلية، فاروق حمد الله، يكشف عن طلبه من نظام مايو إعطاء اعتبار خاص للصادق في التكوين الحكومي الجديد. وكان ذلك في اجتماع للمصارحة في 18 سبتمبر 1971 دعا له وزير الداخلية كادر الحزب الشيوعي أول ما بدأ الاحتكاك الخشن بين الحزب والنظام. وقال تقرير جماعة معاوية أن ذلك الكشف أفحم عبد الخالق فرد على جملة مآخذ فاروق إلا عن كشفه لذلك التواطؤ مع الصادق. وترك ذلك غلالة من الأسئلة حول موقفه لم يجب عنها إلى يوم المسلمين ذاك.
ثانياً: وجرت مواجهة أخرى لعبد الخالق حول مسألة تحالفه مع الصادق. وكان فاروق أبو عيسي، وزير شؤون مجلس الوزراء، من أثارها خلال اجتماع موسع للجنة المركزية للحزب. وأخطأت الوثيقة وقالت بإثارته في اجتماع الكادر التداولي (21 أغسطس 1970). وكان عبد الخالق وقت انعقاد المؤتمر التداولي مبعداً في القاهرة. وكان لي شرف حصور ذلك الاجتماع ضمن كادر الحزب الذي شمل فاروق نفسه الذي لم يكن عضواً مركزياً. فقال فاروق إن عبد الخالق اعترض على اعتقال الصادق بعد انقلاب (ثورة) مايو بل وطلب منه أن يرشح أحمد إبراهيم دريج للوزارة ممثلاً للصادق المهدي. وسخر تقرير معاوية من رد عبد الخالق على ذلك التواطؤ فقالوا إنه لم يزد عن قوله في الاجتماع: "وماذا لو دعوت إلى تمثيل الصادق المهدي في الحكومة وإدخال أحمد دريج في الحكومة؟ ألم يدخل الحكومة منصور خالد ومحمود حسيب وآخرون". ولا أذكر أنني سمعت منه اسماء الاثنين ولكن ما أذكره أنه قال ألم يدخل الوزارة موسى المبارك النائب البرلماني عن الاتحادي الديمقراطي. واستعجب رفاق سليمان من رد عبد الخالق قائلين: "تصوروا مثل هذا التبرير الذي يقدمه عبد الخالق لتحالفه مع الصادق".
وثالثاً" وفي موقف ثالث كشف عمر مصطفي المكي، عضو مركزية الحزب ومكتبه السياسي، "معلومات خطيرة" عن تحالف عبد لخالق مع الصادق في دورة اجتماع مركزية الحزب في مارس 1969. وقال التقرير إن عبد الخالق حجبها فلم يُنشر منها حرف في مداولات الاجتماع. ومن تلك المعلومات:
*اجتماعات كان يعقدها بدون علم هيئات الحزب مع الصادق المهدي وعبد الله عبد الرحمن نقد الله وسراج سعيد (نقابي إسلامي) في بداية 1968 رصدها جهاز تأمين الحزب. وكان عبد الخالق حذر محمد أحمد سليمان، مسؤول تأمين الحزب، إلا يتابع تلك الاجتماعات. وقد جرى استبعاد النقابي سراج سعيد لاتهامه بتسريب خبرها لجهاز أمن الحزب.
*التزام عبد الخالق بالوقوف مع الصادق المهدي ونصرته في القضية الدستورية التي رفعها ضد قرار مجلس السيادة برئاسة الزعيم إسماعيل الأزهري بحل الجمعية التأسيسية جزافاً في فبراير 1968. وكان التزامه أن يسعى للقاضي عبد المجيد حسن ليحكم لصالح الصادق. وقالت وثيقة سليمان "يضغط عليه". وكان القاضي اطلع محمد عبده كبج، عضو مركزية الحزب ومسؤول الحزب في عطبرة، ب"ضغط" عبد الخالق.
*إخطار عبد الخالق السيد الصادق صبيحة 25 مايو عدم تأييدهم ل"المغامرة العسكرية"، الانقلاب. وحدثه عن امتناعهم التورط مع "المغامرين" في اية التزامات. وأرسل للصادق من جهة أخرى نسخة من بيان اللجنة المركزية حول الانقلاب الصادر مساء 25 مايو قبل أن يوزع على أعضاء الحزب.
غير خاف أن لوثة الإسلاميين في تذنيب الشيوعين بمقاتل الأنصار في أبا قاصرة كتاريخ. فهي تجريف للتاريخ الذي صفته التعقيد بزحام أدوار صناعه وضحاياه حول معاشهم ومعادهم، وتدافعهم. لقد التاث الإسلاميون حين تعاقدوا على تعقب الشيوعيين دون كل أهل الأدوار الأخرى في هذه المقاتل. ولو اعتنى الإسلاميون بأنفسهم سيرون أنهم لم يكسبوا من انحلال حسهم بالتاريخ. فالإنقاذ مثل لمن اتخذ التاريخ لوثة. ويبرز عبد الخالق في هذه الرواية فاعل في التاريخ أوسع من أن يحيط به سطران مما يلوح بهما الإسلاميون آناء الليل والنهار. ويبرز كذلك أعقد مما يريد له الحزب الشيوعي الحالي الذي "يتضارف" عليه بقول غير صادق.


IbrahimA@missouri.edu

 

آراء